تقرير: حيدر الموسوي
كيف أكتب عنك يا سيّد؟ لم يعلّمنا أحد كيف ننعى أرواحنا! علّمتنا كلّ شيء يا سيّد، كلّ شيء... لكنّك تركت لنا المهمّة الأصعب، أن نكتب عن رحيلك ووداعك وتشييعك. كلّما لملمتُ المشهد في ذهني وذاكرتي ضاقت العبارة وفاضت العبرة.
* رغم الطقس البارد
بدأت مراسم التشييع عند الناس قبل الموعد الرسميّ المقرّر، فأتوا من كلّ حدب وصوب. في الليلة التي سبقت التشييع، كانت الضاحية تعجّ بمئات الآلاف من القادمين من الجنوب والشمال، لم تمنعهم الأحوال الجويّة السيّئة وتدنّي درجات الحرارة من الحضور وتهيئة النفوس للحدث الجلل. لم تمنع الثلوج المتراكمة على ضهر البيدر أهل البقاع من القدوم. صورة الحاجّ المتقدّم في العمر وزوجته وهما يمشيان وسط الثلوج تختصر المشهد، كما ذاك الشابّ من ذوي الاحتياجات الخاصّة الذي سار نحو بيروت مشياً على القدمين، حاملاً رايته ورافعاً يده مشيراً إلى النصر.
* مكان الوديعة: وجهة المحبّين
فور انتشار خبر نقل الوديعة من القبر المؤقّت، علم الناس أنّ السيّد كان مدفوناً في روضة الشهيدين كلّ تلك الفترة، فتوجّهوا على الفور إلى مكان دفنه للتبرّك به. «هنا كنت مدفوناً يا سيّد؟ قريباً من نجلك هادي يا سيّد؟ زرنا الروضة مراراً وتكراراً ولم نكن نعلم أنّك مدفون هنا، أنّ جسدك حاضر بين رفاقك وأبنائك الشهداء!»، هذا كان لسان حال الحاضرين.
* ضاقت الأرض بالمحبّين
بدأت مدرّجات المدينة الرياضيّة، حيث المكان الذي تقام فيه مراسم التشييع، تمتلئ منذ ساعات الليل الأولى. وعند الفجر، انتشر المشيّعون في محيط المدينة الرياضيّة والسفارة الكويتيّة ودوّار الجندولين؛ إذ شهد طريق المطار ومحيط مكان الدفن طوفاناً بشريّاً هائلاً. وقد عجّت الطرقات بالمضائف، فوزّع المحبّون الطعام والشراب على حبّ السيّد. وعلى طول الطريق، استمع الناس عبر الصوتيّات إلى مرثيّات الوداع. رأيت أحد المشاركين يلطم صدره على كلمات «ضاحية، أين بو هادي رحل، ضاحية، نجمك اليوم أفل»، وحين انتهت اللطميّة بدأ بالنحيب، وهو يقول: «لك خلّيها». يريد الناس أن يبكوك يا سيّد، يريدون أن يعبّروا عن فائض حبّهم وفقدهم لك!
*أيّ عشق؟
عند الواحدة ظهراً بدأت مراسم التشييع، بحضور جمهور المقاومة والشخصيّات السياسيّة والاجتماعيّة والدينيّة. أتى المشاركون من قارات العالم الخمسة، الصغار والكبار والشيوخ والنساء من عشرات الجنسيّات لبّوا النداء. وحين أتت ساعة الصفر وظهر نعشا السيّدين نصر الله وصفي الدين، كانت الفجيعة! مئات الآلاف يذرفون الدموع على السيّد الذي لم يطلّ عليهم شخصيّاً طوال 19 سنة بسبب الظرف الأمنيّ الخاصّ الذي عاشه، ولكنّه قد حضر اليوم ليودّعهم ويودّعوه. جال جثمانا السيّدين حول المدرّجات، وبدأ الناس يتباركون منهما، هذا يرمي شاله، وذاك يرمي سبّحته. وأكثر ما لفتني مشهد جريحٍ مبتور اليد وهو يسلّم يده الصناعيّة إلى (أبو علي)، مرافق السيّد، ليمسحها بالنعش. أيّ ارتباط هذا وأيّ عشق؟!
* قبضات الولاء
في خضمّ المراسم، حلّقت فجأةً أربع طائرات حربيّة إسرائيليّة على علوّ منخفض مرّتين متتاليتين فوق مئات الآلاف من المشيّعين. لم يرتجف أحد، لم يخف أحد، بل صدحت حناجر المحبّين بالهتافات: «لبّيك يا نصر الله، الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، هيهات منّا الذلّة». شهدت تلك اللحظة حركةً عفويّةً جماعيّة، رفع فيها الجميع قبضاتهم في الوقت نفسه، وراحت تصدح أصواتهم بالتلبية والوفاء في آنٍ معاً، كما لو أنّهم اتّفقوا مسبقاً على ذلك! بدا الأمر وكأنّه استحضار لوعي جماعيّ يرى في “إسرائيل” غدّة سرطانيّة تجب محاربتها. في هذه اللحظة تحديداً، اجتمعت القلوب على حفظ وصيّة السيّد وإكمال المسيرة.
* تجديد البيعة
ومع كلمة الأمين العام لحزب الله سماحة الشيخ نعيم قاسم جدّد المشيّعون البيعة، مردّدين عبارة “إنّا على العهد يا نصر الله”، التي ستكون شعار المرحلة المقبلة. أكّد الشيخ قاسم أنّه لا تبديل في سياسة حزب الله تجاه العدوّ الإسرائيليّ، وأنّ بقاء هذا الأخير في أراض لبنانيّة يعني احتلاله لها. لذلك، إنّ دحره من أوجب الواجبات. كما أشار سماحته إلى أنّ القضيّة الفلسطينيّة ومساندة الشعب الفلسطينيّ ستبقيان من أولويّات المقاومة.
* الأرض التي دافع عنها
بعد الصلاة على الجثمانَين الطاهرَين، انطلقت المسيرة من المدينة الرياضيّة نحو مكان الدفن بالقرب من طريق المطار. كلّ من لديه كلمة أخيرة قالها للسيّد، لوّحوا بأيديهم لتوديعه، ففاضت قلوبهم وجعاً وعيونهم دمعاً. وحين وصل النعش إلى مكان الدفن، حمله المحبّون فوق أكتافهم ورؤوسهم في موكب حزين، ودُفن الحبيب في ثرى لبنان، الأرض التي أحبّها، وختم حياته شهيداً دفاعاً عن استقلالها وسيادتها وكرامتها لتبقى حرّة خالصة لأهلها.
* من مناقب سماحته
قد يسأل سائل: لماذا أتى مئات الآلاف ليشيّعوا سماحة السيّد؟ لماذا أتوا من بلاد العالم الواسع؟ لماذا بكى عليه الأطفال الذين لم يعايشوا مرحلته؟
ولعلّني أجد الإجابة في كلمات قالها والد السيّد الحاج عبد الكريم نصر الله لصحافيّة كانت تعدّ تقريراً حول السيّد: “من يحبّه الله يحبّب الناس فيه”. لقد أحبّ الله السيّد لأنّه وهب نفسه لله عزّ وجلّ، واختار الطريق الصعب والوعر منذ طفولته، فرافق أستاذه السيّد عبّاس الموسويّ في أحلك الظروف الأمنيّة في النجف الأشرف، وتحمّل الصعاب دون أجر أو مِنّة أو شكوى. لم يجمع السيّد ثروة شخصيّة رغم أنّ الدنيا كانت بين يديه. براتب بسيط ودون أيّ امتيازات دنيويّة كان ينجز أعماله. لم يكن لديه دوام عمل وأيّام إجازة وراحة. كلّ الوقت مرهون للجهاد وفي سبيل الله، بعيداً حتّى عن أولاده. وحرصاً منه على مشاعر ناسه، كان يمنع ابنه من شواء اللحم كي لا يشتمّ فقير رائحة ما لا يستطيع شراءه. كان للسيّد منزل في بئر العبد، فوهبه لجمعيّة كشّافة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه ليستفيدوا منه في نشاطاتهم. هذا بعض من آلاف مناقب السيّد.
* من عليائه
آخر أيّام العمر هي من أمرّ اللحظات وأحلك الأوقات على من تعلّق بها، ولكنّها أحلى الدقائق وأبهج الساعات على أولياء الله، فهم يتلهّفون لمغادرة هذه الدنيا والالتحاق بركب الأولياء والشهداء.
لا أحد يعلم ماذا كان يجري لسيّدنا العزيز في تلك الأيّام وهو يرى أبناءه وفلذات كبده يمضون على درب أفكاره السامية، مقدّمين أرواحهم في عروج مقدّس وهو جالس ينظر إليهم بعين ملؤها حسرة الفراق. أمّا اليوم، فإنّ الجنّة قد فتحت أبوابها واتّصلت أنهارها وأينعت ثمارها وزيّنت قصورها، وها هم الشهداء يستقبلون السيّد ويتباشرون بقدومه بعد أن طال الشوق. وها هو ينظر إلينا من عليائه متفائلاً ببقاء أشرف الناس وأكرم الناس وأطهر الناس على العهد الذي قطعوه معه في حفظ المقاومة الإسلاميّة لمواجهة العدوّ الإسرائيليّ.