ارتأيتُ أن يكونَ تَكريمُ أخي وعزيزي ومَبعَثُ افتِخاري والشّخصيّةُ المحبوبةُ في العالمِ الإسلاميّ، واللسانُ البليغُ لشعوبِ المنطقة، ودُرّةُ لُبنانَ السّاطِعَةُ، سَماحَةُ السيّد حَسن نصر الله، (رضوان الله تعالى عليه)، في صلاةِ جُمعةِ طَهران.
هذا الخطابُ موجّهٌ للأمّةِ الإسلاميّةِ جَمعاء، إلّا أنّهُ موجّهٌ بشكلٍ خَاصٍّ إلى الشّعبَينِ العَزيزَين اللُّبنانيّ والفلسطينيّ.
* لا مكان لليأس
نحنُ جميعاً مَكلومونَ بِشهادة السيّدِ العزيز، إنّهُ لفِقدانٌ كبير، ولقد أفجعَنا بكلِّ معنى الكلمة. غيرَ أنَّ عزاءَنا لا يَعني الاكتئابَ واليأسَ والاضطراب، بل هو من سِنخ عزائِنا على سيّدِ الشهداءِ الحسين بن عليّ عليهما السلام؛ يبعثُ الحياة، ويُلهمُ الدّروس، ويوقدُ العزائم، ويضخّ الآمال.
لقد غادرَنا السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه) بجسده، لكنَّ شخصيّتَهُ الحقيقيّةَ؛ رُوحَهُ، ونَهجَهُ، وصوتَهُ الصّادحَ، ستبقى كلها حاضرة فينا أبداً. لقد كان الرايةَ الرفيعةَ للمقاومةَ في وجه الشياطين الجائرينَ والناهبين، وكان اللسانَ البليغَ للمظلومينَ والمدافعَ الشّجاعَ عنهم، كما كانَ للمناضلينَ على طريقِ الحقّ سنداً ومشجّعاً. لقَد تخطّى نطاقُ شعبيّته وتأثيرُهُ حدودَ لبنانَ وإيرانَ والبلدانَ العربيّة، وستُعزّزُ شهادَتُه الآن مدى هذا التأثير.
إنّ أهمّ رسائلِهِ قولاً وعملاً، في حياتِهِ الدنيويّة، لكم يا شعبَ لبنانَ الوفيّ، كانت ألّا يساورَكُم يأسٌ واضطرابٌ بغيابِ شخصيّاتٍ بارزَةٍ مثلِ الإمام موسى الصدر (أعاده الله ورفيقَيه) والسيّد عبّاس الموسويّ (رضوان الله عليه)، وألّا يصيبَكُم تردّد في مسيرةِ نضالِكُم. ضاعِفوا مَساعيَكُم وقُدُراتِكُم، وعزّزوا تَلاحُمَكُم، وقاوموا العدوَّ المُعتَدي وأفشِلوهُ بتَرسيخِ إيمانِكُم وتوكّلِكُم.
* تصاعد دافع المقاومة
أعزّائي، يا شعبَ لبنانَ الوفيّ، يا شبابَ حزبِ الله وحركة أمل المُفعَمَ بالحماسَة! يا أبنائي، هذا أيضاً طلبُ سيّدنا الشهيد اليوم من شعبه وجبهة المقاومة والأمّة الإسلاميّة جَمعاء.
العدوّ الخبيثُ الجبانُ، إذ عجزَ عن توجيه ضربة مؤثّرة للبنية المتماسكة لحزب الله أو حماس أو الجهاد الإسلاميّ وغيرها من الحركات المجاهدة في سبيل الله، عَمَدَ إلى التظاهر بالنّصرِ من خلال الاغتيالات والتدمير والقصف وقتل المدنيّينَ وحرق قلوبهم.
لكن ما هي النتيجة؟ ما نجمَ عن هذا السلوك هو تراكمُ الغضب وتصاعدُ دوافعِ المقاومةِ، وظهورُ المزيدِ من الرجالِ والقادةِ والمضحّين، وتضييقُ الخناق على الذئب الدّمويّ، بالتالي، إزالةُ الكيان الملطّخ بالعارِ من ساحةِ الوجود، إن شاء الله.
* نحن مدينون لحزب الله
أيّها الأعزّة، القلوبُ المفجوعةُ تستلهمُ السكينةَ بذكر الله وطلب النّصرة منه. الدّمارُ سيُعوَّض، وصَبرُكم وثباتُكم سيُثمران عزّةً وكرامةً.
لقد كانَ السيّدُ العزيزُ (رضوان الله عليه) طوالَ ثلاثينَ عاماً على رأسِ كِفاح شاقّ، وارتقى بحزب الله خطوةً بخطوة. بتدبيرِ السيّد نما حزب الله مرحلةً بمرحلة، بصبرٍ وبنحو منطقيّ وطبيعيّ، وأبرزَ آثارَهُ الوجوديّةَ أمامَ أعدائهِ في المراحلِ المختلفةِ عَبرَ دَحرِ العدوِّ الصَّهيونيّ.
حزب الله هو حقّاً شجرةٌ طيّبة. حزب الله وقائدُهُ الشهيدُ البطلُ هما عصارةُ فضائلِ لبنانَ في تاريخِهِ وهُويَّتِه. أداءُ الدَّينِ للُبنانَ الجَريحِ المُدمَى هو واجبُنا وواجبُ المسلمينَ جميعاً. بدفاع مجاهدي حزب الله والسيّدِ الشهيد (رضوان الله عليه) عن غَزّةَ، وجهادهم من أجل المسجدِ الأقصى، وإنزالهِم الضربةَ بالكيانِ الغاصبِ والظالم، قد خَطوا خطوةً في سبيل خدمة مصيريّة للمَنطِقَةِ بأكملِها، والعالم الإسلامي كلّه.
* أحلام الصهاينة لن تتحقّق
إنّ تركيزَ أمريكا وأذرُعِها على حِفظِ أَمنِ الكِيانِ الغاصبِ ليسَ سوى غطاءٍ لسياستِهم المُتبدّدة القاضيةِ بتحويلِ الكِيانِ إلى أداةٍ للاستحواذِ على جميعِ المواردِ الطبيعيّةِ لهذهِ المنطقة واستثمارِها في الصّراعاتِ العالميّةِ الكُبرى. هدفُ هؤلاءِ تحويلُ هذا الكِيانِ إلى بوابّةٍ لتصديرِ الطاقةِ من المَنطِقَة إلى بلاد الغرب، واستيراد البضائعِ والتقانةِ من الغرب إلى المنطقة. وهذا يعني ضمانَ وجودِ المغتصبِ وجعلَ المنطقة بأجمعها تابعةً له. والسلوكُ السفّاحُ والوقحُ لهذا الكيانِ تُجاهَ المناضلينَ ناجمٌ عن الطّمعِ بتحقيقِ هذا الهدف.
هذا الواقعُ يبيّنُ لنا أنّ كلَّ ضربةٍ يُنزِلُها أيّ شخصٍ ومجموعةٍ بهذا الكيان، إنّما هي خدمةٌ للمَنطِقَة بأجمعها، بل لكلِّ الإنسانيّة.
لا ريبَ في أنّ أحلام الصهاينة والأمريكيّين هذه إنّما هي محضُ أوهامٍ مستحيلة. فالكيانُ ليس إلّا تلكَ الشجرةَ الخبيثةَ التي اجتُثَّت من فوقِ الأرض، وقد صدَقَ قولُهُ تعالى: ﴿مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ﴾ (إبراهيم، شطر من الآية 26).
هذا الكيانُ الخبيث، بلا جذور، ومزيّفٌ ومتزعزع، وقد أبقى نفسه قائماً بصعوبةٍ عبرَ ضخّ أمريكا الدعم له، ولن يُكتبَ له البقاءُ بإذن الله تعالى. والدليلُ الواضحُ على ذلكَ أنّه أنفق مليارات الدولارات في غزّةَ ولبنانَ على مدى عام العدوان، وأُغدِقَت عليهِ المساعداتُ المختلفةُ من أمريكا وعددٍ من الدولِ الغربيّة، وقد مُنيَ بالهزيمة في مواجهة بِضعة آلاف من المكافحينَ والمجاهدين في سبيل الله المحاصرينَ الممنوعينَ من أيّ مساعدةٍ خارجيّة، وكانَ إنجازَهُمُ الوحيدُ قصفُ البيوتِ والمدارسِ والمستشفياتِ ومراكزَ تجمّعِ المدنيّين.
* لن تتوقّف المسيرة
يا أهلنا المقاومينَ في لبنانَ وفلسطين! أيّها المناضلونَ الشُّجعان! أيّها الشّعبُ الصبورُ الوفيّ! هذهِ الشّهادات، وهذهِ الدّماءُ المَسفوكة، لا تُزعزعُ عَزيمَتَكُم، بل تَزيدُكُم ثباتاً. في إيرانَ الإسلاميّة، خلالَ ثلاثةِ أشهرٍ من صَيف 1981م، اُغتيل العشرات من شخصيّاتِنا البارزةِ والمميّزةِ، ومِنهُم شخصيّةٌ عَظيمَةٌ مثلُ السيّد محمّد بهشتي، ورَئيسُ جُمهوريّةٍ مثلُ رجائي، ورئيسُ وزراءٍ مثلُ باهنر، واغتيلَ علماءٌ مثلُ آية الله مدني وقدوسي وهاشمي نجاد وأمثالهم، وكان كلُّ واحدٍ منهم من أعمدَة الثورة على المُستَوى المحلّي أو الوطنيّ، ولم يَكُن فقدانُهُم هيّناً، لكنَّ مسيرةَ الثّورة لم تتوقّف ولم تتراجع، بل تسارَعَت.
واليوم، فإنّ المقاومةَ في المنطقة لن تتراجعَ بشهادة رجالِها، والنّصرُ سيكونُ حليفَها. المقاومةُ في غزّةَ حيّرتِ العالم، وأعزّت الإسلام. لقد تلقّى الإسلامُ في غزّةَ بصدره كلَّ أنواع الخُبث والشرّ. وما مِن إنسانٍ لا يُحَيّي هذا الصّمود، ولا يَلعنُ عَدُوَّها السفّاحَ والدّمَوِيّ.
لقد أوصلَ طوفانُ الأقصى وعامٌ من المقاومةِ في غزّةَ ولُبنان، هذا الكيانَ الغاصِبَ إلى أن يكونَ هاجسَهُ الأهمَّ حفظ وُجودِه، وهو الهاجسُ نفسُهُ الذي كانَ يُسَاورُه في السنوات الأولى لوِلادَته المَشؤومة، وهذا يعني أنّ جهادَ رجالِ فلسطين ولبنان قَد أعاد الكيانَ الصهيونيَّ سَبعينَ سنةً إلى الوراء.
وإنّ اللهَ مع السّائرينَ على هذا الدّرب، ﴿وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ (الحج، 39).
سلامُ الله على القائد الشهيد نصرِ الله (رضوان الله عليه)، وعلى البَطَل الشهيد هَنِيَّة، وعلى القائد المُفتَخَر الفَريق قاسم سُلَيماني (رضوان الله عليه).
*من خطبة الجمعة التي ألقاها سماحة الإمام الخامنئيّ دام ظله باللغة العربيّة بتاريخ 04/10/2024م، خلال مراسم تأبين سماحة الشهيد السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه).