مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

يعبدون الله أفواجاً

الشيخ د. محمد حجازي

يرتبط الإنسان بعادات وتقاليد عُرفيّة وثقافات مختلفة، تأخذ أبعاداً اجتماعيّة متعدّدة، وتؤثّر على بناء شخصيّته من الناحيتين الإيجابيّة والسلبيّة.
لكن ثمّة مفاهيم إسلاميّة ترتبط بالشعائر الدينيّة، تلعب دوراً إيجابياً فريداً في بناء الشخصيّة الإنسانيّة، وتأخذ أبعاداً اجتماعيّة متنوّعة تصبّ كلّها في تحسين الصفات الأخلاقيّة والسلوكيّة الخاصّة والعامّة، دون أيّ محذور من محاذير العادات والتقاليد السلبيّة.
ولهذا، برزت مفردة الشعائر في الثقافة الإسلاميّة بشكلٍ كبير. وقد أفرد العلماء مصنّفات تحت هذا المفهوم؛ لما له من أهميّة بالغة في تكوين العقيدة الجمعيّة العامّة.


*الشعيرة في الإسلام
عُرّفت الشعائر في قواميس اللّغة بأنّها "المعالم التي ندب الله إليها، وأمر بالقيام بها"(1). ومفردها "شعيرة"؛ أيّ العَلَم المنصوب الدالّ على الأشياء التي أمر الله تعالى بها.
وعرّفها العلماء، بحسب الاصطلاح العلميّ، أنّها: العلامات المنصوبة للفرق بين الحِلّ والحرام، ونهاهم الله تعالى أن يتجاوزوها إلى مكّة بغير إحرام(2). أو هي معالم حدوده، وأمره ونهيه، وفرائضه. وهي بشكلٍ خاصّ شعائر الله ومناسك الحجّ، وهي الصفا والمروة لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ (البقرة: 158)، ولقوله أيضاً: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ (المائدة: 2)، وفي آية أخرى: ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ (الحجّ: 32).

*مظاهر الشعائر.. اجتماعية
وإذا كانت الشعيرة تنطبق بمعناها على حرمات الله، وكل ما يتعلّق بالأوامر والنواهي الإلهيّة، فذلك يعني -من باب توسعة المفهوم- أنّ أيّ فعل أو نشاطٍ يؤدّي إلى الدلالة على الله تعالى، فهو من شعائر الله سبحانه وتعالى. ولو تأمّلنا في هذه الشعائر لوجدناها ترتبط بالحياة الإنسانيّة والاجتماعيّة ارتباطاً وثيقاً، بل
إنَّ من خصائص الشعائر الدينيّة أنّها تتمظهر بالمظاهر الاجتماعيّة، ولا تنفصل عن البُعد الجمعي للحياة البشريّة.

*الحجّ موسم التعارف
ومن باب المثال، فريضة الحجّ، فعلى الرغم من كون الحجّ رحلة توحيديّة وهجرة إلى الله من الشرك الباطنيّ إلى التوحيد الخالص، ومع ما يستوعبه من أعمال عباديّة شاقّة، إلّا أنّ مظاهره الحركيّة والفيزيائيّة كافّة هي اجتماعيّة من الطراز الأول.
ففي موسم الحجّ ينطبق قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ (الحجرات: 13). فالحجّ موسم التعارف والتحابب وبناء الصداقات وبناء الإيمان الجَمعيّ.

*الصلاة جماعةً ثوابها مضاعف
وكذلك الأمر بالنسبة للصلاة اليوميّة، فهي تؤدّى فرادى وجماعة. وقد ورد كثيرٌ من المرغبات والأحكام على إقامة الصلوات الخمس جماعة، لما في ذلك من آثار اجتماعيّة هائلة، نذكر منها على سبيل المثال:

أولاً: تتيح المجال للمصلّين جماعةً أن يتعارفوا، ويشدّوا قلوبهم بالإيمان، ويكونوا عوناً على إظهار مبادئ الإسلام. وقد ورد عن الإمام الرضا عليه السلام أنّه قال: "إنما جُعِلت الجماعة لئلا يكون الإخلاص والتوحيد والإسلام والعبادة لله إلّا ظاهراً مكشوفاً مشهوراً، لأنَّ في إظهاره حجّةً على أهل الشرق والغرب لله وحده، وليكون المنافق والمستخفّ مؤدّياً لما أقرَّ به يظهر الإسلام والمراقبة، ولتكون شهادات الناس بالإسلام بعضهم لبعض جائزة ممكنة، مع ما فيه من المساعدة على البرّ والتقوى، والزجر عن كثير من معاصي الله عزّ وجلَّ"(3).

ثانياً: تساهم في تفريج همومهم وغمومهم؛ لأنّ الاجتماع بالمؤمنين له أثر كبير على تغيّر مزاج الإنسان وطبعه، وذلك من خلال قضاء حوائج بعضهم بعضاً، أو بثّ الشكوى.

ثالثاً: الخروج من الاعتزال النفسي إلى الحضور الجمعي، والاطلاع على قضايا المسلمين وهمومهم السياسيّة والاقتصاديّة، وتنمية الوعي في المجالات كافّة.

رابعاً: التعلّم والاستزادة المعرفيّة والثقافيّة التي تؤثّر بشكلٍ مباشرٍ على ثقافة الإنسان، وتشجّعه على الاختلاط والتحادث مع الناس بالطرق العلميّة الصحيحة، ما يساهم في زيادة الوعي الاجتماعيّ العامّ.

خامساً: مضافاً إلى ما ذكرناه فإنَّ لصلاة الجماعة أجراً عظيماً حيث ورد أنَّها تحطُّ الذنوب عن ابن آدم كما تتحات الأوراق عن الشجر. وقد جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "من مشى إلى مسجد يطلب فيه الجماعة كان له بكلّ خطوة سبعون ألف حسنة، ويرفع له من الدرجات مثل ذلك، فإن مات وهو على ذلك وكّل الله به سبعين ألف ملك يعودونه في قبره ويبشّرونه ويؤنسونه في وحدته، ويستغفرون له حتّى يبعث"(4) .

ولذلك، نلاحظ أنَّ بعض الصلوات اليومية، كصلاة الجمعة، لا يُقام إلّا جماعة، ولا ينعقد إلّا بالحضور الجماعي، وهذا الأمر فيه تأكيد كبير على وجوب الاندماج الاجتماعيّ وتعميم الوعي الدينيّ والسياسيّ.

وثمّة صلوات أخرى تشابه صلاة الجمعة، تنطبق عليها أحكام الحضور في زمن حضور الإمام المعصوم عليه السلام، حيث لا تقام إلّا جماعة، وتأخذ بُعداً جماعياً يعزّز من أواصر العلاقات البشريّة ويؤكّد على ضرورة الوحدة التي تساهم في بناء العقيدة السليمة ويحقّق مراتب التوحيد الإلهيّ الحقيقي.

*صلاة الاستسقاء
ومن الأمثلة الأخرى التي تؤكّد على المعنى الذي ذكرناه، هو ما يُعرف بصلاة الاستسقاء، فعند انقطاع المطر من السماء وجدب الأرض، وموت نباتها وغور آبارها، يستحبّ أن يجتمع المؤمنون، كباراً وصغاراً، نساءً ورجالاً، في الأرض الفلاة ويدعوا جميعاً ويصلّوا لله معاً من أجل أن يمطر الله أرضهم بالماء المبارك، ويستحبّ أن يُسمع صراخ الأطفال لِما له من أثر على استجابة الدعاء.

إنَّ مثل هذه الطقوس الدينيّة يبعث الطمأنينة في قلوب الناس؛ لأنّها تربّيهم على طرد الأنانيّة من نفوسهم، وتنمّي فيهم مشاعر الاهتمام بالآخر، وعدم الابتعاد عن هموم الناس.

*الواجب الكفائيّ: مسؤولية مجتمع
ومن الأمور التي تلفت الانتباه، أنَّه وبحسب تقسيم الفقهاء للواجبات، التي منها الواجب العيني على كلّ شخص مسلم، والواجب الكفائي على واحد منهم، ففي حال كان التكليف على مستوى الجماعة حتّى يؤدّيه واحد منهم، كالصلاة على الميّت، لا يجوز أنْ يتقاعسوا عن تأديته (بواحد منهم)، لأنه في حال تكاسلوا عن ذلك، فقد أثِمُوا بأجمعهم.
فمن الواضح أنَّ الشرع الحنيف -كما أنّه في القسم الأوّل حمّل المسؤولية لكلّ فرد على حِدة، كذلك- حمّل جماعة المسلمين المسؤولية بأنْ يقوم واحدٌ منهم بتأديته. وهذا يعني، أنَّ الأحكام الشرعيّة ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالفعل البشريّ الجمعيّ لها، وحُمّلوا المسؤولية الجماعيّة دون استثناء بين المكلّفين.

والأمر نفسه، نلاحظه في مسألة تشييع الموتى والصلاة على الجنائز، فكم للمشيّعين من أجر عظيم على مشاركتهم في التشييع، فقد ورد عن الإمام أبي جعفر عليه السلام أنّه قال: "كان فيما ناجى به موسى ربّه أن قال: يا ربّ ما لمن شيّع جنازة؟ قال: أُوكل به ملائكة من ملائكتي معهم رايات يشيّعونهم من قبورهم إلى محشرهم"(5).
وعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال أيضاً: "من شيَّع جنازة مؤمن حطّ عنه خمس وعشرون كبيرة، فإنْ ربّعها خرج من الذنوب"(6).

*إحياء ليالي القدر والدعاء جماعة
وهكذا، لو جُلنا بالنظر في بقيّة الشعائر، نجد أنّها تترك الآثار النفسية نفسها. ففي شهر رمضان المبارك يحمّس الناس بعضهم بعضاً على إحياء ليالي القدر، وتحيا فيهم مشاعر الأنس بصحبة المؤمنين، وضرورة تلاقيهم وتزاورهم، وتنمو صورة المظهر الاجتماعيّ في صلاة العيد، حيث تتجمهر الناس ليعيشوا فرحة الإفطار والطاعة لله عزَّ وجلّ.

*المشاعر الحسينيّة
وهكذا نشهد الأمر نفسه في إحياء شعائر أهل البيت عليهم السلام، بخاصة المجالس الحسينيّة، حيث يعيش الناس الحزن والمواساة جماعةً. ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "من أنشد في الحسين عليه السلام بيتاً من شعر فبكى وأبكى عشرة فله ولهم الجنة"(7)، لما له من أثر بالغ في تربية المجتمع وتعاطف أفراده وتحاببهم. ولذلك حثّ الأئمّة عليهم السلام على تلك الإحياءات: "أحيوا أمرنا، رحم الله من أحيا أمرنا"(8).

هذا كلّه إن دلّ على شيء، فإنّما يدل على أنّ الشعائر الدينيّة قد لاحظت في مصالح أحكامها ومفاسدها (ملاكات الأحكام) ما يتحقّق به جلب المصلحة للجماعة البشرية، ودفع المفسدة عنهم، من أجل الحفاظ على الحرمات الإنسانيّة. وهذه الحرمات هي -بحسب التشريع- لا تنفصل عن حرمات الله سبحانه وتعالى.


1.تاج العروس، الزبيدي، ج7، ص33.
2.مجمع البحرين، الشيخ الطريحي، ج2، ص515.
3.ميزان الحكمة، الريشهري، ج2، ص1648.
4.م.ن، ص1259 .
5.وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج3، ص142 .
6.الهداية، الشيخ الصدوق، ص111.
7.ميزان الحكمة، م.س، ج3، ص1985.
8.الانتصار، العاملي، ج9، ص33

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع