مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

العناية بالوالدَين: بين مسؤوليّة الأبناء ودُور الرعاية(2)


الشيخ محمد حسن زراقط(*)


تناول العدد السابق التحوّلات التي طرأت على الأسرة، والتي تغيّرت معها منظومة العلاقات فيما بين الأبناء والوالدَين، وتحديداً المسنّين، الأمر الذي يدفع ببعض الأبناء أحياناً إلى إرسال آبائهم إلى مراكز الرعاية الاجتماعيّة لأسبابٍ ومبرّراتٍ كثيرة. ولكن ما هي نظرة الإسلام إلى العلاقة بالوالدَين؟ وما هو موقفه من اللجوء إلى تلك المراكز؟

أثبتت دراساتٌ عدّة أنّ عدداً كبيراً من نزلاء هذه الدور يعاني من الاكتئاب، ولا يقدر على الانخراط في أنشطة اجتماعيّة في بيئة فُرضت عليه


* مبرّرات الاستعانة بدُور المسنّين
تُطرح عادةً مبرّرات عدّة للّجوء إلى خيار الاستعانة بدُور المسنّين كبديل عن رعاية الوالدَين المسنّين في المنزل. وهذه المبرّرات بعضها قد يكون واقعيّاً، وبعضها هو مجرّد محاولة لتبرير الموقف من الناحية النفسيّة للشخص الذي أقدم على اتّخاذ مثل هذا القرار، والاستعانة بالمراكز والمؤسّسات التي تقدّم مثل هذه الخدمات. وأهمّ ما يخطر في البال من هذه المبرّرات:
- حاجة الوالدَين إلى رعاية دائمة ومراقبة، والعجز عن تقديم هذه الخدمة في المنزل.
- الأوضاع الماديّة التي لا تسمح بتوفير مثل هذه الرعاية في المنزل.
- الحاجة إلى تنظيم مواعيد الأدوية وغيرها.
- الاعتماد على النفس والمحافظة على الاستقلال.
- وجود بيئة اجتماعيّة تساعد المسنّ في المشاركة في أنشطة اجتماعيّة بدلاً من البقاء وحده وقتاً طويلاً.
- عدم تعاون سائر الإخوة، وإلقاء العبء على عاتق أحد الأبناء.
- عدم تعاون الزوجة أو الأولاد.
- ضيق بيوت السكن، وعدم قدرتها على استيعاب ضيفٍ جديدٍ بتخصيص غرفة مستقلّة له.

* وقائع مغايرة
لعلّ القائمة تطول إذا أردنا استعراض جميع المبرّرات التي تُذكر للإقدام على هذه الخطوة. ولعلّ مناقشة هذه المبرّرات تخرجنا عن الحدود التي رسمناها لهذه المقالة، إلّا أنّه لا يحسن المرور على هذه المبرّرات دون مناقشة بعضها، حتّى ما كان منها صحيحاً ولو جزئيّاً. وباختصار، أشير إلى أنّه حتّى لو افترضنا صحّة هذه الأمور، فإنّ الدراسات الاجتماعيّة التي أجريت على دور الرعاية، أثبتت عدم كفاءتها، لا بل عجزها عن تأمين الأهداف المبتغاة منها، وقد أثبتت دراساتٌ عدّة أنّ عدداً كبيراً من نزلاء هذه الدور يعاني من الاكتئاب، ولا يقدر على الانخراط في أنشطة اجتماعيّة في بيئة فُرضت عليه. وكثيراً ما تنقل بعض هذه الدراسات عبارة دالّة بأفصح لسان على حالة الغربة التي يعاني منها المسنّ في هذه الدور، وهي: "بيت جميل... إلّا أنّه ليس بيتي". يُضاف إلى هذا، أنّ هذه الحسنات المذكورة تقابلها مساوئ وأعراض جانبيّة تتفوّق عليها.

* البرّ الإسلاميّ بين المباشرة والتوسّط
في القرآن الكريم عددٌ من الآيات الكريمة التي تبيّن أهمية البرّ بالوالدَين والإحسان إليهما. وسوف أحاول استقصاء ما يلزم من هذه الآيات، ثمّ محاولة استنطاقها في ما يرتبط بالموقف من الرعاية المباشرة أو الرعاية بالواسطة:
1- يذكر الله عدداً من الأنبياء بالفضائل، ويشير بين هذه الفضائل إلى برّ الوالدَين، كما في حالة النبيّ يحيى عليه السلام: ﴿وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ﴾ (مريم: 14). والأمر نفسه نجده في حديث النبيّ عيسى عليه السلام عن نفسه(1).

2- يعلن الله تعالى في كتابه أنّه وصّى الإنسان بالإحسان إلى والديه، وذلك في ثلاث آيات، هي:
- ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً﴾ (العنكبوت: 8).
- ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ...﴾ (لقمان: 14).
-﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً﴾ (الأحقاف: 15).


3- تتكرّر في القرآن الكريم مرّات عدّة عبارة: ﴿وَبِالوالدَين إِحْسَاناً﴾(2).

ويقول تعالى في آية أخرى لها صلة أعمق بما نحن بصدد الحديث عنه: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالوالدَين إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً﴾ (الإسراء: 23).

إذاً، بناءً على هذه الآيات وغيرها، المطلوب من الأبناء تجاه الوالدَين البرّ والإحسان إليهما. والسؤال الذي ينبغي أن يُطرح هنا: هل يتحقّق البرّ بتأمين الرعاية بأيّ وسيلةٍ، وكيفما كان، أم أنّه يُستفاد من الآيات الكريمة طريقةٌ محدّدةٌ في البرّ دون غيرها؟

إنّ البرّ والإحسان لا يتحقّقان في أكثر الحالات إلّا بالرعاية المباشرة؛ وذلك لأسباب عدّة، نعرض لأهمّها في ما يأتي:
أ- إنّ دُور الرعاية، مهما كانت مواصفاتها عاليةً، فإنّها تقدّم خدماتها مقابل بدلٍ ماليٍّ، و"شتّان بين المستأجرة والثكلى"، كما يقول المثل العربيّ المشهور. ولو فُرض وجود مثل هذه المؤسّسات في مجتمعاتنا، فمن الطبيعيّ أن تكون عالية الكلفة، بحيث تعجز أكثر الأسر عن تحمّل أعبائها.

ب- بغضّ النظر عن التسميات التي تطلق على مثل هذه المؤسّسات، فإنّ التعبير غير المنمّق عن الدور الذي تؤدّيه -وهو رعاية المسنّ بعد خروجه من بيئته الطبيعيّة وهي الأسرة إلى بيئةٍ أخرى- له آثار نفسيّةٌ سلبيّةٌ يصعب علاجها أو التخفيف منها. وهذا شعورٌ لا يدرك بدقّة إلّا بالتجربة، ويمكن تلمّسه في حالات مشابهةٍ وقع الإنسان فيها وقتاً قليلاً. وقد كانت هذه الظاهرة موضع دراسات نفسيّة معمّقة في حالة الطفل كما في حالات كبار السنّ(3).

ج- من المشكلات التي ترافق إلحاق الوالدَين بدُور الرعاية، أنّ البُعد الماديّ يؤدّي بالضرورة إلى الانفصال العاطفيّ، وبالتالي ثمّة فرقٌ كبيرٌ بين إحساس الإنسان بحاجة والدَيه إليه عندما يكونان في بيته، وبين إحساسه بوجود من يتولّى أمرهما في دارٍ بعيدةٍ عن داره.

هذه الملاحظات وغيرها تدفع إلى القول إنّ البرّ والإحسان لا يتحقّقان بهذا الأسلوب من الرعاية، وبالتالي لا يكون الولد قد أدّى واجب البرّ والإحسان لوالدَيه في أكثر حالات الاستعانة بدُور الرعاية الخاصّة.

د- والنقطة الأخيرة التي أودّ ختام هذه الملاحظات بها، هي الجواب عن هذا السؤال: هل يُستفاد من الآيات الكريمة التي سردناها أعلاه وجوب الرعاية المباشرة؟ يبدو لي ذلك من التأمّل في هذه الآيات، ويظهر أيضاً من خلال ملاحظات ثلاث:

- أولاً: إنّ القرآن الكريم استخدم حرف الجرّ "الباء" قبل كلمة الوالدَين في عددٍ كبير من الحالات التي أشار فيها إليهما. وللباء في العربية معانٍ عدّة: "أولها: الإلصاق، قيل: وهو معنى لا يفارقها، ثمّ الإلصاق حقيقي ك‍(أمسكت بزيد)، إذا قبضت على شيء من جسمه، أو على ما يحبسه من يد، أو ثوب، ونحوه..."(4). وبعبارة أخرى: كان يمكن أن يدعو الله إلى الإحسان بطريقة أخرى: كأن يقول: "أحسنوا إلى والديكم"؛ ولكنّه عدل عن هذا التعبير إلى تعبيرٍ بحرفٍ يتضمّن معنى القرب والملاصقة، وهذا لا يتحقّق في دُور الرعاية.

- ثانياً: إنّ الآية الأخيرة التي ذكرتُها تتحدّث عن بلوغ الوالدَين أو أحدهما الكبر، وتقيّد ذلك بقيد "عندك"، وكذا تنهى عن قول "أفٍّ" وعن النهر، وهذا يتضمّن بالضرورة القرب، فإنّ مثل هذه الكلمات والعبارات لا يحسن النهي عنها مع البُعد. وهذا يعني، على الأقل في النقطة الأولى، أنّ الحالة الطبيعيّة التي يفترضها القرآن هي أن يكون الوالدان عند الابن أو هو عندهما.

- ثالثاً: إنّ الدعوة إلى الإحسان بالوالدَين في عدد من الآيات وردت في سياق الحديث عن أمور لا تقبل النيابة، كورودها في سياق الدعوة إلى عبادة الله تعالى، أو الحديث عن حمل الأم ووضعها للطفل. وأحسب أنّ لهذا السياق دلالة بدرجةٍ ما على المطلوب، ولو على نحو الإشعار.

* ختامٌ واستثناء
إذاً، بناءً على ما تقدّم كلّه، يبدو أنّ الخيار الأكثر انسجاماً مع التكليف بالبرّ والإحسان هو تولّي الأبناء الرعاية المباشرة لآبائهم، وعدم اللجوء إلى خيارات بديلة، مع استثناء بعض الحالات الخاصّة التي قد تطرأ على الأبناء أو الآباء، كما في حالة حاجة الوالدَين إلى رعاية تخصّصية لا يمكن للأبناء توفيرها، وكما في حالة بعض المراكز التي تتولّى رعاية المسنّ لفترة من الزمن، بهدف إعادة تأهيله بعد مرضٍ أو ما شابه، وفي هذه الحالات يدّعي هؤلاء توقّف هذا التأهيل على الاستقلال لفترة من الزمان؛ هذا كلّه بشرط أن يُراعى الترتيب الآتي في رعاية المسنّ: بأن يكون في بيته هو، ويتولّى الأبناء الاهتمام به في منزله. والخيار الثاني هو منازل الأبناء، شرط عدم اعتماد طريقة المناوبة بأسلوبٍ يُشعر المسنّ بأنّه عبء يستطيع تحمّله أحد الأبناء لشهرٍ مثلاً، ثم ينقله إلى كاهل أخيه، وهكذا...


(*) مدير مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي.
1- انظر: سورة مريم: الآية 32.
2- انظر: سورة البقرة، الآية 83؛ سورة النساء، الآية 36؛ سورة الأنعام، الآية 51، وغيرها.
3- انظر كمثال: سيكولوجية الانفصال، جون بولبي، دار الطليعة، بيروت، 1991م.
4- مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، ابن هشام، ج 1، ص 101.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع