مع الإمام الخامنئي | يا شعب لبنان الوفيّ نور روح الله | الوعي بوصلة المؤمنين قيم علوية| انشغل بعيوبك! تسابيح جراح | لن يقرب اليأس منّي أولو البأس | الخيام مقبرة غولاني الشهيد على طريق القدس عارف أحمد الرز («سراج)» تشييع السيّد يومٌ من أيّام الله طوفان المحبّين على العهد لن تأخذوا أسرارنا من صغارنا تذيع سرّاً تسفك دماً

تذيع سرّاً تسفك دماً

السيّد بلال وهبي
 

لقد عانى أئمّتنا الأطهار عليهم السلام من عدم التزام بعض من حولهم بكتمان السرّ. وقد كانوا جميعهم ملاحقين، بدءاً من سيّدهم الإمام أمير المؤمنين عليه السلام إلى خاتمهم الإمام محمّد بن الحسن المهديّ عجل الله تعالى فرجه، موضوعين تحت رقابة مشدَّدة، تلاحقهم العيون والجواسيس. وكان شيعتهم تحت رصد أجهزة السلطات الحاكمة وأعين عملائها وجواسيسها، الذين يتابعون الشاردة الواردة من أمورهم وأمور شيعتهم. فما هي تداعيات عدم الكتمان، خصوصاً من الناحية الأمنيّة؟

* عدم الكتمان فتكٌ بالناس
تمكّن الطغاة من الإجهاز على الكثير من خيرة أصحاب الأئمّة عليهم السلام نتيجة الإطباق المعلوماتيّ والاستخباريّ، ومن إجهاض الكثير من الحركات الثوريّة التي ثارت أو كادت تثور عليهم بسبب عدم كتمان بعض من شارك فيها، فعانى شيعة أهل البيت ما عانوه بسبب ذلك، وكذلك أئمّتنا عليهم السلام الذين اضطرّوا إلى اعتماد مبدأ «التقيّة».

ها هو إمامنا زين العابدين عليّ بن الحسين عليهما السلام -الذي مرَّت عليه مصيبة كربلاء، اعتمد طريقاً غير المواجهة العسكرية مع طغاة من بني أمّيّة، وأخذ على عاتقه حماية الإسلام المحمّديّ الأصيل المتمثّل بخطّ الإمامة المعصومة- يكشف لنا عن خطورة عدم كتمان الأسرار، ولا سيّما الأسرار التي تتّصل بالجماعة لأنّها الأشدّ خطراً وفتكاً، فيصرِّح بما يفيض بالمرارة التي كان يشعر بها، فيقول: «وَدِدْتُ واللَّهِ أَنّي افتَدَيْتُ خَصلَتَينِ في الشِّيعَةِ لنا بِبَعْضِ لَحمِ ساعِدي: النَّزَقُ، وقِلَّةُ الكِتْمانِ» 1)). والتعبير هذا يكشف عن مدى حرصه على أن لا يُفشي أحد من شيعته سِرّاً من أسرارهم، خصوصاً في مرحلة كان أعداؤهم يلاحقون الصغير والكبير من أمورهم. وهم لم يبغوا معرفة ما يخطّط له أهل البيت عليهم السلام فحسب، بل من يشايعهم وينتهج نهجهم ويقول بإمامتهم، فيقتلونه.

* سببٌ في قتل مؤمن
لقد أكَّد الأئمّة الأطهار عليهم السلام على حقيقة أنّ الذي لا يكتم السِّرَّ، ولو كان من طريق الخطأ، أو التساهل فيه، أو التسَرُّع في الثقة، فهو شريك في النتائج المترتّبة عليه؛ فإن أدّى إلى قتل مؤمن، فالمذيع شريك في دمه ولو لم يتعمَّد إذاعة السِّرِّ، فقد رُويَ عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنّه قال: «مَا قَتَلَنا مَنْ أَذاعَ حَدِيْثَنا قَتْلَ خَطَأٍ ولَكِنْ قَتَلَنا قَتْلَ عَمدٍ»(2).

ورُوِيَ عن الإمامُ محمّد الباقرُ عليه السلام أنّه قال: «يُحْشَرُ العَبْدُ يَومَ القِيامَةِ وما نَدى‏ دَماً، فيُدفَعُ إلَيهِ شِبْه المِحجَمَةِ أو فَوقَ ذلكَ، فَيُقالُ لَهُ: هذا سَهْمُكَ مِنْ دَمِ فلانٍ، فَيَقولُ: يا رَبِّ، إنّكَ لَتَعْلَمُ أنَّكَ قَبَضتَني وما سَفَكتُ دَماً! فَيَقولُ: بَلى‏، سَمِعْتَ مِنْ فُلانٍ رِوايَةَ كَذا وكَذا، فَرَوَيتَها عَلَيْهِ، فَنُقِلَتْ حَتّى‏ صَارَتْ إِلى ‏فُلانٍ الجَبّارِ فَقَتَلَهُ عَلَيْها، وَهَذا سَهْمُكَ مِنْ دَمِهِ»(3).

* خيانةٌ صارخة
لقد حذَّر الله تعالى في كتابه من خطورة عدم الكتمان وإفشاء الأسرار، ولا سيّما العسكريّة والأمنيّة منها، فقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (الأنفال: 27). وقد روى المفسّرون روايتين في سبب نزول هذه الآية الكريمة: فمنهم من نقل عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ قوله: إنّ أبا سفيان خرج من مكّة، فأتى جبرائيل عليه السلام النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إنّ أبا سفيان في مكان كذا وكذا فاخرجوا إليه واكتموا. قال: فكتب إليه (إلى أبي سفيان) رجل من المنافقين أنّ محمّداً يريدكم فخذوا حِذركم، فأنزل الله هذه الآية.

وقال آخرون: كان بعض المسلمين يسمعون الشيء من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فيفشونه حتّى يبلغ المشركين.

وأيّاً يكن سبب النزول، فإنّنا أمام واقعة مَهولة ذات عواقب وخيمة على المجتمع الإسلاميّ وعِزّته ومناعته وقوّته، استدعت أن يحذِّر القرآن من خطورة إفشاء السِّرِّ الذي يمثِّل خيانة صارخة لله ولرسوله.

* لا للإهمال والتساهل
إنّ حفظ الأسرار وكتمانها من أعظم الواجبات الشرعيّة، والأخلاقيّة، والإنسانيّة، والوطنيّة. والكتمان ليس فضيلة أخلاقية فحسب، بل واجب يفرضه العقل، والضمير الحيّ، والنفس السويّة. والناظر إلى العواقب الوخيمة التي تترتّب على عدم الكتمان يدرك أنّه جريمة لا تُغتفَر، وموبِقَة لا يمكن التّطهُّر منها.

رُوِيَ عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال لأبي جعفرٍ محمّدِ بنِ النُّعمانِ الأحوَلِ: «يا بنَ النُّعمانِ، إنّ العالِمَ لا يَقدِرُ أن يُخبِرَكَ بكُلِّ ما يَعلَمُ، لأنّهُ سِرُّ اللَّهِ... فلا تَعجَلوا، فواللَّهِ لَقَد قَرُبَ هذا الأمرُ -ثَلاثَ مَرّاتٍ- فَأذَعتُموهُ فأخَّرَهُ اللَّهُ، واللَّهِ ما لَكُم سِرٌّ إلّا وعَدُوُّكُم أعلَمُ بهِ مِنكُم!»(4).

ويقول الله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ (النساء: 83). لقد نزلت الآية في جماعة من الأغبياء والحمقى، أو من المنافقين، لا فرق، فالنتيجة واحدة. كان هؤلاء لا يُدركون النتائج القاسية التي تترتّب على تناقلهم الأخبار، ونشرهم المعلومات التي يصدف أن يطّلعوا عليها، ولم يكن عندهم حسٌّ إيمانيّ وإنسانيّ، ويفتقرون إلى اليقظة أنّ أيّ كلمة عابرة قد تجرُّ العواقب على الجماعة والوطن. وقد كان عليهم حين يصدف أن يعرفوا أمراً، أن يردّوه إلى الرسول إن كان معهم، أو إلى أولي الأمر وأهل الاختصاص، وأن يكتموا ذلك عن الناس كلّهم.

* العيون الخارجيّة تلاحقك
أيّها القارئ الكريم، العدوّ لا ينام عنك وإن نِمتَ عنه، إنّه يترصَّدك في كلّ حالاتك، ويتابع كلّ تفصيل عنك، وقد قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: «مَنْ نامَ لَمْ يُنَمْ عَنْهُ»(5). وعندما يكون العدوّ أقوى منك من حيث القدرات الماديّة والتقنيّة، تتضاعف أهميّة الكتمان كاستراتيجيّة شاملة ودائمة؛ فلا تسمح له أن يعرف من أنت، وماذا تعمل، وبماذا تفكّر، ولا أهدافك وقدراتك، إذ يجب أن يظلَّ كلّ ذلك مجهولاً له ولكلّ الناس، حتّى أقربهم إليك، وأوثقهم لديك، فقد جاء في الحديث عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «إنَّ من ورائكم فِتَناً مُظلِمَةً عَمياءَ مُنكسفةً، لا ينجو منها إلّا النُّوَّمَةُ. قيلَ: يا أميرَ المؤمنينَ، وما النُّوَّمَةُ؟ قالَ عليه السلام: الذي يعرف النّاسُ ولا يعرفونه»(6).

فكن نُوَّمَة، لا يعرف عنك أحد شيئاً، القريب والبعيد في ذلك سواء، بل احذر من صديقك كما تحذر من عدوّك، واكتم عن القريب كما تكتم عن البعيد، فقد ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: «اُبْذُلْ لِصَدِيقِكَ كُلَّ المَوَدَّةِ ولا تَبذُلْ لَهُ كُلَّ الطُّمَأنِينَةِ»(7).

ندرك مِمّا سبق أنّ الكتمان يمنع عن العدوّ كلّ معلومة يريدها عنك، ويجعلك في موقع القوّة، والأقدر على المبادرة والمفاجأة، وأنّه شرط ضروريّ للفوز والانتصار، وبلوغ الغايات وتحقيق الأهداف، وأنّ عدم الكتمان سبب رئيس من أسباب الضعف أمام العدوّ، والانكشاف أمامه، وتلقّي الضربات ثمّ الهزيمة.

* الخيانة من الكبائر
إنّ عدم الكتمان سقوط في الخيانة، وهي من الكبائر التي تستوجب دخول النار في الآخرة، والمَهانة والخِزي والمَذلّة في الدنيا. وما أسوأ أن يُعرَف الشخص بالخائن، وتبقى هذه الصفة ملازمة له طول حياته، بل أسوأ من ذلك نظرته إلى نفسه، عندما يعلم أنّه قد تسبَّبَ بسفك الدماء البريئة، وبالهزيمة لأهله وبني قومه ووطنه، هذا والله وحده عذاب لا يُحتمل، ونار تظلُّ مستعِرة في جوفه. وإنّ الله تعالى لَيَسلِب مذيع السِّرَّ الإيمان من قلبه عقاباً له، ثمّ ينتهي به الحال إلى الخروج من الدين، وهذه عاقبة لا عاقبة أسوأ منها.

فقد جاء عن الإمام الصادق عليه السلام: «إنَّ أمرَنا مَستورٌ مُقنَّعٌ بالمِيثاقِ، فمَن هَتَكَ علَينا أذلَّهُ اللَّه» (8).


(1) مرآة العقول، العلّامة المجلسي، ج9، ص 186.
(2) الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص 370.
(3) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 7، ص 202.
(4) المصدر نفسه، ج 75، ص 289.
(5) نهج البلاغة، الشريف الرضي، ج3، ص 121.
(6) الغيبة، النعماني، ج1، ص 142.
(7) بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 71، 165.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع