* أهمية حفظ الأمانة وإجراء العدالة
اتضح من خلال البحث السابق أن معرفة الله ومشاهدته في جميع الأحوال تدفع أي نوع من الغفلة وتزيل كل ظلمة وفساد. وحيث أن المناصب والمسؤوليات في النظام الإسلامي قد جعلت بأيدي العاملين تحت عنوان الأمانة الإلهية والميثاق الإسلامي، فإن العاملين مكلفون بأداء المقررات التنظيمية، أما الخيانة فيها فإنها من الذنوب الكبيرة. أما الشيء الوحيد الذي يحفظ الإنسان من مثل هذه الانحرافات فهو ذكر الله سبحانه، وأهم وأعظم تجل لهذا الذكر هو الصلاة.
ولهذا ذكرنا في البحث السابق تأثير الصلاة في تنزيه الإنسان من المعاصي والكدورات، وكذلك صلاح المصلي وتنزهه من كل أنواع الرذائل الفردية والمفاسد الاجتماعية. وأضحى مسلماً أن العامل المسلم هو الذي يعظم جميع المسؤوليات الاجتماعية الملقاة على عاتقه ويؤديها على أكمل وجه حافظاً إياها من الخيانة بالأمانة التي هي فضيلة إلهية. وبما أن أداء الأمانة يتمتع بأهمية خاصة، فقد تعرض لذكره القرآن الكريم ببيانات عديدة عرضنا بعضها سابقاً وما نريد ذكره الآن هذه الآية الشريفة:
﴿إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات التي أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعماً يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيراً﴾ (النساء: 58).
فمعنى رعاية العدالة في الأمانة هو رعاية جميع شؤون المسؤوليات الإدارية وأشباهها. أما هذه الموعظة الإلهية فهي الجاذبة للإنسان إلى الله.
ويظهر هذا المعنى المهم في سورة الأنفال بقوله تعالى:
﴿يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون﴾ (الأنفال، 27).
فكما أن عدم رعاية التكاليف العبادية خيانة لله سبحانه، وعدم احترام قيادة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم خيانة لحضرته، فإن عدم تنفيذ الوظائف الاجتماعية وعدم العمل بمقتضى المسؤولية، كل هذه تعدّ خيانة بالنسبة لأمانات الناس وهي تضييع لحقوق الأمة الإسلامية. إن الأثر السيء للخيانة في الأموال والأعراض وحقوق المسلمين هو كبير إلى درجة أنه عد خيانة لله ورسوله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم. وليس هذا الاقتران أمراً على نحو الصدفة، بل بسبب التقارب والارتباط بالمعنوي. ولهذا اعتبرت الخيانة في الأمانة من أسوأ الذنوب. وإحدى الأعمال الأدبية الدقيقة التي تشاهد بوضوح في الأحاديث الفصيحة والبيانات البليغة - وخصوصاً في القرآن الكريم - هي أن المسائل إذا كانت تتمتع بأهمية كبرى، فإنها تذكر لأجل التعبير عن أهميتها الفائقة إلى جانب الأمور المهمة والمعروفة. فعلى سبيل المثال نجد أن القرآن الكريم يذكر أهمية أداء حق الوالدين وتقديرهما إلى جانب شكر الله:
﴿أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير﴾ (لقمان: 14).
لأن الوالدين هما مجرى الفيض الإلهي، وشكرهما جعل إلى جانب شكر الله، وهذا دليل على أهميته.
ورعاية حقوق الأرحام في الإسلام عظيمة إلى درجة أن اجتناب تضييعها قد جعل إلى جانب اجتناب المعاصي والذنوب
﴿واتقوا الله الذي تسائلون به والأرحام﴾ (النساء: 1).
وخلاصة الأمر أن مثل هذه التعبيرات الأدبية والطرائف الكلامية تدل على أهمية المطلب. سواء من جهة الإثبات كتثبيت حق الشكر للوالدين، وحق الرحم، أو من جهة النفي كذكر تحريم خيانة حقوق الناس إلى جانب تحريم خيانة حق الله سبحانه وحق الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
لهذا، يجب على كل أمين يراعي حرمة الأمانة أن يردها إلى صاحبها سالمة مصونة. وكمثال على ذلك، فالإمامة أمانة إلهية استودعها الله سبحانه الإمام السابق ليؤديها سليمة إلى الإمام اللاحق، ولا يمكن للإمام السابق أن يجيز سوء التصرف بها. فهذه الأمانة إلهية محفوظة عند الأئمة، وهي تنتقل من إمام إلى إمام كوديعة إلهية يسألون عنها.
﴿إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها﴾. وفي الأمانات العادية كحقوق الناس وأموالهم، فإن كل فرد مكلف بالسعي لصيانتها من التلف وإيصالها إلى صاحبها سالمة.
﴿فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي أؤتمن أمانته وليتق الله ربه﴾ (البقرة: 183).
لقد كان موضوع رعاية الأمانة في القرآن الكريم مهماً إلى درجة أن الله يأمر به أحياناً، كالآيات السابقة، وأحياناً يأتي النهي عن خيانتها، وتعتبر الخيانة خيانة لروح الإنسان، كما يقول الله تعالى:
﴿ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم أن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً﴾ (النساء: 107).
إن تعبير القرآن في الاهتمام بخطر خيانة الأمانة هو قوله أن الخائن لحقوق الآخرين إنما يخون نفسه وروحه. وهذا الحديث وإن كان مطروحاً كأحد الأصول في القرآن الكريم في عدم الفصل بين العمل والعامل، بل الارتباط المباشر بينهما
﴿إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم ولأن أسأتم فلها﴾، ولكن طرح هذا الأصل بخصوص بعض الأعمال، يدل على أهمية ذلك العمل.
ومن هنا يعلم أن العامل - على أي مستوى كان - إذا كان يرى خيانة حقوق الأمة الإسلامية جائزاً. فإنه يكون قد خان نفسه
﴿يختانون أنفسهم﴾، ويستفاد من هذا التعبير الدقيق مطلب آخر يعين أساس التعاضد في المجتمع الإسلامي واتحاد الأمة الدينية، وذلك لأن أفراد المجتمع الإسلامي هم بمنزلة أعضاء الجسد الواحد. فإذا جرت خيانة لفرد، فكأن الجميع قد تعرضوا لذلك، وإذا ضاع حق واحد منهم فكأن حقوق الجميع قد ضاعت.
ولهذا يبين القرآن الكريم أن أولئك الذين يخونون الآخرين إنما يخونون أنفسهم، وذلك لارتباطهم الكامل بالآخرين، وكونهم أعضاء جسم واحد. وبالنظر إلى التفسيرين والمعنيين، فإن ما يستفاد هو أهمية خطر الخيانة الذي يحرم المجتمع الإسلامي من لطف الله ومحبته، لأن الله لا يحب المجتمع الخائن. وإذا حرمت الأمة من محبة الله، فإنها لن تحصل على نصر الله عند الحوادث والمصائب، بل تضطر إلى التسليم والخضوع الذليل للمعتدين متحملة كل أنواع الظلم.
وحول خطورة الخيانة في أمانة المسلم، يوجد تعبير آخر في القرآن الكريم، وهو أن الإنسان الخائن سوف يحشر يوم القيامة مع خيانته وهناك لن يكون له إلا الخزي والفضيحة والعذاب الأبدي. وكما ذكر سابقاً بأن كل مسيء سوف يرى عمله السيء
﴿يريهم الله أعمالهم حسرات﴾ (البقرة: 167)، لكن بوجود بيان خاص حول الخيانة وحشر الخائن مع عمله، مما يدل على شدة العقوبة وخطورة المعصية
﴿وما كان لنبي أن يغلّ ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون﴾ (آل عمران: 161)، وترى هذه الآية خطورة الغلو والخيانة في مستوى لا يتخلص الخائن فيه من مخالبها، ولا يحشر إلا معها ولا يقدر على إخفائها.
وفي الختام ينبغي أن نشير إلى هذه النقطة وهي أن العامل في النظام الإسلامي مكلف بحفظ حقوق جميع الأفراد الذين يعيشون داخل حدود الحكومة الإسلامية وضمن حماية الإسلام، ويتبعون أنظمة الحكومة الدينية، ويجتنبون إضعافها، ولا يجوز خيانة أمانة أي فرد سواء كان مسلماً أم لا. لأن رعاية الأمانة وحرمة الخيانة من الأحكام الدولية للإسلام، ولا تختص بحدود المسلمين أو كيانهم. بل يجب على كل مسلم أن يحفظ أمانة الآخرين، ولا يخونها. سواء كان صاحبها مسلماً أم لا.
يقول الإمام الصادق عليه السلام:
"اعلم أن ضارب علي بالسيف وقاتله لو ائتمنني واستنصحني واستشارني ثم قبلت ذلك منه لأديت إليه الأمانة".
لهذا، فإن ضرورة رعاية الأمانة من الأمور التي لا تختص بدائرة المسلمين، بل هي واجبة بحق الآخرين، وعلى كل إنسان أن يحاسب نفسه ليرى هل هو مسلم حقيقي أم مسلم عادي اعتاد على أداء بعض الأحكام الإسلامية دون الإيمان بها. وهل آمن بالإسلام بجميع أحكامه وتعاليمه السماوية أم هو مسلم تقليدي اعتاد على تطبيق بعض الشعائر الرائجة؟
ويبين الإمام الصادق عليه السلام معياراً يمكن من خلاله إجراء المحاسبة ومعرفة ما إذا كان الإسلام الحقيقي قد ترسّخ في أعماقنا أم لا فيقول عليه السلام:
"لا تنظروا إلى طور ركوع الرجل وسجوده، فإن ذلك شيء اعتاده فلو تركه استوحش لذلك، ولكن انظروا إلى صدق حديثه وأداء أمانته".
* إجراء العدالة أهم عامل لبقاء النظام
لقد اتضح في الأبحاث السابقة أن المسؤوليات والمناصب في نظام الجمهورية الإسلامية ليست إلا وظيفة دينية وأمانة للأمة الإسلامية. وإن حفظها من الخيانة والتعدي من الأحكام الإلهية المفروضة، بل أن خيانتها تعدّ من الذنوب الكبرى. والإنسان الخائن إنما يخون نفسه بالإضافة إلى أنه يحشر مع خيانته يوم القيامة حيث ينال الخزي والفضيحة الكبرى. وهذا أسوأ أثر للخيانة التي لا تترك صاحبها أبداً.
ما هو مطروح الآن إن جميع المناصب والمسؤوليات في أي نظام إنما هي مرهونة ببقاء النظام ودوامه. فالمنصب محترم والمقام عظيم عندما يكون النظام محفوظاً، ومن أخطار الزلازل والحوادث مصوناً. ومن جانب آخر، إنما يبقى النظام ويكون مكرّماً عند الناس ومحمياً من قبل جميع آحاد الأمة حين يعتبر المسؤولون فيه أن مواقعهم ليست إلا أمانة للشعب، وأنهم أنفسهم أمناء عند الله وعليهم أن يحرروا هذه الأمانة ببذل المساعي والجهود. وإلا، فإنّ الأمة التي لا ترى مسؤوليها يؤدون الأمانة الموكلة إليهم ولا يحفظونها من لوث الخيانة، فإنها لن تحميهم لأنها لن تحس الظن بهم، وشيئاً فشيئاً تتفسّخ عن النظام، وبتهدمّه لن يبقى مكان للمناصب والمقامات ولن يكون هناك مجال لحكومة المسؤولين.
إن القرآن الكريم عندما يدعو المجتمع الإسلامي إلى الاتحاد والتعاون ويحذرهم من الفرقة والتشرذم فذلك ضمن إطار رعاية الحقوق المتقابلة بين المسؤولين والرعية، لأن القرآن يرى عامل الوحدة والانسجام في أداء الأمانة، ويبدأ بتعريف الجميع عليها ثم يؤكد على حفظ الاتحاد واجتناب التفرق، بشكل كبير. فالأمانة إذا ضاعت من المجتمع، فإن الوحدة والتعاون يزولان معها، وبعدها لن يكون أي أمل بدوامه واستمراره.
تقول سيدة نساء العالمين حضرة فاطمة الزهراء سلام الله عليها:
"فرض الله الإيمان تطهيراً من الشرك... والعدل تسكيناً للقلوب، والطاعة نظاماً للملة، والإمامة لماً من الفرقة... والعدل في الأحكام إيناساً للرعية"4.
فالقلوب المستوحشة من الجور لا يمكن أن تظمئن إلى النظام الذي لا يراعي هذا الشرط لأن الله لا يوجه قلوبهم إلا إلى الذين يتمتعون بقداسة الإيمان والاعتقاد السالم ويؤدون بموازاة ذلك العمل الصالح.
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا﴾ (مريم: 96). وعندها يذعن أفراد الأمة لهؤلاء الأمناء بالطاعة مما يؤدي إلى ضمان استمرار النظام، وتكون الإمامة والقيادة سبباً لتوحد الشعب وحفظه.
وخلاصة الكلام إن ثبات أي نظام حكومي مرهون بتوجه قلوب الأفراد الذين يعيشون تحت ظله إلى مسؤوليه. ومن جانب آخر، فإن قلوب الأفراد بيد الله خالق الخلق ومقلب القلوب. ولا أحد يقدر على السيطرة عليها وفسخ عزائمها ونقض هممها وفتح مغالقها إلا هو سبحانه وتعالى. وأيضاً، فإن سنة الله في خلقه هي أن القلوب تتوجه وتنجذب إلى الذين آمنوا وطهّروا أرواحهم ويزهوها، وعملوا الصالحات وسلكوا طريق الصلاح:
﴿إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا﴾.
وحيث أن الأعمال ترتبط بالقلوب، فلا تنجز إلا بتوجهها، وبما أن قلوب العباد بيد خالقها، يقول النبي إبراهيم عليه السلام:
﴿ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهودي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون﴾ (إبراهيم: 37).
فبدون رغبة القلوب لا يقام عمل، وبدون طهارة ضمائر المسؤولين وصلاحهم لا تنجذب القلوب إليهم، وذكرت الصلاة كمقدمة لتأمين مجال انجذاب القلوب إلى المصلين بحق.
يقول الإمام السجاد عليه السلام في بيان الحقوق المتقابلة للهيئة الحاكمة والشعب وضرورة رعاية حق الوالي وحق الرعية:
"وأما حق رعيتك بالسلطان فأن تعلم أنهم إنما صروا رعيتك لضعفهم وقوتك، فيجب أن تعدل فيهم وتكون لهم كالوالد الرحيم وتغفر لهم جهلهم ولا تعاجلهم بالعقوبة وتشكر الله عز وجل على ما أتاك من القوة عليهم"5.
فعلى الوالي أن يعمل أن هذه نعمة للامتحان أعطاه الله إياها.
وينبغي الالتفات إلى هذه النقطة وهي أن عدم رعاية أموال المسلمين وإتلافها خطير جداً إلى درجة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "وحرمة ماله كحرمة دمه"6.
وحيث أن أي إهمال أو تساهل في أداء الوظائف المطلوبة في النظام الإسلامي يعد بمنزلة إهدار أموال الأمة وحقوقها، لهذا ينبغي اجتناب التأخير عن الحضور إلى مراكز العمل أو الإسراع في الخروج منه أو غلق الأبواب أمام المراجعين بدون مبرر أو أي عمل خشن. وبما أن خيانة الأمانة، ونقض العهود والمواثيق من علامات النفاق، فإن العامل الإسلامي يتقي ذلك بشدة.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام في ذم عمرو بن العاص ونفاقه:
"إنه ليقُولُ فيكذبُ ويَعدُ فيُخلفُ ويسألُ فيُحلفُ ويُسألُ فَيَبخلُ ويخُونُ العَهدَ ويقطعُ الآلَّ" (أي الروابط القريبة والصحيحة)7.
فإذا تعهد العامل في النظام الإسلامي أن يؤدي العمل بشكل كامل، ثم تخلف فيه، أو لم يؤده أو لم يتمه فإنه سيصاب بالنفاق الخفي الذي يتحول تدريجياً إلى نفاق جلي. كما يحدث في الرياء الذي هو شرك خفي حيث يؤدي إلى تهيئة ظروف الشرك اللجي. وكما ذكر سابقاً فإن أهم عامل لثبات النظام واستقراره هو الاتحاد والانسجام بين أفراد الشعب، وأساس هذه الوحدة هو ارتباط قلوب آحاد الأمة، والعامل الوحيد الذي يحقق هذا الارتباط القلبي هو الشعور بعدالة المسؤولين وأمانتهم.
ولهذا نجد أن أمير المؤمنين عليه السلام يقول في عهده لمالك الأشتر: "... إن أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد وظهور مودة الرعية وأنه لا يظهر مودتهم إلا بسلامة صدورهم ولا تصح نصيحتهم إلا بحيطتهم على ولاة أمورهم وقلة استثقال دولهم وترك استبطاء انقطاع مدتهم"8.
فعلى كل عامل أن يدرك أن بقاءه في ظل عدله، وأن انجذاب قلوب الرعية مرهون بذلك أيضاً، يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "إن الوالي إذا اختلف هواه منعه ذلك كثيراً من العدل فليكن أمر الناس عندك في الحق سواء، فإنه ليس في الجور عوض من العدل"9.
ولعل أهم عوامل انجذاب الناس إلى النبي الأك
رم صلى الله عليه وآله وسلم هو صفة الأمانة وتميزه بها واشتهاره بأنه "الأمين". وكذلك كانت رأفته ورحمته من أفضل الصفات القيادية فيه، والتي عملت على استمرار الرسالة والهداية:
﴿فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله يحب المتوكلين﴾ (آل عمران: 159).
إذا كان القرآن الكريم يعتبر أساس النظام الإسلامي هو أمانة قائده ورأفته، وإذا كان يعتبر القائد الإسلامي بكل خصاله وصفاته نموذجاً وأسوة للأمة الإسلامية ويقول للجميع:
﴿لقد كان لكم في رسول لله أسوة حسنة﴾ (الأحزاب: 21).
وإذ كان جميع العاملين في النظام الإسلامي يمثلون، كل في موقعه، الخطوط الأصيلة لقيادة الإسلام، فإنه يجب على الجميع أن يكونوا أمناء ورؤوفين مع من يعملون لأجله، ويراقبوا أيديهم وألسنتهم لأن: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده".
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: عندما أرسلني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليمن، سألته: كيف أصلي بهم؟ قال: (صلِّ بهم كصلاة أضعفهم وكن بالمؤمنين رحيماً"10
فكن في جميع شؤون الحياة رؤوفاً بالضعيف، حتى في الصلاة التي هي تجلٍ لعبادة الرب. فكلما قام الإنسان بأركانها وأذكارها واستمر عليها وطوّلها يستفيد من الفيض الأكثر، وفي هذا المورد نجد الشرع المقدس قد التفت إلى حق الضعفاء. هذا، رغم أن الإمام الباقر عليه السلام يقول: "لو يعلم المصلّي من يناجي ما انفتل"2. فعندما يكون حق الضعيف محفوظاً في أعظم مراسم العبادة - أي الصلاة - ويكون معيار أداء الصلاة جماعة قدرة الضعيف واستطاعته، ففي سائر المسائل الاجتماعية والعادية ينبغي أن يلحظ حق الضعيف ويحفظ. لهذا ورد في المقطع الثاني من وصية النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لعلي: "وكن بالمؤمنين رحيماً". وهذا الحكم، بالإضافة إلى تحريم الخيانة ونقض العهود، يتضمن مطالب أخرى تؤكد على ضرورة الرأفة والإيثار والمودة بالنسبة للأمة الإسلامية.
ونذكر في الختام نقطة، وهي أن استقرار النظام الإسلامي - الذي هو أعظم النعم الإلهية - مرهون بوفاء العاملين والمسؤولين فيه. فالله تعالى قد أوجب مقابل كل نعمة حقاً، فإذا أدي هذا الحق تزيد النعمة، وإلا صرفت يقول أمير المؤمنين عليه السلام:
"إن لله تعالى في كل نعمة حقاً فمن أداه زاده منها ومن قصّر فيه خاطر بزوال نعمته"11.
(1) و(2) تفسير نور الثقلي ج1 - ص 496.
(3) من لا يحضره الفقيه، ج3، رقم 4940.
(4) من لا يحضره الفقيه، ج2، رقم 3214.
(5) من لا يحضره الفقيه، ج4، رقم 5781.
(6) نهج البلاعة للفيض ، خ83 ص 200.
(7) نهج البلاغة للفيض، الكتاب 53.
(8) نهج البلاغة، الكتاب 59.
(9) نهج البلاغة، خ 66.
(10) من لا يحضره الفقيه، ج1، رقم 636.
(11) نهج البلاغة، ح236.