مقابلة مع القاضي الشرعيّ سماحة الشيخ جعفر كوثراني
حوار: الشيخ موسى منصور
النصوص الشرعيّة التي حرصت على بناء كيان إيمانيّ متماسك "كمثل الجسد الواحد" كثيرة. وإن كانت الروح هي سرّ حياة الجسد، فإنّ التراحم بين أفراد هذا الكيان هو نظامُ عقدٍ بينهم، يضمن بزمامه الحياة الطيّبة، وإن انقطع، ينفرط هذا العقد وتؤول الحياة الزوجيّة إلى التشرذم والضعف. وفي قوله تعالى ﴿رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾ (الفتح: 29)، تزدحم الصور الدالّة على سيل من معاني التماسك والمنعة.
الطلاق –وإن كان من التشريعات الجائزة والضروريّة في بعض الحالات- لكنّه غالباً ما يكون بمثابة إعلان حرب على رباطَي المودّة والرحمة، وتهديداً صريحاً للسلم الاجتماعيّ.
للاطّلاع أكثر على واقع الطلاق في لبنان وأسبابه وسبل الحدّ من سلبيّاته؛ قصدنا -في مجلّة بقيّة الله- القاضي الشرعيّ سماحة الشيخ جعفر كوثراني، وجرى معه هذا الحوار:
•بحسب ما تسجّله المحاكم، ما هو واقع الطلاق اليوم في لبنان؟ وهل صحيح أنّ نسبته زادت كثيراً أم أنّ الأمر فيه مبالغة؟
بدايةً، إنّ الشريعة الإسلاميّة تكفل الحريّة الشخصيّة للأفراد ما لم تمسّ حريّة الآخرين، وقد شُرّع الطلاق حلاً لمشكلة، وهو أهون الشرَّين، وهو جائز وإن كان "أبغض الحلال".
وبالعودة إلى ما طُرح، فإنّ الطلاق -مع الأسف- كَثُرَ ضمن محاكمنا، وثمّة مؤشّرات نعتبرها سلبيّة في هذا المجال.
فعلى مستوى المحكمة التي أعمل فيها، يمكن القول إنّ نسبة الطلاق مقارنة مع عدد الزيجات هي ما بين 25 و30 بالمئة، هذا غير الدعاوى قيد النظر.
•كيف تتدخّل المحكمة في الإصلاح بين الزوجين؟ حبّذا لو تذكرون إحدى الحالات.
المحكمة كما تعلمون هي محكمة شرعيّة، رئيسها وقضاتها هم رجال دين، وأولى وظائفهم هي إصلاح ذات البين في أمور الناس كلّها، تلبيةً للنداء القرآنيّ: ﴿فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ﴾ (الأنفال:1). وأهمّ مصداق لحالات الإصلاح هو الإصلاح بين الزوجين، وهو يشبه إلى حدّ ما نزع فتيل انفجاريّ على الصعيد الاجتماعيّ، له موجات ارتداديّة –فيما لو حصل- تحدث بين فترة لاحقة وأخرى.
إحدى تلك الحالات:
جاءت امرأة ذات يوم تطلب الطلاق؛ لأنّها اكتشفت أنّ زوجها عاد وتزوّج المرأة التي كانت زوجتَه قبلها، فلم تتقبّل الأمر. وبعد دراسة تلك الحالة، تبيّن أنّ الزوجة السابقة تعاني من مشكلة صحيّة، ولديها أولاد عدّة، فتكلّمتُ مع الزوجة الحاليّة بأسلوب يخلط بين المنطق والعاطفة، إلى أن اقتنعت وعدلت عن قرارها بالطلاق.
•ما هي نسبة الحالات التي تعود عن قرار الطلاق؟ وما هي العوامل المؤثّرة في ذلك؟
إنّ نسبة المتراجعين عن الطلاق هي تقريباً 10 في المئة، وإنّنا نتمنّى لو بإمكاننا أن نعطي كلّ حالة حقّها لتكون جهودنا مثمرة أكثر، ولكنّ ضغط العمل وكثرة أعداد المراجعين يحولان دون ذلك. لذا، نحن بحاجةٍ في المحاكم الشرعيّة إلى مساعدين تربويّين وإصلاحيّين وأصحاب اختصاص في مجال الأسرة، ولديهم إلمام بالأحكام الشرعيّة، ويمتلكون حكمة ودراية وقدرة على التأثير. وهذا الأمر من شأنه الحدّ من عدد حالات الطلاق.
•ما هي أبرز أسباب الطلاق؟ وكيف يمكن معالجتها بنظركم؟
1- اختلاف البيئة والثقافة: أبرز الأسباب هو عدم الانسجام بين الزوجين. ومردّ ذلك إلى الاختلاف في البيئة والثقافة، بحيث تفرض طباعاً وأمزجة خاصّة على كلّ طرف. وإذا لم يتحلّ الطرفان بمستوى عالٍ من التديّن والحكمة، فإنّ احتمال الطلاق يصبح مرتفعاً جدّاً.
2- أسباب ماديّة: كعجز الرجل عن الإنفاق بشكلٍ صحيح، أو عدم قيامه بدوره كما ينبغي، أو قد يكون للمرأة طموحٌ أكثر من اللازم. وأحياناً ينفر الرجل من زوجته نتيجة لترفها وعدم قناعتها.
3- الثقافة الغربيّة: كأن يكون أحد الزوجين قد عاش في الخارج، وتربّى تربية غربيّة وتثقَّف بثقافة الغرب، فيكون الاختلاف في المنظومة القِيميّة بين الطرفين دافعاً إلى الإقدام على الطلاق.
وأحياناً يكون الطرفان قد ولدا في الخارج، أو بقيا مدّةً طويلة هناك، وتأثّرا بالعادات والقوانين الغربيّة، فتغيب عنهما بعض المبادئ التي تدخل كأساس بنيويّ في تكوّن الأسرة، كالصبر على الطرف الآخر وما يناله الصابر من أجر وثواب عظيمين لقاء صبره. عندها، يكون الإقدام على الطلاق في الغالب تعبيراً عن ثقافة وتربية، أو ترجمة للحريّة المطلقة المتحلّلة غالباً من الشعور بالمسؤوليّة.
4- وسائل التواصل الاجتماعيّ: وهذه الوسائل لها دور يتراوح بين 12 و15 بالمئة، وهي وسيلة سهّلت الانحدار الأخلاقيّ والتربويّ عند بعض الناس، وهي تعجّل وتقرّب من وقوع الخطأ، بحيث لا يتقبّله الطرف الآخر، ويكون هذا دافعاً إلى الطلاق.
5- عمل المرأة: وهو مؤثّر نسبة 5 في المئة. إنّ عمل المرأة يُحدث فراغاً في المنزل، فعندما يعود الرجل من عمله متعباً، إلى من يلجأ إذا كانت زوجته أيضاً متعبة نتيجة عملها خارج المنزل؟ إنّ وجود المرأة داخل المنزل عامل هامّ في استقرار الأسرة وبثّ السكينة والعطف والاهتمام الذي يحتاج إليه كلّ من الزوج والأولاد.
6- عدم اهتمام الرجل بزوجته، وتعدّد علاقاته: إنّ إهمال بعض الرجال لزوجاتهم وعدم اهتمامهم بهنّ يخلق الكثير من المشاكل ويؤدّي في كثير من الأحيان إلى الطلاق. وأكثر ما يتجلّى هذا الأمر في السفر الطويل للزوج دون السؤال عن زوجته. إنّ مقتضى غيرة الرجل وإيمانه أن لا يترك زوجته ولا يهملها.
يضاف إلى ذلك، علاقات الرجل المشروعة وغير المشروعة، فهي أيضاً تشجّع المرأة على طلب الطلاق من زوجها.
7- غيرة المرأة: تتميّز المرأة بالغيرة، وهذه الغيرة قد تكون لها أسباب واقعيّة وقد تكون ضرباً من ضروب الوهم. ولغيرة المرأة تأثير في طلب الطلاق من 15 إلى 20 في المئة.
8- انحدار القيم والأخلاق: إنّ جزءاً من مجتمعنا -مع الأسف- يعاني من انحدار في القيم والأخلاق، ومن نقص على الصعيد التربويّ، بدءاً من المنزل؛ إذ نلحظ تقصيراً أو قصوراً لدى الأهل في تنشئة أبنائهم وبناتهم على التربية الإسلاميّة والقيم الإيمانيّة والثقافة الزوجيّة الأصيلة. نحن نملك القدوة الصالحة وهي البيت العظيم الذي ضمّ أمير المؤمنين والسيّدة فاطمة عليهما السلام، لو تمثّلنا بهما، لصلحت العائلة وصلح المجتمع، ولكن:
"دواؤك فيك وما تبصرُ
وداؤك منك وما تشعرُ"(1).
•ما هي المشاكل الأسريّة والاقتصاديّة التي تسجّلها المحاكم نتيجة الطلاق؟
- على الصعيد الأسريّ: أوّل ضحايا الطلاق بين الزوجين-إن كان لديهما أولاد- هم الأولاد. إنّ التجاذبات بين الأمّ والأب تؤثّر على الوضع النفسيّ للأبناء. ونلاحظ كيف يشكو أحد الطرفين من تحريض الأبناء عليه، وهذا دليل على تدنّي حالة الوعي والحكمة، إذ يجب النأي بالأبناء عن التجاذبات والخلافات، والعمل المسؤول من كلا الطرفين على الحدّ من نسبة الآثار السلبيّة والعقد النفسيّة التي قد تطال الأبناء نتيجة الخلاف بينهما.
- على الصعيد المالي: فإنّ أكثر المشاكل هي الإنفاق على الأبناء. والنفقة كما نعرف واجبة على الأب، وقد يقصّر الأب في هذا الواجب، أو يكون عاجزاً، ممّا يؤدّي إلى حدوث بعض المشاكل، كأن ترفع الأمّ دعاوى على الرجل تحت عنوان "نفقة الأولاد"، خصوصاً إذا كانت الحضانة لها.
•بعد سنوات من الخبرة في هذه الملفات، ما هي النصائح التي تقدّمونها للمُقبلين على الزواج وللمتزوّجين لتجنّب المشاكل المؤدّية إلى الطلاق؟
1- حسن الاختيار: أوّل نصيحة هي حسن الاختيار، وأن يكون الاختيار مبنيّاً على التديّن وحسن الخُلُق، ففي الحديث النبويّ: "إذا جاءكم من ترضون خُلُقه ودينه فزوّجوه..."(2)؛ لأنّ السعادة الحقيقيّة تكمن في الدين والأخلاق.
2- المعاملة الحسنة: وفي حال اختار الرجل امرأةً ما وصارت زوجةً له، يجب أن يحسن التصرّف معها، كما عليها أن تُحسن التصرف معه، وتكون العلاقة بينهما قائمة على أساس التسامح الشخصيّ بينهما، والحفظ المتبادل لعيوب الطرف الآخر، والنظر إلى حسناته لا إلى عيوبه. ففي وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام لمحمّد ابن الحنفيّة: "واعلم أنّ رأس العقل بعد الإيمان بالله عزّ وجلّ مداراة الناس، ولا خير فيمن لا يعاشر بالمعروف... فإنّي وجدت جميع ما يتعايش به الناس وبه يتعاشرون ملء مكيال ثلثاه استحسان، وثلثه تغافل"(3).
3- مراعاة الحقوق والواجبات: يجب أن يدرس كلّ من الطرفين حقوقه وواجباته تجاه الطرف الآخر.
4- عدم إهمال الجانب الإنسانيّ: على الرجل أن يلحظ أنّ زوجته تركت أهلها وبيئتها ومكان ترعرعها من أجل أن تعيش معه، وأعطت وقتها كلّه له ولبيتها، وأنجبت له أولاداً وتعبت في سبيل ذلك... فيجب عليه أن يعاملها بإحسان، و﴿هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾ (الرحمن:60).
كذلك على الزوجة أن تفكّر في أنّ هذا الرجل (هو زوجي وأب أولادي... وكم يعاني ويتعب في سبيل تأمين لقمة العيش لي ولأولادي)، وأن تسعى إلى معاملته بإحسان فيما لو عاملها بسوء خلق، ممّا يجعله يتراجع عن سوء معاملته.
•ختاماً، ما هي نصيحتكم للأزواج قبل أن يُفكّروا في الطلاق؟
أوّلاً: الحوار، والهدوء، وعدم الانفعال الذي يؤدّي إلى نفي الطرف الآخر، وعدم إغلاق القلب عليه، وأن يبقى "للصلح مطرح".
وثانياً: العمل على إدخال أهل الحكمة والخير والصلاح، لتقريب وجهات النظر، تلافياً للوقوع في الطلاق: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا﴾ (النساء: 35).
وثالثاً: التفكير جدّيّاً في عواقب الطلاق ونتائجه السلبيّة الكثيرة على الأسرة بشكلٍ عام، والأولاد بشكل خاصّ.