الشهيد على طريق القدس عارف أحمد الرز («سراج)»
اسم الأم: سوزان عطيّة.
تاريخ الولادة ومحلها: 27-9-1980 / نيجيريا.
الوضع الاجتماعي: متزوج وله ٤ أبناء.
تاريخ الشهادة ومحلها: 20-9-2024م/ الضاحية الجنوبية لبيروت.
«عند سقوط أول صاروخٍ على الضاحية، اعلمي أنّي استشهدت». كلمات همسها لزوجته شريكة سرّه قبل انطلاقه إلى عمله، حالة العروج التي عاشها عارف بعد استشهاد صديقه «عباس» أوصلته إلى عوالم عرفانية مهّد الحاج عبد القادر له سُبلها، فكان في فلكه كمريدٍ وجد شيخه! جاهد نفسه وخاف ربّه حتى أيقن مصيره وبشّرها به.
عارف أحمد الرز شهيدٌ من وحدة الرضوان، ولد لأبوين من ديانتين مختلفتين، حدّثتنا عنه أخته لأمّه، بوصفه الأخ العارف بالله، الداعي إليه بغير لسانه.
* عارف النسمة
عاش أخي طفولته مع والدته قبل أن ينتقل إلى منزل والده بعد انفصالهما وبلوغه سنّ الفتوّة، نتيجة وفاقٍ بين الوالدين يقضي بأن يعيش هذه الفترة مع والده، ابتعد عنها فيما احتضنته قريته جباع الجميلة لينشأ في طبيعتها على حبّ الأرض والعطاء والدفاع عنها. وكان يتحيّن الفرص ليزور والدتي، كبرنا أنا وأخي الأصغر ونحن نلمح في عينيها شوقها لعارف (وهو أخونا من والدتنا) واحتفاءها به عندما يحضر، ولصغرنا كنّا نظنّ أنّه الأكثر حظوةً في قلبها، لم ندرك أنّه الابن الغائب، الذي كلّما سألتها عن طفولته، ردّت بابتسامة تبوح بجميل الذكريات: «عارف كان نسمة».
انتسب عارف إلى كشافة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه في جباع، وانضم لاحقاً إلى صفوف التعبئة، لم يحتج لكلامٍ كثيرٍ كي ينال موافقتها، بعد موافقة والده التي انتزعها عارف بصعوبة خوفاً على وحيده. وفي غمرة الدهشة عرفت والدته أنّ لله حزباً يريد ابنها الانتماء إليه، وقد استطاع بأسلوبه اللائق إقناعها بضرورة استكمال ما بدأ به، وقد حاز رضاها بجدارة بعد أن أوضح لها قضيّة هذا الحزب ومبادئه. وبدأ مسيرته الجهادية، ثم تزوّج من فتاة زينبيّة تشبهه ورزقهما الله أربعة أبناء.
* داعٍ بغير لسانه
حبّه لوالدته كان شديداً، وكان يُعلّم أبناءه احترام الأم الكبيرة وتوقيرها، فإذا اجتمعنا على مائدة الطعام، مثلاً وبدأ أولاده بتناول الطعام قبل جدّتهم، أمرهم بالانتظار بشكل حازم وجديّ حتى تجلس الجدّة.
ماج فينا كأنفاسنا، زرع بصماته دون أن يلهج بحرف، أعماله كانت تدعونا دون حاجةٍ منه للسانه. وأنا كنت يافعةً «مسيحيّة» اكتنزت الزهو بديانتي، ونشأتُ في بيئة لا تعرف الإسلام، حينها كان ما رأيته من الأخلاق الإسلاميّة كان في سكنات أخي، فقد عرّفني بدماثة أخلاقه على أقرب طريقٍ إلى الله. اعتزلت جامعتي مدّة ستّة أشهر، التهمت خلالها عدداً من الكتب التي تتحدّث عن الله؛ لأعرف لمَ نما هذا العشق في قلب أخي؟ ولمَ كان يراقب الله في كلّ تصرّفاته؟ حتى قرأت حديثاً يمثّل واقع أخي عارف حرفيّاً: «شيعتنا كونوا دعاةً لنا بغير ألسنتكم».
* عارف والكتاب
كان مرجعي في القراءة، أشاركه كلّ معلومة تلفتني، وكان يحضّني على المطالعة الهادفة كما يحثّ أولاده على ذلك. اقترح على شاب تقدّم لطلب الزواج من ابنته أن يقرأ كتاباً عن الأسرة في فكر السيد الخامنئيّ دام ظله ليكون محلّ نقاش للشابّين ومنطلقاً لحياتهما. وقد تعرّفت إلى مجلّة بقيّة الله في منزله، وكثيراً ما تابعت مواضيعها الشيّقة عبره، حتّى يوم نزحت عائلته اتّصل هاتفياً بابنته وأوصاها أن تحمل معها العدد الذي صدر ولم يتسنَ لهم قراءته، وجدته في يدها، كان الغلاف يحمل صورة الشهيد السيّد محسن شكر. كان الشهيد عارف من المواظبين على قرّاءة المجلّة، ويحرص على حلّ المسابقة في آخرها أو يكلّف أحد أفراد أسرته بذلك ثمّ يرسل الحلّ عبر بريد المجلة، وقد وصّى أبناءه بالمواظبة على قراءتها لفائدتها وتنوعها وسهولة عرض المعلومات فيها، خاصّةً إن قرأ مقالاً أعجبه، فكان يطلب من كل أفراد الأسرة قراءة ذلك المقال لتعميم الفائدة.
* مداراة ورحمة
كالمطر كان يروي ظمأ الجميع حبّاً ومداراةً، ضمّنا بسكونه العفويّ، واحتضن كلّ ما يعنينا برفق، لم تفُته أعياد الميلاد يوماً، رسائله، تبريكاته وهداياه النابضة مودةً تنضح عطراً كلّما هزّنا إليه الشوق، حضوره الدافئ بيننا في كلّ المناسبات واهتمامه بأدقّ التفاصيل ترك فينا بصماته الخالدة؛ فبتنا نتبعه على هدى ونقتدي به، وفي حضرة الملكوت المضاء، صرنا كواكب تدور في فلكه لا إراديّاً، دون أن يتعرّض لديننا أو يعترض عليه أو ينتقد أو يجرح أحدنا بملاحظة، كلّ ذلك قرّبنا من الله أكثر. أذكر جيّداً كيف امتعض حين سأل نسيبنا والدتي إن كانت ستعتنق الإسلام، لم يكبت اعتراضه إذ اعتبر ذلك خصوصيةً لا يمكن انتهاكها، فمداراته لها منعته من طرح سؤالٍ كهذا عليها، لكنّه ذكر في وصيّته أنّ أمنيته أن نطّلع على الدين الإسلامي والتعرّف على تعاليمه.
* رسالةٌ ودعاء
حبّه لسماحة السيد الشهيد حسن نصر الله (رضوان الله عليه) وحديثه الدائم عنه زرع فينا عشقه، نظر إليه تالياً للرسل والأنبياء، إذ استطاعوا التغيير كما فعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ويسوع المسيح عليه السلام حين انتفض ضد الروم. وبعد سماعي خطابات سماحة السيّد في حرب تموز، يقينه بالنصر استفزّني، وأثبتت وعوده الصادقة أنّه ذو شأنٍ عظيمٍ وعزّةٍ مميزة، دفعتني ثقتي به لأرسل له رسالة تحمل بعض الاستفسارات عن الله. استشرتُ أخي الذي أنكر معرفته بأي طريق، موكلاً المهمّة لزوجته التي ستطلب من الأخوات في الهيئات النسائية مساعدتنا في إيصالها، وكم لبس ثوب الاستغراب حين علم أنّهم تواصلوا معي من مكتب سماحته
(رضوان الله عليه) وأنّه طلب بتواضعه الدعاء مع الإجابات التي أنشدها. إخفاؤه أمر قدرته على تسليم الرسالة بسهولة كُشف لاحقاً حين علمنا طبيعة عمله الأمني في فريق حماية سماحة السيد الأقدس (رضوان الله عليه) ثمّ تحت إمرة الحاج الشهيد عبد القادر، وذلك بتكليف من الشهيد الحاج «نبيل» بعد أحداث شهادة السيّد محسن. عمله الذي لم نكن نعلم أيّ شيء عنه أبداً.
* المقاومة حقّ
اصطحبَنا في زيارة إلى الجنوب، لنتعرّف إلى معلم مليتا، أرانا كيف كانت بدايات المقاومة وكيف تطوّرت الآن بفضل الإصرار على الجهاد، كما شاهدنا الفجوة العظيمة التي سبّبها وقوع صاروخٍ في سقف منزل والده، وكانت أثراً شاهداً على عنجهيّة العدوّ وبطشه، ولزوم مقاومته. تأثّره بحرب غزّة دفعه لمحادثة والدتي بما يدور في فلسطين من تدنيسٍ للكنائس، وعن آلام أطفال غزّة ونسائها، حدّثنا عن مجاهدي غزّة الذين يملكون نفساً قرآنياً، وعن اعتزازه بالمقاوم الفلسطينيّ المنضبط جداً.
* طلب الشهادة
شهادته شكّلت صدمة لأميّ، فهو لم يعتد الحديث عنها أمامها كي لا تنزعج، خاصّة بعد تكرار طلبه منها نيل الإذن الخطّي للمشاركة بالأعمال القتالية ورفضها ذلك، ولم يكن طلبه الأخير منها ببعيد المدة، ليكون ردّها دائماً: «حين يختارك الله شهيداً، فلن يستطيع أحدٌ مخالفة الإرادة الإلهية». بعد شهادته، أذاع صديقه السرّ بأنّه طالما سمعه أثناء تهجّده ليلاً يطلب الشهادة بلوعة وحرقة.
* إحساس أمّ
«يا ربّ لا تفجعني بولدي» أحاط صوتها بكل مكامن نفسي، حين آلمها قلبها يوم مجزرة البيجر، لم تهدأ إلا حين أبلغتنا زوجته أنه بخير. تغيّره بعد شهادة صديقه ورفيق دربه «عباس رعد» أثار حفيظتها، فصارت تراقبه عن كثب. لم يعد ذاك الإنسان الذي يهتمّ بأدقّ التفاصيل، حرصه على اللقاء الأسبوعي تضاءل، إذ دام غيابه قبل أن نراه للمرة الأخيرة قرابة شهرٍ، فقدَت خلالها الصبر. في زحمة العمر بعد أن تنامى تكريمه لها، كان يتابع وضعها الصحّي، يكثر الأسئلة حول راحتها، يرتّب أغراضها خلسةً، ويوضّب بيديه الحانيتين مكان نومها بصمتٍ تاركاً خلفه لمساتٍ من اللطف تدلّ عليه، لكن قبيل استشهاده انسلخ من عالمها فجأةً؛ كي تعتاد غيابه.
* آخر لقاء
لم يكن أخي فحسب، بل كان طريقي إلى الله. قبيل استشهاده كنتُ كلّما تنفّستُ اختنقت، حتى طلبت من زوجته أن ترسل إليه أن نلتقي جميعنا كما كنّا قبل أحداث البايجر، حين رأيته تجسّدت الكلمات بهيئة الدموع، لم أستطع منع نفسي عن احتضانه بشدّة كما لو أنّي حُجِبت عنه دهراً، شِختُ خلاله حتى مثلتُ بين يدي أخي أتزوّد منه، نيران تُسجر داخلي لم أعلم علّتها حينها، سألته بقهر إن كان محاطاً بالخطر، جوابه المتواضع مستخفّاً بنفسه: «ومن أنا كي يحدِق بي الخطر؟» لم يبرد غليلي إلا حين صار يمازحني، وجاءني تأويل نوبة البكاء تلك بعد خمسة أيامٍ فقط، حين وصلنا نبأ استشهاد عارف في 20-9-2024م برفقة الحاج عبد القادر وثلّةٍ من قادة الرضوان.
ما خفي وراء الكلمات كان أعظم، لقد غاب عنا كُنْهُ أخينا طيلة زمن، انفتح بروحه على المستقبل مذ كان طفلاً، لا يفرّق بين معتقدٍ وآخر، ولم يعتد غير الحبِّ، لذا كان سفير الأديان بحقّ، ورسول الفعل بلينِ القول. جلُّ ما حدّثونا عنه أدهشنا، حبل الكتمان المتين الذي لفّ به حياته ملأنا استغراباً، ثوب القدّيسين الذي ارتداه صغيراً وفاءً لنذر والدته كي يحفظه الله، بعد موت أخيه الأكبر اختناقاً إثر حريقٍ، ازدان به وازداد شرفاً وتعظيماً حين كبر.