مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

سوء التدبير: ذهنية وممارسات

قد يعتقد بعض الناس أنّ التخطيط والتدبير هما من اهتمامات المشتغلين بالاقتصاد والإدارة وغيرهما. والواقع أنّ نجاح أي أمر في الحياة رهن بالتخطيط الناجح له، مهما كان هذا الأمر بسيطاً أو معقّداً. وليس عبثاً أن جُعلت صفة التدبير إحدى الخصال الخمس المهمّة في شخصيّة الإنسان، في حديث الإمام جعفر الصادق عليه السلام حيث يقول: "خمس خصال من لم تكن فيه خصلةٌ منها فليس فيه كثيرٌ مستمتع: أوّلها الوفاء، والثانية التدبير، والثالثة الحياء، والرابعة حُسن الخُلُق، والخامسة وهي تجمع هذه الخصال الحرّية"1.

*التخطيط... قرقعة الطحين

وإذا كان التدبير على المستوى الفردي بهذه الأهمية، فإن أهميته تصبح مضاعفة على المستوى الجماعي والعام، إذ إن تطوّر مجتمع وتأخّر آخر يُعزى إلى الحيّز الذي يخصصه القيمون عليه للتخطيط؛ طبعاً على أن لا يكون التخطيط من قبيل المثل القائل: "أسمع قرقعةً ولا أرى طحيناً".

صحيح أنّ التدبير والتخطيط يُدرّس في كبريات الجامعات اليوم وتُخصِّص لهما الشركات والمؤسّسات أكثر برامجها التدريبية، إلا أن بذرة هذه المَلَكَة يكتسبها المرء منذ الصغر في أسرته من خلال معايشته لنموذجي الأمّ والأب المدبّرين.

وليس هدف التدبير في الأسرة تنمية هذا الحسّ عند الأبناء فحسب، بل هو هدفٌ بعينه، يتوقّف عليه نجاح المؤسسة الزوجية ووصولها إلى أهدافها. ولا يعني تداول هذا الموضوع حديثاً أنه لم يكن موجوداً في المجتمعات السابقة؛ بل قد نُفاجأ بأنّ الأجداد والجدّات في العقود الماضية كانوا أكثر تدبيراً وإدارةً لأمور أُسرهم ممّا هو الحال عليه اليوم. ومن تجاربهم صاغوا الكثير من الأمثال الشعبية التي تعبّر عن ذلك، منها: "على قدّ بساطك مدّ جريك (رجليك)"، "خبّي قرشك الأبيض ليومك الأسود"... وغيرهما من الأمثال.

هذا التغيّر في كيفية إدارة الأُسَر لمواردها يرجع إلى عوامل متعدّدة، أبرزها: التغيّر الاجتماعي على مختلف المستويات، والضخّ الهائل لثقافة الاستهلاك، مع ضعف الآليّات المتبعة من مؤسّسات التنشئة لضبط واحتواء ومواجهة هذه الثقافة، ما أدى إلى إنتاج أجيال حالية تربط في الكثير من الأحيان رضاها عن ذاتها بصورتها الخارجية بما هي مجموع من المقتنيات المادّية والتقنية.

*صلاح العيش التدبير

وتعتبر الأسرة، على الرغم من كل العوامل والمتغيّرات الأخرى، من فضائيات ومواقع تواصل تفاعلي إلكتروني وغيرها، أكثر مؤسّسات التنشئة تأثيراً على الفرد على الإطلاق، كما تشير الدراسات الحديثة؛ لذلك فإنّ عمودَيّ الأسرة، الزوج والزوجة، منذ اللحظة الأولى لبدء حياتهما المشتركة لا بد من أن يوليا مسألة إدارة موارد الأسرة اهتماماً بالغاً. مع العلم أنّ المؤشّرات داخل مجتمعاتنا تشير إلى خلاف ذلك، فنرى أنّ الشاب والشابة المقبلين على الزواج، إرضاءً لما يريده المجتمع، يثقلان كاهليهما بأعباء مادّية قد تفوق قدرتهما، بدءاً من تكاليف حفلة الزواج، إلى مواصفات البيت الزوجي وغيرها من التفاصيل التي يكون محور اختيار الزوجين لها "ما سيقوله الآخرون عنا". ومن هنا نكون قد بدأنا بالابتعاد عن القاعدة التي أرساها الإمام علي عليه السلام بقوله: "صلاح العيش التدبير"2.

والتدبير لا يكون بشكل استنسابي وعشوائي، بل يستند إلى منظومة من القيم المحدّدة للسلوك والتي على أساسها يجري التخطيط لكيفية إدراة مدخول الأسرة. ويمكن أن نستقي من الآية القرآنية الحدّين السلبيين للذين لا بدّ من أن لا يصل السلوك إليهما وهما الإقتار والإسراف: ﴿والذينَ إذا أنْفَقوا لَمْ يُسْرِفوا وَلَمْ يقتُروا وكانَ بَيْنَ ذلكَ قَواماً (الفرقان: 67).

*رأس الاحتياجات ماديّة

وقد يعتقد بعض الناس بأنّ التدبير للأغنياء وذوي الدخل المرتفع فقط، في الوقت الذي يُشير الكثير من الدراسات حول العوائل الفقيرة إلى أنّ غياب التخطيط عند بعضها يؤدّي إلى زيادة الفقر، ووجوده عند بعضها الآخر هو المسؤول عن تحسين نوعية الحياة لديها. وهناك قولٌ لافتٌ للإمام علي عليه السلام في هذا المجال يقول فيه: "حسن التدبير ينمّي قليل المال، وسوء التدبير ينفي كثيره"3.

إذا ما ألقينا نظرة على احتياجات الأسرة التي لا بد أن تؤخذ بعين الاعتبار أثناء التخطيط لإدارة المال فيها، يترأس هذه الاحتياجات، الاحتياجات المادية منها، بمعنى تأمين المأكل والمشرب والملبس. وهنا سأتوقف عند عادات اجتماعية أصبحت من سمات العصر اليوم وتعتبر مسرباً أساسياً لموارد الأسرة وتتعلّق بهذه الاحتياجات.

يشير بعض الدراسات إلى أنّ أطناناً من الطعام تُرمى سنوياً في سلّة المهملات. وتعود أسباب ذلك إلى عوامل عدّة؛ منها ما هو مرتبط بالعادات والسلوكيّات المتعلّقة بالطعام. وحتى أنّ بعض الدراسات يتحدّث عن كمّيات الطعام التي تُرمى في المناسبات الدينية. لذا وجد بعض الجمعيات نفسه ملزماً بإيجاد حلول لهذه المشكلة، من خلال إعادة توضيب ما يمكنه تحصيله من هذه الأطعمة وتوزيعها على الناس الأكثر فقراً. وإذا ما راقبنا سلال المهملات قد نُذهل بالفعل بسبب كمّية الطعام التي تُرمى.

*رمي الطّعام خطّ أحمر

وإضافة إلى أنّ هذا الأمر مرتبط بعدم شكر النعمة، فهو يعتبر مسرباً أساسياً لمدخول الأسرة. وهو مرتبط بشكل شرطي بالأم والأب، فلا يمكن لأحدهما أن يقول إنّ ابني لا يقبل إطلاقاً بتناول طعام من يوم فائت، فالأبناء يعتادون عادات الآباء والأمّهات، فإذا نشأ طفل في أسرة يعتبر فيها رمي الطعام خطّاً أحمر، ويتناول فيها الأمّ والأب الطعام من الأيام الفائتة، فإن هذا الأمر لن يصبح عنده موضع تردّد بالأصل. مع الإشارة هنا إلى أنّ أهمّ المدارس الفندقية في العالم تتحدّث عن إمكانية تناول الطعام الموضّب بشكل جيّد لمدّة ستّة أيّام من إعداده.

ظاهرة ثانية، إذا ما أجرينا حساباتنا سنجد أنّها تستنزف الكثير من مداخيلنا، وهي الأطعمة السريعة الجاهزة؛ ففي ظلّ العولمة الاقتصادية وتعميم نماذج محدّدة من الأطعمة، تسعى الشركات الكبرى لتسويق الأطعمة الجاهزة في مختلف المجتمعات وبمختلف الوسائل، واللافت أنّها تبني طرق تسويقها على دراسات حول عادات الشعوب وثقافاتها لتضمن نجاح منتجاتها ووصولها بسهولة إلى كل المستهلكين. ولا يعني التدبير هنا الوقوف في وجه هذه الظاهرة، بل تحديد وضبط استهلاكنا حتى لا يجرفنا التيّار إلى حيث لا ندري.

*منهج حياة

ولا يتوقّف الاستنزاف المادّي عند الأطعمة، بل نجد مختلف المنتجات المادية، محطّ جذب للأبناء وجيوب الآباء والأمّهات، حتّى لنجد أنّ ما يريده الشابّ أو الشابّة من هذا المنتج أو غيره هو الاسم فقط؛ سواء أكان هذا المنتج لباساً فيهتم في إبراز (الماركة) الخاصة به، أم كان هاتفاً ذكياً يدفع عليه راتبه أو ضعفه ولا يستخدم غالبية التطبيقات التي يشتمل عليها... المسألة مسألة ذهنية استهلاكية نتربّى عليها وفق قاعدة (ما أريده - أو ما يريدني الآخرون أن أكون عليه - أحصل عليه) وليس وفق قاعدة (ما أحتاجه وأقدر عليه أحصل عليه)، وبين القاعدتين منهجا حياةٍ مختلفان. من المهمّ جداً أن يتّفق الأبوان معاً على القيم نفسها، وعلى المنهج نفسه، حتى يكون حسن التدبير سيّد الموقف، وأن لا يقعا في فخّ الخوف من الشعور بأنّهما يحرمان أبناءهما إذا ما لم يشتريا لهم ما يريدونه... فالحرمان الحقيقي للأبناء هو الحرمان العاطفي، وما عداه كلُّه مقدورٌ للأبناء تحمّل الاستغناء عنه إذا ما غُلّف بالحبّ.

أن نبدأ بالأولويات ومن ثمّ الكماليات أمرٌ ضروري أثناء التخطيط، ولكن قد تكون المشكلة في بعض الأحيان في عدم قدرتنا على التفريق بينهما. لذلك لا بدّ من جلسة تفكّر وتخطيط، نحاول أن نوازن فيها بين المدخول والاحتياجات؛ لأن "آفة المعاش سوء التدبير"4.



* باحثة اجتماعيّة.

1- وسائل الشيعة (آل البيت)، الحرّ العاملي، ج20 ص51.
2- ميزان الحكمة، الريشهري، ج2 ص1384.
3-  م.ن، ص1385.
4- م.ن، ج1 ص85.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع