لقاء مع الجريح المجاهد أبو عبد الكريم
حنان الموسويّ
عدت من جلسةٍ خارجيّةٍ إلى مكتبي، قمت ببعض المتابعات مع الإخوة. كان جهازي البايجر موضوعاً عند طرف طاولة المكتب حين رنّ جرسه. التقطته بسرعة ولاحظت سخونة مدّخرته غير العاديّة، حملته بين أصابعي وصرت أقرأ رموزاً غريبة وكلمات تظهر على الشاشة للمرّة الأولى. قبل أن أعطي الأمر بفتح الرسالة، انفجر بين يديّ!
* زفٌ وبترٌ وتماسك
رأيت وشاحاً أحمر غطّى المكان حين رفعت رأسي. لمحت إصبعاً مبتوراً، وآخر معلّقاً بالجلد، فانتزعته لأضغط على الجرح كي يخفّ النزف، بينما فقدت أجزاءً من أصابع يدي الأخرى. صراخ أحد الإخوة أذهلني عن حالي، رفضت تحليله أنّ التفجير كان نتيجة استهداف بصاروخ موجّه، وطلبت الهدوء بعد أن طمأنته بأنّ البايجر قد انفجر في يدي، رغم عدم استيعابي جيّداً لما حدث في تلك اللحظة، فبقيت متماسكاً حتّى أنّي لم أشعر بأيّ ألم.
هرع الإخوة لنجدتي، طلبت منهم إجلاسي ثمّ إحضار حذائي لأنتعله. أخبرتهم أنّي بخير ورفضت أن يحملوني. استندت إلى كتف أحدهم حتّى نزلت الأدراج وصولاً إلى الطابق السفليّ، حيث استخدمت المصعد. استقللت السيّارة بعد أن توجّهت إليها سيراً على القدمين، رغم نزف رأسي ويديّ الشديد. تمدّدت محافظاً على وعيي، وتناهى إلى مسمعي صوت سيّارات الإسعاف وصراخ الناس في الشارع، حينها، أدركت أنّ الانفجار شمل الأجهزة كلّها.
* حُسن البلاء
نُقِلت إلى مستشفى السان جورج، الذي كان يعجّ بالجرحى في كلّ مكان. دخلت غرفة الطوارئ سيراً على القدمين واستلقيت على كرسيٍّ بانتظار قيام الممّرضين بإسعافي. طلبت من كريم، الأخ الذي رافقني، التواصل مع أخي عبّاس، سلّمته محفظتي وحاولت بكامل عزمي أن أحافظ على وعيي، لكنّ دمي الذي سال كالميزاب لم يسمح بذلك. استفقت من غيبوبتي على صوت قريبي يحمد الله ويشكره على حُسن البلاء، وقد تعمّد سؤالي إن كنت قد عرفته، لأنّ الضّماد كان يلفّ عينيّ.
اخترقت إحدى الشظايا جدار دماغي فسبّبت نزيفاً أشعرني بالغثيان. خلال نقلي إلى مستشفى قلب يسوع ومنه إلى رزق، صفعني المسعف حين وجدني أستسلم للنوم. خضعت فور وصولي ليلاً إلى مستشفى رزق لجراحة في اليدين والأصابع دامت أربع ساعات، توقّف نبض قلبي خلالها ثلاث مرّاتٍ وأعادوا إنعاشه. أثناء الجراحة، رأيت في عالم الرؤيا أنّي أجلس على عشبٍ أخضر، ويجلس في المقابل الشهيدان غازي ضاوي وجهاد مغنيّة، ومعهما شهيدان آخران من أصدقائي، بينما جلس ملاك الموت بهيئة إنسان على صخرةٍ بالقرب منهم. أردت اجتياز النهر للوصول إلى أصدقائي في الطرف الآخر، لكنّهم ألقوا عليّ السلام ورحلوا، صرت أناديهم بأسمائهم وأطلب منهم اصطحابي معهم، ولكن ما من مجيب. دهشة الفريق الطبّيّ في هذه الأثناء كساها الخوف، إذ لم يصادفوا مريضاً مخدّراً يجلس خلال الجراحة. حينها فقط استقبلت الحياة من جديد.
* يد الله فوق أيديهم
عانيت من نزفٍ دماغيٍّ في إثر الجراحة، ما اضطرّ الطبيب لمصارحة والدي أنّ حالتي ميئوس منها، وأنّ ضرورة إجراء جراحة مستعجلةٍ للدماغ باتت حتميّة، لكنّ نسبة نجاحها لا تتعدّى الواحد في المئة، والشلل قرينٌ لنجاحها، وإلّا سيلجؤون إلى حلّ «الموت الرحيم».
لا يُحسد الوالد على موقفه حين يكون ابنه الأكبر في خطر، وقرار حياته أو موته في يده. سلّم الأمر لله، ووافق على إجراء الجراحة متيقّناً أنّ يد الله ستكون فوق يد الطبيب. استغرقت العمليّة ثماني ساعاتٍ متواصلة، زارني خلالها في العالم الآخر طيف قمر الهاشميّين العبّاس عليه السلام بجلال هالة نوره، مسح بيده المباركة على رأسي وغادر.
* غيبوبةٌ ومعجزة
صوت والدتي الصابرة أيقظني بعد دخولي في غيبوبةٍ لثمانية أيّام. معجزة نجاح العمليّة الجراحيّة مئة في المئة فاجأت الأطبّاء، لكنّهم أدركوا لطف الله وتجلّيات رحمته. غادرت غرفة العناية المشدّدة إلى غرفة الاستشفاء. كنت لمّا أدرك بعد أنّ عينيّ تأذّتا، وقد تعمّد الجميع إخفاء الأمر عنّي حتّى يلتئم جرح دماغي. زارني طبيب العيون وأزال الضمّادة عن عينيّ، وبعد فحصهما صارحني بأنّ تلف العين اليسرى اضطرّهم لاستئصالها، أمّا العين اليمنى فضررها أقلّ، فرمّموها لكنّها لن ترى النور قبل ستّة أشهر، ويلزمها جراحات متعدّدة ومتابعاتٍ دقيقة.
* شهادة حقّ
الأطبّاء في مستشفى رزق مميّزون بتعاملهم وأخلاقهم؛ فعندما قدم صديقي لزيارتي، التقى بطبيب مسيحيّ في المصعد، فرمق الأخير صديقي بنظرات المودّةِ، وتوجّه إليه بالكلام قائلاً: «حقّاً أنتم رجال الله.»
لم أسمع في الطابق المخصّص للجرحى أيّ تذمّر أو شكوى، وكان الطاقم الطبّيّ منبهراً من قوّة ثباتنا، ومن لطف الله بنا.
* أملٌ عظيم
حين سألتني الطبيبة النفسيّة عن حالتي، أجبتها بأنّي لن استسلم للإصابة، ولن يقرب اليأس والكآبة منّي، رغم احتمال أن أبقى كفيفاً كلّ عمري. عليَّ التأقلم مع إصابتي، فطموحي أن أصبح خادماً فاعلاً لأسرتي وقريتي في أيّ مجالٍ كان. حياتي طبيعيّة ثمانين في المئة، أمّا العتمة الدامسة فتسبّب لي بعض التعب.
تقبّلت أسرتي إصابتي. أطفالي الثلاثة شعروا باستغرابٍ في البداية، لكنّهم اعتادوا الوضع، وجلّ خوفهم أن يسبّبوا لي أيّ ألمٍ حين يلمسونني أو يقتربون منّي. على الرغم من دقّة إصابتي، إلّا أنّني على أتمّ الجهوزيّة للعودة إلى عملي بعد إنهائي مرحلة العلاج، فطاقتي لا تزال قويّة.
اسم الجريح الجهاديّ: أبو عبد الكريم.
تاريخ الولادة: 3-6- 1986م.
تاريخ الإصابة: 17-9-2024م.
مكان الإصابة: الحدث.
نوع الإصابة: بتر أصابع اليدين وإصابة العينين.