د. سحر مصطفى
شغلتْنا وسائل التواصل الاجتماعيّ حتّى ضيّعنا الحدّ الفاصل بين العالمَين الافتراضيّ والواقعيّ... هذه التي تُضعف مهارات التواصل والاتصال، وتجعل الأفراد يعيشون في عزلة عن محيطهم وواقعهم... بين من يقول إنّ هذا كلام مبالغ فيه، ومن يبالغ في وصف الآثار السلبيّة، تُطرح أسئلة تحتاج الى أبحاث علميّة ميدانيّة، تعطي التوصيف الأقرب إلى الواقع...
أحد مجالات السجال حول تأثيرات وسائل التواصل الاجتماعيّ، هو ساحة العلاقات الزوجيّة، وتحديداً حصّة هذه الوسائل من بثّ النزاعات والشقاق بين الزوجين، وبشكلٍ أكثر خصوصيّة، موضوع الطلاق، حيث تطالعنا مواقع الإنترنت بالعديد من المقالات التي تدقّ ناقوس الخطر، حول ازدياد عدد حالات الطلاق بسبب هذه الوسائل. ونجد بعض المقالات لا تقرّ بزيادة عدد حالات الطلاق ونسبه، ولكنّها تتحدّث عن تغيّر الأسباب، حيث تتربّع وسائل التواصل الاجتماعيّ على رأس قائمة الأسباب المؤدّية إلى الطلاق...
بعيداً عن الخوض في نقد المقالات وتحليلها، ومدى صحّة الأرقام التي توردها، سنحاول في هذا المقال استعراض كيف يمكن لمواقع التواصل الاجتماعيّ أن تزعزع بنية الأسرة، وتساهم في تفاقم الخلافات الزوجيّة، وصولاً إلى الطلاق...
•تهديد الأسرة والمبرّرات
أوّل ما يتبادر إلى الذهن عند ذكر العلاقة بين مواقع التواصل والطلاق، هو عمليّة التواصل السلبي خارج إطار الحياة الزوجيّة، وكأنّ هذا الأمر أصبح شائعاً، بحيث أضحينا نبحث له عن مبرّرات بطريقة غير مباشرة، وهذا الأمر غاية في الخطورة. والحقيقة أنّ هذه الممارسة المذمومة والقبيحة، يُراد لها أن تشيع من خلال الحديث المتزايد عنها، بينما التأثير السلبيّ لوسائل التواصل على الحياة الزوجيّة هو أوسع من الاختلاط غير المضبوط، والذي يؤدّي أحياناً إلى علاقات خارج إطار الزواج...
•سلبيّات وسائل التواصل الاجتماعيّ
تطول لائحة التداعيات السلبيّة للاستخدام غير الموجّه والمضبوط لوسائل التواصل الاجتماعيّ، ونذكر منها:
1- إدمان الاستخدام أو الاستخدام الزائد
لقد صارت لحظات تبادل أطراف الحديث ومناقشة الضغوط الحياتيّة بين الزوجين قليلة، بالمقارنة مع تصفّح الهاتف الجوّال أو الحاسوب، لدرجة أنّها أصبحت منحصرة في أوقات الأكل وقبل النوم. وفي حالات كثيرة، نجد الزوج يعود من العمل لينهمك في الاطلاع على ما جدّ واستجدّ في حساباته الشخصيّة على مواقع التواصل، ويكاد لا يدري بآخر أخبار منزله ورفيقة دربه. فهو على اطّلاع تامّ على آخر أخبار الآخرين وما يجري في العالم من حوله، ولكنّه لا يعرف ما يدور في قلب زوجته رغم سنوات زواجهما. وكذلك نجد العديد من الزوجات يهملن بيوتهنّ وأزواجهنّ لوقوعهنّ تحت تأثير إدمان التواصل، والاهتمام بمتابعة تعليقات الأصدقاء الافتراضيّين، وما الجديد الذي سيضعنه على صفحاتهنّ...
2- الوهم ورفع سقف التوقّعات
يقع الأزواج أسرى لأوهام يروّجها آخرون عن حياتهم الزوجيّة، أو كيفيّة تعاطي الزوج مع زوجته أو العكس، ممّا يجعلهم يرفعون سقف توقّعاتهم من شريك الحياة، فيصطدمون بالواقع المثقل بضغوطات الحياة، التي ترخي بثقلها على كلّ طرف من الزوجين، وتفقده القدرة على لعب الأدوار الرومانسيّة التي يغزلها الآخرون عبر مواقع التواصل...
3- الغيرة وعمليّة المقارنة
يتنافس الناس في إظهار صورة لامعة لهم، بغضّ النظر عمّا إذا كانوا يعيشون فعلاً لحظاتهم بسعادة وسرور، ولكنّ المهم بالنسبة إليهم أن يواكبوا القطار الافتراضيّ، ويحجزوا لأنفسهم مكاناً مرموقاً فيه. إنّ لهاث الأشخاص وراء وضع أخبارهم كلّها، والزيارات التي يقومون بها، والمواقع السياحيّة التي يرتادونها، وكلّ جديد يشترونه على مواقع التواصل، يدفع بشكلٍ خاصّ بالزوجة إلى مطالبة زوجها بالحصول على ما يحصل غيرها عليه، من نزهات ومتاع، كونه المسؤول عن الإنفاق، ويدفع بالزوج لمطالبة زوجته بالتصرّف والتزيّن بطريقة النماذج التي تُقدّم عبر العالم الرقميّ... كما أنّ حرص الأشخاص على تصوير أنفسهم مع أصدقائهم ونشر الصور على موقع "فايسبوك" أو غيره، يكرّس شعور الزوج أو الزوجة بعدم الاهتمام والحبّ جرّاء نشر الطرف الآخر للصور مع آخرين بدلاً منه.
4- زيادة الميل إلى الاستهلاك
إنّ أحد أهم مصادر التمويل التي تعتمد عليها شركات مواقع التواصل، هي الإعلانات، حيث تستفيد الشركات من المعلومات الشخصيّة للمستخدمين لتوجّه إليهم إعلانات متناسبة مع أهوائهم وميولهم، ممّا يعزّز السلوك الاستهلاكيّ، ويزيد من الأعباء على الأسرة، سواء بالضغط الماليّ الناتج عن السعي لامتلاك كلّ ما يعرض، أو الضغط النفسيّ لحسرة عدم القدرة على الامتلاك. هذه الضغوط كلّها تدفع بالعلاقة الزوجيّة إلى التوتّر، وتجعل أحد الطرفين أو كلاهما دائم العصبيّة...
5- الانحرافات السلوكيّة للأبناء
يمكننا إضافة الانحرافات السلوكيّة التي قد تظهر على الأبناء جرّاء استخدام مواقع التواصل، والتي تكون أيضاً سبباً للنزاع بين الزوجين، حيث يلقي كلّ طرف اللوم على الآخر في هذا المجال...
واستوقفني عنوان في إحدى المقالات عبر الإنترنت: "فايسبوك يتفوّق على الفقر كسبب للطلاق"! ويقول المقال إنّ هذه هي الحقيقة التي أذهلت المتابعين كلّهم.
ففي الوقت الذي تسارعت فيه الدراسات المحذّرة من التأثير السلبيّ لوسائل التواصل على استقرار الحياة الزوجيّة، لم تخرج دراسة واحدة تشير من قريب أو بعيد إلى مسؤوليّة الفقر والعوز في ارتفاع حالات الطلاق، بل على العكس، ظهرت دراسات تشير إلى متانة العلاقات الأسريّة في الأسر التي يضحّي أفرادها ويكدّون في العمل لتوفير احتياجاتهم...
يمكننا التعاضد لمواجهة الفقر، ويصعب علينا محاربة إغراءات مواقع التواصل، معضلة تستحق التأمّل!
•سُبُل الوقاية
بعد عرض التداعيات، لا بدّ من تقديم بعض النصائح لما يمكننا القيام به، سواء على صعيد الوقاية أو العلاج:
1- التثقيف على مضارّ هذه المواقع وخطورتها، وما يمكن أن تسبّبه من تضخّم "الأنا"، وهوس المتابعة والإدمان، وغيره من المشاكل النفسيّة، هذا فضلاً عن النماذج الوهميّة التي تقدّمها، وغيرها من الآثار السلبيّة... وضرورة التوجيه نحو الاستفادة الإيجابيّة منها مع الحذر.
2- التحصين الدينيّ من خلال جهود علماء الدين والمبلّغين، ونشر ثقافة العفاف للجنسَين، والتنبيه من خطورة الاختلاط الافتراضيّ...
3- تشجيع الأسر على التوجّه إلى مراكز الإرشاد الموثوقة، والتي تراعي المعايير الدينيّة والعلميّة في عملها، لطلب المساعدة في حلّ المشاكل الأسريّة، تفادياً للوصول إلى الشقاق.
4- تأمين فرص لتمضية أوقات الفراغ بخدمة المجتمع، أو تنمية بعض المواهب، أو الاهتمام بالرياضة، وغيرها من السُّبل، للحؤول دون وقوع الأزواج فريسة لإدمان مواقع التواصل...
5- العمل على تزويد الأزواج بمهارات للتواصل السليم في العلاقة الزوجيّة، وتحصين الأمان العاطفيّ داخل هذه المؤسّسة، لجعلها أكثر مناعة في مواجهة إغراءات العالم الرقميّ...
•الحياة الحقيقيّة
بكلمة مختصرة، يمكننا القول إنّ حياة أُسريّة بعيدة عن الاستغراق في مواقع التواصل هي بيئة أكثر أمناً، وأكثر قابليّة للاستمرار... يوجد في الحياة الواقعيّة الكثير لنعيشه، والتعاطف الحقيقيّ هو الذي يؤمّنه حضن الأسرة، فلنصرف وقتنا في عيش اللحظات، وليس توثيقها من خلال الصور لنشرها عبر مواقع التواصل، صورٌ لا حياة فيها...