أتقدم بأسمى آيات التبريك في هذا العيد السعيد والعظيم لجميع المسلمين والمستضعفين والمتطلعين إلى العدالة في العالم، سيّما الذين أثبتوا عشقهم عملياً لمقام الولاية العظمى.
هناك حقائق جمّة مكنونة في حادثة الغدير:
إجمال القضية: في المجتمع الإسلامي الحديث العهد في ذلك اليوم، حيث لم يمر عشر سنوات على انتصار الإسلام وعلى تشكيل ذلك المجتمع، يقدم النبي المكرّم صلى الله عليه وآله وسلم ويقوم ببث مسألة الحكومة والإمامة بمعناها الشامل وينصّب أمير المؤمنين علياً عليه السلام إماماً للمسلمين في غدير خم حينما كان عائداً من الحج.
ظاهر القضية هذه مهمّ جداً، وخاصّة عند أهل التحقيق والتدبير في قضايا مجمتع ثوري، فهو يعتبر تدبيراً إلهياً سابقاً، ولكن هناك حقائق كبيرة مكنونة خلف هذا الظاهر، في حال قامت الأمّة الإسلامية والمجتمع الإسلامي بالنظر إليها والتدقيق في النقاط البارزة منها. سيتضح لهما نهج الحياة وطريقها، وبشكل عام وأساسي، لو دقّق عامّة المسلمين في قضية الغدير سواء الشيعة الذين يعتبرون هذه القضية قضية إمامة وولاية أم غير الشيعة الذين يقرّون بأصل القضية ولكن استنتاجاتهم من هذه المسألة، ليس مسألة الإمامة والولاية، إنّما شيء آخر لو دقّق عامّة المسلمين بأجمعهم وبكلّ فرقهم في هذه القضية وجعلوا كلّ توجّههم اليوم وتمركزهم في هذه النقاط الموجودة في قضية الغدير، لعلّ ذلك يحمل في طياته نتائج إيجابية كثيرة للمسلمين، وأنا هنا سأسلّط الضوء على واحدة أو اثنتين من هذه النقاط وسأشير إليها بشكل موجز ومختصر.
* معايير الحاكمية
فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم في يوم الغدير وضع نصب أعين المسلمين وناظري التاريخ إنساناً كان يحظى بالموازين الإسلامية بشكل كامل، إنساناً مؤمناً على أعلى درجة من التقوى والورع ومضحياً في سبيل الدين، غير راغب بالدنيا ومغرياتها، إنساناً مجرباً قد أدّى الامتحان في جميع الساحات الإسلامية وساحات الخطر، ساحات العلم والتفقه وساحات التحكيم والقضاء ومثال ذلك، فبإثارة أمير المؤمنين عليه السلام وتعيينه حاكماً وإماماً وولياً للمسلمين ينبغي على المسلمين على مدى التاريخ أن يعرفوا بأنّ الحاكم الإسلامي،
يجب أن يكون في هذا الاتجاه، ومن هذا الصنف وقريباً إلى هذا النموذج والمثال.
إذاً، في المجتمعات الإسلامية، لا يصلح للحكومة أولئك الذين ليس لهم نصيب من هذه القيم، ولا يتوفّر فيهم الفهم الإسلامي والعمل الإسلامي والجهاد الإسلامي والإنفاق والتسامح والتواضع والتراحم أمام عباد الله وسائر تلك الخصال التي كان يحملها أمير المؤمنين.
فأولئك الذين لا يمتازون بهذه الخصوصيات ليسوا أهلاً لتولّي الحكم وزمام الأمور، فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد وضع هذه الموازين أمام المسلمين وطلب منهم أن يدرسوا دائماً هذا الدرس المليء بالعبر.
* إقامة العدل
النقطة الأخرى التي يمكن فهمها من حادثة الغدير هي أنّ أمير المؤمنين، في نفس تلك السنوات التي تولى فيها الخلافة والحكم بيّن أنّ أولى أولوياته العقائدية استقرار العدل الإلهي والإسلامي .. العدالة.. أي تأمين ذلك الهدف الذي عبّر عنه القرآن بأنّه كان الهدف من إرسال الرسل وتنزيل الشرائع السماوية في قوله تعالى:"وليقوم الناس بالقسط".. إقامة القسط الإلهي، القسط والعدل بالأوامر التي وضعها الإسلام لذلك، حيث أنّها أفضل ضمان لتوفّر العدالة.
هذا في عقيدة أمير المؤمنين في مرتبة الأولويات الأولى، فيقوم المجتمع الإسلامي بالعدل والقسط ويمكنه بذلك أن يكون شاهداً ومبشراً ومشعلاً هادياً لشعوب العالم، وبدون العدل لا يمكن ذلك. فمتى اكتسب المجتمع كلّ القيم المادية والظاهرية والدنيوية، ولم تتوفّر فيه العدالة، لن يغير من الواقع شيئاً، فهذه هي أكثر المسائل بروزاً في حياة أمير المؤمنين ونهجه في الحكم.
فالرسول الأكرم الذي اختار قائداً كهذا لتولي الحكومة والخلافة وولاية أمر المسلمين، في الحقيقة يبيّن لنا أهمية العدل، فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم يعرف أين يفكّر أمير المؤمنين، فهو ثمرة تربية الرسول.. تلميذ الرسول.. المطيع والمنفذ لأوامره ودروسه، فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم بتنصيبه لأمير المؤمنين عليه السلام، في الواقع قد أعطى للعدل في المجتمع الإسلامي الاهتمام الفائق كما أنّ أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام طوال تلك الأعوام الأربعة والشهور التسعة أو العشرة من خلافته أو توليه للحكم الظاهري كان اهتمامه الأكبر يرتكز على استقرار العدل في المجتمع و"العدالة".
لقد كان يعتبر أنّ ذلك الموجب لاستمرار حياة الإسلام وفي الحقيقة استمرار روح الإسلام والمجتمع الإسلامي وهذا هو الأمر الذي تحتاجه الشعوب. وهذا ما حرمت منه المجتمعات الإنسانية في مراحلها المختلفة، قبل ذلك أيضاً كانوا يعانون من الحرمان.
* مشكلة البشرية
واليوم أيضاً عندما ينظرون إلى ساحات العالم والأعمال التي تمارسها القوى العظمى وأسلوب الحكم الذي يمارسه الحكام الماديون في العالم ستلاحظون ثانية أنّ المشكلة هي نفسها، فمشكلة البشرية هي فقدان العدالة، أمير المؤمنين يؤكّد على العدالة بين المسلمين في المجتمع الإسلامي ويمنع أن تبذل أموال بيت المال في الإسراف أو تترك للأيدي التطاول على بيت المال، أو يبذل أحد أموال بيت المال بغير حق، ومعلوم أنّ النظام المالي في عهد الإمام لم يكن على شاكلته، والنظام المالي الجديد والنمو الموجود في العالم، لم يكن معمولاً به آنذاك، فنفس هذا كان أمير المؤمنين يقسم المال بشكل سوي، فكان يقسم أموال بيت المال بين الصحابة وغير الصحابة والقريبين والهاشميين، وغير القرشيين وغير آل بيت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والكل بشكل سواء، وقد كان ذلك سبباً في اعتراض الكثيرين، لكنّ أمير المؤمنين لم يبالِ.
إنّ وضع تقسيم أموال بيت المال اليوم ليس عادلاً على ذلك النحو، والتقسيم اليوم ليس على نحو السواسية، فهناك أساليب أخرى في امتهان العدالة ينبغي اليوم على المتعاملين مع بيت مال المسلمين تجنّب استهلاك أو بذلك بيت المال في غير الاستهلاك العام والشعبي.
والتقسيم العادل لأموال بيت المال هذا هو سبيله، فإذا لا سمح الله أسرف مسؤول ما في أمور بيت المال أو استخدامه في الاستهلاك الخاص "الشخصي" أو على الأصدقاء والأقارب والمرتبطين هذا يكون تخلّفاً عن العدل والقرار الواقعي في أمر بيت المال، يجب أن تبذل أموال بيت المال في الأمور التي حدّدت قانونياً، ألا وهي المصارف العامّة نفسها، فهناك فروع وكلّ فرع يتولّى إحدى وظائف البلد.
* مثال العدل
ولذلك تشديد أمير المؤمنين عليه السلام في ذاك اليوم. والذي يعبر عنه اليوم بالتعميم "على كلّ الإدارات"، يبيّن بقوله "ادقوا أقلامكم"..
ادقوا رأس قلمكم الذي تكتبون فيه فهو اقتصاد في الأقلام واقتصاد في الورق "وقاربوا بين سطوركم"، سطور كتابتكم في الورقة، قربوها واقتصدوا باستهلاك الورق "واقصدوا قصد المعاني" اكتبوا الأشياء الضرورية وامتنعوا عن الإسراف بالكتابة فإذا أراد اليوم أن يكرّر هذا الكلام علينا يصبح كلامه على هذا النحو.
امتنعوا عن إيجاد الأجهزة الزائدة والتوظيف الزائد والتوسيع الزائد "في المباني"، ويجب عدم تكديس الأوراق والإكثار في الكتابات التي لا فائدة منها "أي العبثية" والمضيعة للوقت.
وبديهي أنّ البشري العادي لا في هذا الزمن ولا في ذاك الزمن غير قادر على أن يسلك سلوك ذلك العظيم الشأن، أو يقيم العدالة على ذلك النحو أو أن يعيش على تلك الحال التي كان يعيشها عليه السلام فهذا الشيء واضح.
المسألة هنا أنّه هو النموذج الكامل، ويجب علينا أن نسعى لأن نقرب أنفسنا إلى ذلك النموذج أكثر فأكثر، ونجعل أنفسنا أكثر شبهاً به فلو كانت حركتنا على نحو تصبح في حال ابتعاد عن ذلك النموذج الكامل، هذا انحراف وخطأ. التركيز على العدالة والتحكيم إلى العدالة هو ذاك السر الأساسي في عداوة أعداء الإسلام للإسلام خاصّة في عصرنا ففي الأزمنة الماضية كان كذلك ولكن اليوم السبب في مخالفة القوى العظمى لنا وللجمهورية الإسلامية ولكن هو شعورهم بالعداوة تجاهكم، ولأنّ الجمهورية الإسلامية تنادي بعدالة كتلك العدالة بين كلّ الشعوب وبين جميع الناس وبدون ملاحظة فلان من الطائفة الفلانية أو من الدم الفلاني أو اللون الفلاني.
فأمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام في المجتمع الإسلامي، وفي خلافته لم يكن ينظر هل هذا مسلم أم مسيحي أم يهودي، كان حافظاً لمصالحهم جميعاً وحريصاً عليهم جميعاً، ومجتمعنا الإسلامي اليوم هذا الذي نريده أن يتعامل مع مجتمع الإمام علي عليه الصلاة والسلام لا تريده القوى العظمى على هذه الصيغة، فحياة القوى العظمى قائمة على الهيمنة والعنجهية وعلى الطمع وطلب الزيادة وعلى النفوذ والسيطرة على محيط حياة الشعوب وحرمانهم واستضعافهم لمصلحتها، ولذلك ترون أنّ هؤلاء المستكبرين غير مرتاحين لتوجه الجمهورية الإسلامية، ويقومون بالإعلام والضغوطات الإعلامية والسياسية والحظر الاقتصادي وكلّ ما يمكنهم توجيهه ضدّها ويسعون لوضع الجمهورية الإسلامية في حالة انزواء وتحت ضغط اللطمات والضربات.
* أمل الشعوب
فكلّ ذلك ناتج عن خوفهم من العدالة، خوف من العدالة الإسلامية وأنتم المنادون والناشدون لتلك العدالة، أنتم يا شعب إيران، الشعوب تحب العدالة بل هي متعطّشة لها، وإذا رأوا أنّ شعباً يحمل راية العدالة في مواجهة الأقويات المتسلطين في العالم، ويضحّون في سبيل إعلاء رايتهم، ويتصدّون لمن يتجاوزها سيشعر ذلك الشعب بالدفء والأمل، وهذا شيء حدث.
فبعد انتصار الثورة حتّى اليوم، كانت الشعوب تنظر إليكم دوماً، حيث أنتم شعب إيران وكانت تنظر إلى تضحياتكم وصبركم ووفائكم للإسلام والقرآن وإلى عشقكم للقرآن والإسلام ومقام الولاية العظمى، فمسككم وحبّكم لقطع مسافة هذا الطريق والنهج وإيمانكم بأنّ الحياة الحسنة تؤمن في ظلّ الجمهورية الإسلامية لا غير. وهو كذلك فالرفاه والسعادة والسرور والصلح والسلام والأمن عند شعب ما هو في ظل الإيمان بالله وإعلاء القيم الإلهية لا غير، فالشعوب عرفت هذه الروح عند شعبنا وعرفوا تصدّي شعبنا، فهذه القوى العظمى قاطبة الشعوب الضعيفة أيضاً تنظر إلى هذا الشعب وتأخذ الدروس منه، فتصديكم جعل العالم بأسره يقف بوجه ظلم الاستكبار وجور القوى الكبرى وعنجهيتها.
فالعالم لم يكن كذلك، العلاج الوحيد أمام الظلم والتعدّي والتجاوزات وعدم شعبية الاستكبار، هو عبارة عن التصدّي والصمود على المعايير والموازين التي يعد يوم الغدير النبراس والرمز الحقيقي لها.
إنّ العدالة والسعي من أجل الله وإعطاء الاهتمام للتقوى والجهاد في سبيل الله، والصمود على هذه الموازين هو الذي يمكنه أن يفتح هذا الطريق أمام الشعب الإيراني أكثر ويمهده أكثر، القوى العظمى أخطأت إن كانت تظنّ أنّ بإمكانها أن تهزم شعباً قلبه مؤمن بالأصول الإلهية والإسلامية، شعب كهذا لا يمكن هزيمته.
شعب إيران بالتضحيات التي قدّمها الحمد لله وبصموده في هذه الساحة بدأ اليوم يرى بعينه آثارها اللذيذة الطيبة، فشعبنا اليوم هو شعب عزيز وشامخ "مرفوع" الرأس ومستقل، فأفراد الشعب وقواه جاهزون للعمل والسعي لأجل تطوير البلد وأخذه للأمام فهذه تُعدّ قيماً عالية للشعب، فعندما تكون القوى العظمى مهيمنة على حكومة ما، وشعب ما يسلبون هذه الفرص والإمكانيات من ذلك الشعب، كما قد سلبوا منّا ذلك طوال الأعوام السوداء من حكم "سلطنة" الطواغيت.
نسأل الله المتعالي أن يجعلنا أصحاب خطى ثابتة في سبيل الإيمان بالقرآن والإسلام ومقام الولاية وأن ينزل علينا المزيد من التوفيق.
وإن شاء الله يسعى المسلمون في أيّ بلدٍ إسلامي كانوا ومن أيّ فرقة إسلامية كانوا لتقريب قلوبهم إلى بعضهم أكثر فأكثر وأن يحفظوا الوحدة فيما بينهم، ألا وإنّ هذا هو بحدّ ذاته سلاح كبير في وجه أعداء الإسلام.