الشيخ محمد حسن زراقط (*)
"بيتٌ جميل... إلّا أنّه ليس بيتي!".
لا شكّ في أنّ الاهتمام بالوالدين ومبادلتهما الإحسان بالإحسان من المسلّمات الدينيّة والأخلاقيّة التي لا تحتاج إلى بحث ونقاش. ولكنّ بعض مستجدّات الحياة المعاصرة يستدعي، مع الأسف، طرح بعض التساؤلات ومعالجة بعض القضايا التي ترتبط بالأسرة وواجبات بعض أعضائها تجاه بعضهم الآخر. وثمّة نقاط تستحقّ الذكر لتوضيح صورة النقاش، آمل أن تتضمّن بعض الأجوبة، أو تثير بعض التساؤلات لنصل في النهاية إلى أجوبة تنفعنا في معرفة الطريقة الأمثل لأداء واجباتنا الأخلاقيّة والدينيّة.
* التقصير في حقّ الوالدين
في بعض الحالات قد يقصّر بعض الأبناء تجاه والديهم بذريعة الانشغال بأبنائهم، والعجز عن توزيع الرعاية على الأبناء والآباء، ويجد في ذلك ذريعةً كافيةً لتبرير هذا التقصير للنفس أو لله تعالى. ولكن هذا التبرير لا ينبغي الرهان عليه لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولا أمام محكمة الضمير، ولا في مواجهة محكمة العدل الإلهيّ. فالوالدان قريبان من الدرجة نفسها مع الأبناء، إن لم نقل أقرب منهم.
* مسؤوليّة مشتركة
المشكلة الأساس التي تفضي إلى بعض التقصير تجاه الوالدين، وتحديداً في الحالات الخاصّة التي تطرأ عليهما، كالمرض والعجز وشبه ذلك، هي التواكل السلبيّ الذي يحصل بين الأبناء؛ حيث يشعر كلّ واحدٍ منهم بأنّه ليس المسؤول الوحيد عن والديه؛ لوجود إخوة له يشاركونه البنوّة لهذين الوالدين. وهنا، ألفت النظر إلى أنّه حتّى لو افترضنا أنّ أحد الأبناء يقوم بحاجات والديه ويغنيهما عن سائر إخوته، إلّا أنّ مقتضى البرّ، هو إحساس كلّ واحدٍ من الأبناء بأنّه المسؤول الوحيد عن والديه، وذلك لأسباب يطول شرحها؛ بعضها عاطفيٌّ خاصّ بالوالدين، وبعضها ذو طابع عمليٍّ إجرائيٍّ.
* الأسرة والتحوّلات الطارئة
من الأمور التي تركت أثرها على طريقة التعامل مع الوالدين، بعض التحوّلات الاجتماعيّة التي دخلت مجتمعاتنا دون أن تطرق أبوابها. ومن أهمّ هذه الظواهر تغيّر شكل الأسرة، وتبدّل قائمة أولويّاتها...
1- تغيّر شكل الأسرة
بعد تحوّل أكثر المجتمعات الإنسانيّة، ومن بينها المجتمعات الإسلاميّة، إلى مجتمعات مدينيّة بعد أن كانت ريفيّةً، طرأ تحوّل مهمٌّ على شكل الأسرة، وحمل معه تلقائيّاً قيماً جديدةً، أو فرض هذا التبدّل تساؤلاً تجاه القيم التي كانت تحكم سلوك الأفراد تجاه غيرهم من أعضاء الأسرة، حيث كان التصرّف بهذه الطريقة أو تلك، بديهيّاً أو مداناً بالبداهة. وأمّا بعد هذا التحوّل، فقد صارت الطريقة الأمثل للتصرّف محلّ تساؤل ومورداً للنقاش. وهذا التحوّل الذي أشير إليه هو تحوّل الأسرة من الأسرة الممتدّة، التي يتشارك فيها الحياة جيلان على الأقلّ، هم الآباء والأبناء المتزوجون وأولادهم، وحلول نموذج آخر هو الأسرة المسمّاة بالنوويّة أو النواة، وهي الأسرة المؤلّفة من الأب والأمّ وأبنائهما فقط.
في نموذج الأسرة الممتدّة، كان الأب الأكبر هو صاحب البيت الذي يستظلّ أبناؤه وأحفاده بظلّ سقفه، وبالتالي كان من الطبيعيّ أن يبقى في الأسرة حاضناً أو محتضَناً يحيط به سائر الأعضاء حبّاً في كثيرٍ من الحالات، أو كرهاً في حالات أخرى. وأمّا بعد هذا التحوّل واستقلال كلّ أسرة صغيرة بشؤونها الخاصّة، استدعى هذا الاستقلال طرح التساؤل حول مصير الوالدين وواجب الاهتمام بهما، وفي أيّ واحدة من الأسر الصغيرة يكونان؟
2- تبدّل الأوضاع الاقتصاديّة
نجم عن هذا التحوّل المشار إليه، أو رافقه على الأقلّ، أنّ أولويّات الأسر تبدّلت، واستدعت طبيعة الحياة الاقتصاديّة الحديثة انتقال بيئة الكسب الماديّ من العمل المنزليّ أو القريب من المنزل إلى العمل الخارجيّ، ما استدعى بُعد الأبناء عن البيت لفتراتٍ طويلةٍ. وانضمّ إلى ذلك خروج الزوجة للعمل في كثيرٍ من الحالات، مع قضاء الأحفاد الجزء الأكبر من أوقاتهم في المدرسة. هذا التحوّل بدوره ألقى ظلّه على العلاقة بالآباء، وأفضى إلى إعادة التفكير في شأن الاهتمام بهم في الأوقات التي لا يوجد فيها في المنزل من يتابع أمورهم، ويسهر على راحتهم.
3- التحوّل القيميّ والعلائقيّ
من الأمور الخطيرة التي عصفت ببعض الأسر، أنّ سلّم الأولويّات فيها قد تبدّل، وصار كسب المال وتحسين الأوضاع الاقتصاديّة، والتوسّع الماديّ للقدرة على المزيد من الإنفاق، الأولويّة الأولى على حساب سائر الأولويّات، وتحوّل شعار: "يا رضى الله ورضى الوالدين" إلى شعاراتٍ أخرى، أو على الأقلّ تبدّل مفهوم الرضى، وتحوّلت وسائل كسبه وتحصيله. يُضاف إلى ذلك، أنّ طبيعة الحياة المدينيّة تقتضي بطبيعتها تفكّك العلاقات الاجتماعيّة، وضعف الرادع أو الرقابة الاجتماعيّة، التي كانت تُمارس من قِبل المجتمع خارج دائرة الأسرة على أعضائها؛ وهذا جعل بعض الأبناء يشعرون بشيءٍ من التحرّر من الضغوط الاجتماعيّة في ما يرتبط بكيفيّة الاهتمام بآبائهم.
نتيجة هذه الملاحظات، وغيرها الكثير من الملاحظات التي يمكن اكتشافها في المجتمعات المعاصرة، صار التساؤل حول الآباء والأمّهات يبدو مشروعاً ومبرّراً، تحت ذريعة التفكير في مصلحة الوالدين والسعي لتأمين خاتمة معقولة لحياتهما. وأحد الخيارات التي تُطرح في هذا العصر، هو الاستعانة بمراكز الخدمة الخارجيّة، أو دور المسنّين، التي تُطلق عليها أسماء متنوّعة يُسعى في حالاتٍ كثيرةٍ منها إلى تجميلها بإحسان اختيار اسمها.
سنحاول في العدد القادم تقديم ما يُظن أنّها مبررات اللجوء إلى دور رعاية الوالدين، مع طرح وجهة نظر إسلامية لذلك.
(*) مدير مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلاميّ.