لم يقتصر الإسلام بتوصيته في إجراء العدالة على جعلها محدّدة ضمن نطاق ضيق بين أفراد المجتمع الواحد فقط، ولم يتوقف عند حدّ المساواة بين الأخوة والأصدقاء فحسب، ولم يسمح لأيّ نوع من أنواع الامتيازات والاعتبارات أن تأخذ مجراها أمام إجراء القسمة العادلة، حتّى أوصى بإجرائها بحق الأعداء، وفي حال الحرب أيضاً.
قال تعالى: ﴿فإنّ قاتلوكُمْ فاقتُلوهُمْ كذلك جزاء الكافرين﴾.
فالعدالة في حالة إصرار العدو على القتال تقتضي القتال، وغير القتال في هذه الحالة يعني الجبن والذلة والهوان أمام الاستكبار.
قال تعالى: ﴿ومَنْ قُتِلَ مظلوماً فقَدْ جعلْنا لِوَليّهِ سلطاناً فلا يُسْرِفْ في القتل﴾.
تشير هذه الآية إلى العصبية الجاهلية، إذ كانت سنة العرب في الجاهلية هي أنّه حينما يُقتل لقبيلة شخص تصر قبيلته على الانتقام بقتل عدة أشخاص من قبيلة القاتل، ولا تهدأ بقتل القاتل فقط، ففي مقابل هذا التعصب الجاهلي يأمر القرآن ويقول: ﴿فلا يُسْرِف في القتْل﴾ فالعدالة تقتضي القصاص ولكنّها تمنع أيضاً عن الإسراف والانتقام وتحصر حقّ القتل جزاء للقاتل.
أوصى الإمام علي عليه السلام ولديه العزيزين الحسن والحسين عليهما السلام بعد أن ضربه ابن ملجم وجاء في الوصية: (لا تقتلنّ بي إلاّ قاتلي) ثمّ يقول: (فاضربُوهُ ضربةَ بضربةٍ). نعم الإمام علي عليه السلام وهو يأسو جراحه لم يخرج عن دائرة العدالة.
قال تعالى: ﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾.
-إحدى ابتكارات الإسلام هي تثبيت منطقة واسعة أسماها (الحرم)، وحرّم الجدال والحرب في هذه المنطقة، وتركها منطقة حرة لا يجوز صيد الحيوان فيها ولا يجوز قطع الأعشاب من أرضها. وفي الوقت نفسه يقول القرآن: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ﴾.
- ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ أي اتقوا من التجازر في الردّ على المعتدي.
-﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾.
فالمخالف الذي لا يحمل السلاح في وجه المسلمين ولا يعمل على إبعادكم عن دياركم أعدلوا معه فالله يحب العادل المقسط.
-وفي موقع آخر من القرآن نقرأ ﴿وإن عاقبتُم فعاقبُوا بمثلِ ما عوقبتُم) لا أكثر من ذلك ﴿ولئِن صبرتُم لهُوَ خيرٌ للصّابرين﴾.
-وكذلك نقرأ في سورة المائدة ﴿لا يجرمَنّكم شنآن قوم على ألا تعدِلُوا﴾، فالعداء والبغض ينبغي أن لا يدفعكم للظلم.