د. فاطمة نصر الله
جلس سامي، الذي لا يتجاوز السنوات السبع، إلى جانب ابنة عمّته ندى في غرفة الجلوس الصغيرة. كانا قد اجتمعا معاً بعد الظهر، يتشاركان ألعابهما المفضّلة.
قبل بعض الوقت من تلك الزيارة العائليّة، أخبرته أمّه عن مفاجأة كبيرة ستكون له في عيد ميلاده المقبل، وقالت له بحزم: «لا تخبر أحداً عن هذا، هو سرّ بيننا».
شعر سامي بثقل الكلمات في قلبه، فهو يعلم أنّ عليه الاحتفاظ بهذا السرّ، لكنّه لا يستطيع منع نفسه من البوح به أمام ندى، التي لطالما كانت صديقته المفضّلة. وفجأةً، بدأت الكلمات تتسلّل من بين شفتيه، وكأنّها تتسابق للكشف عن شيء لا يستطيع مقاومته!
هو موقف قد يعدّه بعضنا بسيطاً، ولكنّه يشير إلى مشكلة ينبغي معالجتها لئلّا تتفاقم.
* بين الكذب والخيال
يتمتّع الكثير من الأطفال بخيال واسع يدفعهم إلى ابتكار القصص، خصوصاً في المرحلة العمريّة ما بين 6 و9 سنوات، والتي تتّصف بغزارة الصور الخياليّة التي تساعد الأطفال في تنمية خيالهم، فيظهرون أمام الآخرين وكأنّهم يخترعون الأحداث الكاذبة ليستجلبوا بها انتباههم، في حين أنّ هذا الأمر هو ضرورة من ضرورات نموّهم السليم والمتوازن.
وعليه، لا يعدّ الخيال سبباً يدفع الأطفال إلى إفشاء الأسرار، بل قد يتحوّل نموّ الخيال عند بعضهم إلى كذب واقعيّ في حال تعاطى الوالدان مع الطفل على أنّه كاذب ويختلق الأحداث بسوء نيّة وتدبير مسبق ومقصود. هذا ما قد يدفع الأطفال إلى إفشاء الأسرار، وقد يلجؤون إلى الكذب والمبالغة دون قصد منهم مع عدم إدراكهم لنتائج أفعالهم، ما يحفّزهم على إفشاء الكثير من الأسرار الأسريّة دون التفكير بعواقب الأمور، وهو ما يقلق الأهل ويزعجهم.
* أسباب كشف الأطفال للأسرار
كثيرة هي الأسباب التي تدفع الأطفال لإفشاء أسرار الأسرة، نذكر منها:
1. الحصول على الثناء: قد يكون الدافع من مبالغة الطفل في اختلاق القصص وإفشاء الأسرار هو الحصول على كلمات الثناء ولفت الانتباه إليه، لا سيّما حين يفقد الكبار –أهمّهم الأهل– القدرة على التقويم واعتماد المعيار والميزان الحقيقيّ للمدح والثناء بحسب ما تتطلّبه المواقف والحالات؛ فالمبالغة في ذلك لا تقلّ ضرراً وسوءاً عن الإجحاف والبخل في إبداء المشاعر والثناء.
2. الضغط الخارجيّ: هي التصرّفات الخارجة عن إرادة الطفل؛ ذلك أنّ الفضول يسود بعض الغرباء أو الأقرباء للكشف المقصود عن أسرار الآخرين، فيستغلّون الأطفال للإيقاع بهم من خلال الضغط عليهم بالأسئلة المتعدّدة التي يصعب على الطفل التهرّب منها، أو استدراجه بالإغراءات المحبّبة له للحصول على ما يريدون معرفته.
3. إهمال الوالدين: قد يلجأ بعض الأطفال إلى التحدّث مع الآخرين، غرباء كانوا أم أقرباء، بما يدور في نفوسهم إذا لم يجدوا من يستمع إليهم داخل الأسرة، فيقومون بسرد ما يدور في المنزل من أخبار، سواء كان يصحّ البوح بها أم لا.
4. تصرّفات الوالدين الخاطئة أو أحدهما: قد يُقْدِم أحد الوالدين على تصرّف خاطئ وخطير من شأنه أن يبني سلوكاً سلبيّاً لدى الطفل، كأن يُطلب منه أن يتجسّس على أحد أفراد الأسرة كالجدّة أو الجدّ أو الخالة أو غيرهم، ويخبر بما فعله هؤلاء، وهذا ما يحفّزه على تجميع المعلومات عن الآخرين، فيميل إلى معرفة أسرارهم وكشفها للعلن. فضلاً عن أنّ هذا الأمر من شأنه أن يُربك الطفل في تمييز حدود احترام خصوصيّة الآخرين.
5. مشاكل نفسيّة: قد يصاب الطفل ببعض الاضطرابات النفسيّة التي تجعله يميل إلى جذب التعاطف حوله ولفت النظر إليه، فيُفرط بنشر المعلومات الخاصّة بالعائلة دون علم منه بخطورة ما يقوم به، ويُظهرها للآخر لينال تعاطفه(1).
6. المشاكل الأسريّة: إنّ الاضطراب داخل الأسرة نتيجة الخلافات الزوجيّة، أو انفصال الوالدين وابتعاد أحدهما عن الطفل، قد يدفع هذا الأخير إلى إفشاء أسرار كلّ من هو موجود في بيئتَي الأب والأم المنفصلَين، إمّا بفعل حثّه على الكلام من الكبار، أو لشعوره بالحاجة إلى الاهتمام واستدرار العاطفة.
* أُسس التربية على كتمان السرّ
إنّ الحفاظ على خصوصيّة الأسرة وحفظ أسرارها أمر بالغ الأهميّة. وإنّ تعليم الأطفال قيمة الأسرار وأهميّتها من أجل تعزيز الثقة وبناء علاقات صحيّة داخل البيت، هو جزء أساسيّ من التربية الشاملة والسليمة. وفي ما يأتي، سوف نتطرّق إلى كيفيّة تربية الأبناء على حفظ أسرار الأسرة والتعامل معها بوعي واحترام، بما يعزّز روح الانتماء بين أفرادها، ويمهّد الطريق لبناء علاقات قويّة في ما بينهم.
1. التربية الدينيّة
ينبغي أن تنطلق منظومة الوالدَين التربويّة من الجذور الإسلاميّة الغنيّة والشاملة لنواحي الحياة كافّة، والتي تشكّل وحدة متماسكة ومتكاملة تعبّر عن مكارم الأخلاق التي تحدّث عنها رسول الله محمّد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: «إنّما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق»(2). فلا يصحّ الفصل بين قيمة وأخرى، أو اختزال واحدة دون أخرى، ما من شأنه أن يؤسّس لخلل بارز في شخصيّة الطفل في المستقبل. وعليه، فلا بدّ من تعليم الأطفال أهميّة الصدق والأمانة كقيم إسلاميّة وأخلاقيّة، استناداً إلى آيات القرآن الكريم وسيرة رسول الله وأهل بيته عليهم السلام.
2. التربية بالقدوة
يحتلّ الآباء والأمّهات موقع القدوة في حياة أبنائهم منذ ولادتهم حتّى مرحلتَي الناشئة أو الشباب الأولى. وبعدها، إمّا أن يحتفظوا لهما بهذا الموقع، أو إنّهم سيبحثون عن بدائل قد لا يُعلم عنها شيء. وعندما يرى الأطفال أنّ والديهم يحافظان على أسرارهم، سيتعلّمون فعل الشيء نفسه في مواقف حياتهم المتنوّعة.
3. التواصل الفعّال
ينبغي تشجيع الأطفال على التحدّث عن مشاعرهم ومشاكلهم بصدق مع أفراد الأسرة الموثوقين، مع التشديد على أهميّة الحفاظ على خصوصيّة هذا البوح والتعاطي معه باحترام وتقدير، فيصبح هذا السلوك نموذجاً عمليّاً يحتذي به الطفل في مواقف مماثلة. كما أنّ الحوار المفتوح والمباشر يؤكّد أهميّة الحفاظ على الأسرار.
4. التعليم التدريجيّ
ينبغي بناء مفاهيم الحفاظ على الأسرار بشكلٍ تدريجيّ ومتناسب مع أعمار الأطفال وخصائص نموّهم؛ فيمكن تعليمهم بدايةً أهميّة الحفاظ على الأسرار البسيطة، ثمّ التدرّج لاحقاً للحديث عن المفاهيم الأكثر تعقيداً. كما يمكن استخدام الألعاب والأنشطة التي تعزّز مفاهيم الخصوصيّة والحفاظ على الأسرار بطرق ممتعة وجذّابة.
5. بناء الثقة وتعزيز المسؤوليّة
ينبغي تعزيز الثقة بين الآباء والأطفال من خلال توفير بيئة آمنة يشعر فيها الطفل بالأمان للتعبير عن نفسه، وتعليمه أنّ الحفاظ على الأسرار هو جزء من تحمّل المسؤوليّة والنضوج. فضلاً عن ضرورة تعويده على سرد ما يحصل معه في المدرسة أو أيّ مكان آخر خارج البيت، وذلك بهدف تدارك المخاطر التي قد يتعرّض لها، أو المواقف الحرجة التي تتطلّب تدخّل الأهل بشكلٍ مباشر.
إذاً، إنّ مسؤوليّتنا كآباء ناجحين أن نربّي أطفالنا على أهميّة عدم البوح بأسرار العائلة دون أن نغلق أمامهم أبواب الثقة والبراءة وحبّهم للفضول!
(1) علّمي طفلك الحفاظ على أسرار المنزل، نهى السداوي، ص52.
(2) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 68، ص 382.