سماحة السيّد الشهيد هاشم صفيّ الدين (رضوان الله عليه)
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: «مِنْ أَشْرَفِ أَفْعَالِ الْكَرِيمِ غَفْلَتُهُ عَمَّا يَعْلَمُ»(1).
لقد نهى الله تعالى في العديد من آياته عن التجسّس الذي هو البحث عن عيوب المستور من عيوب الناس وتتبّع عوراتهم حتّى لا يظهر ما ستره الله منها. والمسلم الحقيقيّ المنقاد لأمر الله تعالى المُقبل على عبادته سبحانه، يشغله عيبه عن عيوب الناس وتعداد سيّئاتهم؛ لأنّه يؤدّي إلى إثارة العداوة، والكراهية، والبغضاء.
وقد نصّ القرآن الكريم على ضرر ذلك، وبيَّن فساده، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ (النور: 19).
* نهي أمير المؤمنين عليه السلام
هذه القضيّة عالجها أمير المؤمنين عليه السلام من جميع جوانبها، وهي:
1. ضرورة عدم الاشتغال بعيوب الناس
إنّ الله تعالى يعلم بكلّ ما خفي عنّا من عيوب الناس، ولكنّه ستّار العيوب ويغضّ عن معاصي العباد ويلقي الستر عليها، وهذا من كرمه العميم. لذا، كان من أشرف أعمال الإنسان الكريم صرف النظر عن العمل السيّئ الصادر عن الآخرين حفظاً لكرامتهم، وصوناً للاجتماع الإنسانيّ عن التلاشي والانحطاط.
وفي عهده لمالك الأشتر، يقول عليه السلام له: «وَلْيَكُنْ أَبْعَدَ رَعِيَّتِكَ مِنْكَ، وَأشْنَؤُهُمْ عِنْدَكَ، أَطْلَبُهُمْ لِمَعَايِبِ النَّاسِ، فإنَّ في النَّاسِ عُيُوباً، الْوَالِي أَحَقُّ مَنْ سَتَرَهَا، فَلاَ تَكْشِفَنَّ عَمَّا غَابَ عَنْكَ، فَإنَّمَا عَلَيْكَ تَطْهِيرُ مَا ظَهَرَ لَكَ، وَاللهُ يَحْكُمُ عَلَى مَا غَابَ عَنْكَ»(2).
وهذه من القرارات القياديّة لأمير المؤمنين عليه السلام التي يأمر بها الولاة والحّكام، بحيث لا بدّ من أن يكون الوالي [فضلاً عن سائر الناس] ساتراً لعيوب أفراد الرعيّة، ودارئاً للحدود بالشبهات، وحافظاً للأعراض.
ويبيّن الإمام عليه السلام أنّ من الدوافع المهمّة لعدم كشف العيوب هو أنّ ذلك موجب لستر الله تعالى على الإنسان ما يكره وما لا يحبّ كشفه أمام الآخرين.
2. أسباب كشف عيوب الناس
هذه الخصلة المعيبة في البشر لها دوافعها وأسبابها، يقول عليه السلام: «وَلاَ تَعْجَلَنَّ إِلَى تَصْدِيقِ سَاع، فَإِنَّ السَّاعِيَ غَاشٌ، وَإِنْ تَشَبَّهَ بِالنَّاصِحِينَ»(3).
بعض الناس يبذلون الجهد ويصرفون الأوقات في النميمة والوشاية بين الناس، ونشر الفساد والحقد والضغينة من خلال بثّ الإشاعات والأكاذيب عن الآخرين، لذا، ينبغي الحذر من أقوالهم وأفعالهم؛ لأنّهم لا يقولون صدقاً، ولا يفعلون إلّا عيباً، ومن الطبيعيّ أن يتوسّلوا إلى ذلك بثوب الصلاح والنصيحة، ولكنّهم في واقع حالهم كاذبين غير ناصحين ولا ساعين إلى الخير. من هنا، فإنّ من أسباب كشف العيوب عن الآخرين وجود خصال الشرّ لدى البعض كالغيبة والنميمة والبهتان والكذب والتدليس.
3. الآثار والنتائج
تظهر الآثار السلبيّة لعمليّة كشف عيوب الآخرين من خلال ما يترتّب على ذلك من نشر الفساد الاجتماعيّ، وعدم الثقة بين الناس، والكراهية، والحقد والضغينة، وانتشار هذه الحالة بين جميع أفراد المجتمع، يقول عليه السلام: «مَنْ أَسْرَعَ إِلَى النَّاسِ بِمَا يَكْرَهُونَ، قَالُوا فِيهِ بما لاَ يَعْلَمُونَ»(4).
* معالجة الظاهرة الخطيرة
عدّ أمير المؤمنين عليه السلام هذه الظاهرة والآفة من الظواهر المرضيّة الخطيرة، فوضع لها جملة من القوانين والآداب التي تكفل القضاء عليها من خلال ما يأتي:
1. الاشتغال بعيوب النفس: من اشتغل بعيب نفسه، صرفه ذلك عن النظر إلى عيوب الآخرين، يقول عليه السلام: «مَنْ نَظَرَ فِي عَيْبِ نَفْسِهِ اشْتَغَلَ عَنْ عَيْبِ غَيْرهِ»(5).
2. الخوف من الله: يقول عليه السلام: «وَأَنْ تَتَّقِيَ اللهَ فِي حَدِيثِ غَيْرِكَ»(6).
3. عدم التسرّع في الكلام عن الآخرين: إذا كانت في الآخرين عيوب مثل ارتكاب المعاصي والذنوب، فليس ذلك مبرّراً لفضحهم، فلربّما تاب العاصي، وكفّر المذنب عن سيّئاته، فيدخل في رحمته تعالى وتحت ظلّ محبّته حيث يحبّ التوّابين.
فالذاكر لعيوب الناس في مثل هذه الحال يكون عاصياً، والمغتاب يكون قد خرج من عنوان المعصية، يقول عليه السلام: «يَا عَبْدَ اللهِ، لاَ تَعْجَلْ فِي عَيْبِ أَحَد بِذَنْبِهِ، فَلَعَلَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ، وَلاَ تَأْمَنْ عَلَى نَفْسِكَ صَغِيرَ مَعْصِيَة، فَلَعَلَّكَ مُعَذَّبٌ عَلَيْهِ. فَلْيَكْفُفْ مَنْ عَلِمَ مِنْكُمْ عَيْبَ غَيْرِهِ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ عَيْبِ نَفْسِهِ، وَلْيَكُنِ الشُّكْرُ شَاغِلاً لَهُ عَلَى مُعَافَاتِهِ مِمَّا ابْتُلِيَ بِهِ غَيْرُهُ»(7).
4. الكلام عن الآخرين موجب للمبادلة بالمثل: إنّ الحديث عن الآخرين وتناولهم في عيوبهم موجب في الوقت ذاته لقيام هؤلاء بالأمر نفسه كما يقول عليه السلام: «وَمَا يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ أَنْ يَسْتَقْبِلَ أَخَاهُ بِمَا يَخَافُ مِنْ عَيْبِهِ، إِلّا مَخَافَةُ أَنْ يَسْتَقْبِلَهُ بِمِثْلِهِ»(8).
وفي الوقت الذي يتجنّب فيه الإنسان ذكر عيوب الآخرين، فإنّهم أيضاً يعاملونه بالمثل، وإلى ذلك يشير عليه السلام بقوله: «فَاسْتُرِ الْعَوْرَةَ مَا اسْتَطَعْتَ، يَسْتُرِ اللهُ مِنْكَ ما تُحِبُّ سَتْرَهُ مِنْ رَعِيَّتِكَ»(9).
من خلال هذا المنهج العلويّ، يمكن تحقيق السعادة الاجتماعيّة التي يتطلّع إليها الناس، فلا يغتب بعضهم بعضاً، ويحترم كلّ فرد خصوصيّات الآخرين، ولا يتعرّض لأحد بسوء.
(1) نهج البلاغة، الحكمة 211.
(2) المصدر نفسه، الرسالة 53.
(3) المصدر نفسه، الرسالة 53.
(4) المصدر نفسه، الحكمة 35.
(5) المصدر نفسه، الحكمة 349.
(6) المصدر نفسه، الحكمة 458.
(7) المصدر نفسه، الخطبة 140.
(8) المصدر نفسه، الرسالة 113.
(9) المصدر نفسه، الرسالة 53.