مع الإمام الخامنئي | يا شعب لبنان الوفيّ نور روح الله | الوعي بوصلة المؤمنين قيم علوية| انشغل بعيوبك! تسابيح جراح | لن يقرب اليأس منّي أولو البأس | الخيام مقبرة غولاني الشهيد على طريق القدس عارف أحمد الرز («سراج)» تشييع السيّد يومٌ من أيّام الله طوفان المحبّين على العهد لن تأخذوا أسرارنا من صغارنا تذيع سرّاً تسفك دماً

مَهمَّة في القصر

(أحداث من سيرة عليّ بن يقطين)
د. حوراء حمدان

 

«إنّ الشيعيّ الحقيقيّ هو الذي يطلب الإذْن من مولاه حتّى في شُرب الماء، وإنْ لم يكن مولاه حاضراً أو ناظراً»(1).

هنا، تتجلّى المعاني الحقيقيّة للولاية، وتتبيّن خفايا الألطاف الإلهيّة التي يخْتصّ الله بها الذين آمنوا وكانوا يتّقون. هو نور اليقين الذي يقذفه الله في قلوب أوليائِه بأنْ ﴿لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (يونس: 62).

يسرد هذا الكتاب- الصادر عن دار المعارف الإسلاميّة الثقافيّة- أحداثاً من سيرة أبي الحسن عليّ بن يقطين بن موسى البغداديّ أحد أبرز أصحاب الإمام الكاظم عليه السلام.

وُلد عليّ في الكوفة )عام 124هـ)، وتبوّأ في فترة خلافة هارون إحدى أهمّ الوزارات بتأييدٍ من الإمام الكاظم عليه السلام ليتسنّى له حماية الشيعة. وقد حظِي بمحبّة هارون. وكان بحقّ كما قال فيه الإمام الكاظم عليه السلام: «إنّ لله أولياء مع أولياء الظَلَمة يدفع بهم عن أوليائه»(2).

* الهجوم على الموالين
شنّ جند هارون حملات واسعة على القرية الشيعيّة، قُتل خلالها معظم رجال القرية وسُبي نساؤها وأطفالها. لم يستطع عليّ بن يقطين فعل شيء ليمنع ذلك وهو ما زاد من توتّره واضطرابه، فكان بدنه يقشعرّ على الرغم من الحرّ(3)، إلّا أنّه تمكّن من مساعدة إحدى الفتيات، فنجت من الموت بفضل الله.

وصلت قافلة الأسرى إلى بغداد، ووقفوا أمام هارون شُعثاً بوجوه دامية مقيّدين بالسلاسل(4). هؤلاء المعدومون قد أرّقوا رخاء الدولة العباسيّة، كما صرخ فيهم هارون الذي رأى نفسه حقيقاً بالخلافة لقربه من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وتعهّد بالقضاء على كلّ معارضة حتّى لو طال ذلك كبير العلويّين موسى بن جعفر عليه السلام. أمّا عليّ بن يقطين، فقد أصابه الكمد وتساءَل كيف للنساء والأطفال أنْ يُشكّلوا خطراً على هارون؟ وأيّ دلالة مضلّلة ساقها لتشبّثه بالحكم(5)!؟

أثناء العودة إلى البلاط، كان حارث، الذي يعمل تحت إمرة عليّ بن يقطين، يبحث عنه. وقد انْتابه الفضول لرؤيته يسيرُ بعيداً دون حراسة، فتتبّعه إلى إحدى التلال. شمّر عليّ عن ساعدَيه، رفع العمامة، خلع الحذاء وتهيّأ لغسل وجهه. لاحظ حارث أنّ عليّاً يتوضّأ، فتوقّف متعجباً من الاكتشاف الذي وقع عليه(6)، فقد عاين اختلاف طريقة وضوئِه وصلاته عن العامّة!

* برزخ الحيرة والتكليف
كان عليّ بن يقطين يكتم إيمانه وولاءَه للإمام الكاظم عليه السلام، يُؤدّي العبادات بصورة سرّيّة، ويعيش الألم والقهر لما يصيب الشيعة، فلم يعد قادراً على البقاء في حكومة الظلم ولا أن يكون شاهداً على تلك الجرائم، خاصّة فيما لو أصبح هو نفسه عاملاً مساهماً فيها(7). وجد نفسه في برزخ لا سبيل أمامه أو خلفه، فأرسل إلى الإمام الكاظم عليه السلام طالباً الإذن بالتنحّي، وطلب منه التكليف فيما يخصّ الخروج من بلاط هارون.

* بداية الدسائس
كانت منية حارث العظمى هي الحصول على مركز رئاسة شرطة بغداد، وقد توسّط له عبد الله بن مالك الخزاعيّ رئيس شرطة بغداد وزكّاه عند هارون لخلافته في ذلك المركز(8).

استشار هارون عليّاً حول هذه المسألة، إلّا أنّه لم يدعم ذلك عارضاً الدلائل المؤيّدة لرأيه أمام هارون، منها قلّة خبرة حارث ولعبه للقمار وليالي الثمول. وهو ما جعل هارون يُثني عليه.

انتظر حارث ويحيى بن خالد البرمكيّ(9) قدوم عبد الله بن مالك الذي أخبرهما برأي ابن يقطين، فثارت في نفس حارث الضغائن، واتّفقوا على زلزلة مكانة عليّ لدى الخليفة، على الرغم من أنّها كالحصن المنيع الذي لا يمكن اختراقه. ولمّا أخبرهما حارث بعلامات التشيّع التي رآها بنفسه، أوكلا أمر مراقبته إليه.

* المراقبة والخيبة
بعد أن طُرح حديث في البلاط حول وضوء الشيعة، بعث ابن يقطين برسالة إلى الإمام الكاظم عليه السلام مستفسراً عن الكيفيّة الصحيحة للوضوء، ورسالة أخرى يطلب فيها التنحّي.

دخل حارث برفقة يحيى وابن مالك متنكّرين إلى محلّة الشيعة، وسألوا عن أبي الحسن، وادّعوا حبّهم وموالاتهم للإمام عليه السلام. وقد تمكّنوا من خداع الناس في ذلك، وكشف أمر نائب الإمام عبد الرحمن بن الحجّاج. ثمّ قفِلوا عائدين إلى القصر. صعد حارث إلى أعلى سطح المبنى الذي يصلّي فيه ابن يقطين، واستطاع رؤيته وتمييز وضوئه. واتّفقوا بأجمعهم على إعلام الخليفة بالأمر، على أن يتولّى حارث ذلك؛ ليظفر بمكانة فُضلى لدى الخليفة، وينتقم من ابن يقطين(10).

توسّط هارون محفل الأنس والطرب، وطافت الجواري بالكؤوس والشراب، فاستغلّ حارث الأمر، وبدأ بإغراق هارون بالمديح، ثمّ حذّره من توغّل بعض أتباع أبي الحسن عليه السلام في البلاط، مشيراً إلى ابن يقطين. لم يأخذ هارون الكلام على محمل الجدّ، إلّا أنّ الحارث أكّد له رؤيته لكيفيّة وضوء عليّ، فبعث معه شخصين لتصديق كلامه، ووعده بالمنصب إذا كان صادقاً(11).

كان ابن يقطين يتهيّأ للوضوء، ولكن طُرق الباب بشدّة. سلّمه أحدهم رسالة، فقرأها وعاد إلى وضوئه. وهنا أخذتهم الدهشة ممّا رأوه، فقد توضّأ الرجل على سيرة الملّة الأخرى. ولولا وساطة يحيى وابن مالك، لأُودع حارث السجن، وجُلد مئة جلدة.

* حسنات وجوده في البلاط
عن عبد الله بن يحيى: كنت في خدمة الإمام الكاظم عليه السلام، وأقبل عليّ بن يقطين من بعيد فأشار إليه الإمام عليه السلام وقال: «مَن سرّه أن يرى رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلينظر إلى هذا المُقبل... أشهد أنّه من أهل الجنّة»(12).

كان ابن يقطين قد تكفّل بعائلة عبد الله بن يحيى، واهتمّ بأقاربه ومعارفه، كما كان يتكفّل بكلّ من يطرق بابه طالباً العون، ويقوم بإرسال الشيعة الفقراء إلى الحجّ، ويرسل الأموال للإمام عليه السلام، ويبعث إليه بمستجدّات القصر العباسيّ.

* المكيدة الثانية
اعتُقل المشتبه بهم بموالاة الإمام عليه السلام، فيما نجا نائب الإمام، وأودعوا في مكان ضيّق ومظلم تفوح منه روائح كريهة، وترتفع منه أصوات الصراخ والآهات. أحد السجناء كان مطموراً حتّى رقبته داخل حفرة فيما الصراصير والذباب والفئران الضخمة تسرح وتمرح في كلّ الأرجاء(13).

أُخبر هارون بالمستجدّات، من القبض على الروافض وتفتيش منازلهم والعثور على حجج تنبئ بالخطر، كوجود أكياس ذهب ممهورة بختم ابن يقطين ومكاتبات له مع وكيل الإمام عليه السلام، فاغتاظ هارون كثيراً، وأرجَأ البتّ بالأمر بسبب ضيوفه القادمين من بلاد الروم.

جلب وفد الروم هدايا جميلة للخليفة، وأعربوا عن حُسن النوايا والمحبّة والتقدير. حين فُتحت صناديق الهدايا التي تتضمّن أقمشة حريريّة ومسكوكات ذهبيّة، غمز يحيى البرمكيّ هارون خِفية، وأسرّ ابن مالك أمراً في أذن هارون، الذي قدّم ثوباً مُطرزاً بالذهب وثلاثة أكياس ذهب كهديّة منه إلى ابن يقطين(14).

* نتيجة المكيدة
بأمرٍ من الخليفة، كُلّف حارث بمراقبة ابن يقطين ورصد تحرّكاته. وبعد مدّة، تمكّن من تحقيق ما كان في انتظاره، حيث تتبّع مرافق ابن يقطين في إحدى الليالي، وكشف أمره ورصد إرساله الثوب والأموال إلى الإمام الكاظم عليه السلام.

كان هارون حانقاً بشدّة لدى علمه بتمرّدات العلويّين، فاستغلّ حارث الموقف ليدلي بدلوه، وأشار إلى التحرّكات السرّيّة للإمام عليه السلام، والتي أدّت إلى نفوذه في البلاط من خلال أبرز الداعمين وهو عليّ بن يقطين. أُخبر هارون أنّ عليّاً قد بعث بهديّته الفاخرة الى إمامه عليه السلام، فغضب وأمرهم باستدعائه، فاصطحبه الجنود قسراً من منزله على مرأى عائلته وذهولهم.

صبّ هارون جامّ غضبه على ابن يقطين، وسأله عن ذلك الثوب. فبدا التوتّر جليّاً على وجهه، وقال إنّه مودع في داره. ذهب الجنود بأمرٍ من هارون إلى المنزل وقلبوه رأساً على عقب دون جدوى، وفيما كانوا يَهِمّون بالخروج، إذا بزوجة عليّ تتقدّم نحوهم وقد حملت بيدها صندوقاً وسلّمته إليهم. لم يستوعب أحد كيف وجد هذا الصندوق في المنزل، ولم يتمكّنوا من الإيقاع بابن يقطين مرّة أخرى، وقد نال حارث نصيبه من العقوبة.

* سّر النجاة
لدى عودته إلى المنزل، وبعد سعيه في قضاء حاجة أحد الغرباء عن المدينة، استفسر ابن يقطين عن الموضوع من زوجته. فقالت: «بعد خروجك من المنزل، أقبل رسول على عجل وأعطاني هذا الصندوق مرفقاً برسالة»، فذهل عليّ من سماع ذلك وطالب بالرسالة. كان ابن يقطين قد طلب الإذن من الإمام عليه السلام للخروج من البلاط والتوقّف عن ممارسة أعمال الحكومة، إلّا أنّ الإمام عليه السلام أمره بالبقاء في عمله. لقد كان توقيت إرسال الإمام عليه السلام للثوب سبباً لنجاته، كما في مسألة الوضوء حيث أمره باتّباع طريقة أخرى، ممّا أزال عنه الخطر، ثمّ أرسل رسالة أخرى في اليوم نفسه يأمره بالعودة إلى الطريقة القديمة(15).

* كلام الإمام عليه السلام ووصيّته
ما جاء في رسالة الإمام عليه السلام إلى عليّ بن يقطين: «إنّ لنا بك أنساً ولإخوانك بك عزّاً.. كفّارةُ أعمالكم الإحسانُ إلى إخوانكم.. اضمن لي واحدة أضمن لك ثلاثاً؛ اضمن لي أن لا تلقى أحداً من أوليائنا إلّا قضيت حاجته وأكرمته، أضمن لك أن لا يُظلّلك سقفُ سجنٍ أبداً، ولا ينالك حدُّ سيفٍ أبداً، ولا يدخل الفقر بيتك أبداً»(16).

(1) مَهمَّة في القصر، سعيد محمّدي، ترجمة: ندى عبيد. ط1، دار المعارف الإسلاميّة. بيروت 2020م، ص38.
(2) https://imamhussain.org/islamic/27581
(3) مَهمَّة في القصر، م.س، ص12.
(4) م.ن، ص30.
(5) م.ن، ص33.
(6) م.ن، ص23.
(7) م.ن، ص37.
(8) م.ن، ص44.
(9) تفاخر بعدائه للروافض، وكما ورد في الكتاب قوله: «أنا أصلّي عند اللزوم، في النهاية نعيش في ديار المسلمين وفي مركز خلافتهم»، م.ن، ص65 و70.
(10) م.ن، ص91.
(11) م.ن، ص100.
(12) م.ن، ص86.
(13) م.ن، ص125- 126.
(14) م.ن، ص136- 138.
(15) م.ن، ص184.
(16) م.ن، ص183.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع