إنّ القيمة الكبيرة التي توليها رواياتنا لقطرة واحدة من الدموع لمظلوم كربلاء عليه السلام، بل وحتّى للتباكي والتظاهر بالبكاء، ليست من باب أنّ سيّد المظلومين عليه السلام بحاجة إلى ذلك، وليس لكي تحصلوا أنتم ومستمعوكم على الثواب، رغم أنّ في ذلك الثواب الكبير. ولكن لماذا خُصّص هذا الثواب وبهذا الحجم الكبير لهذه المجالس؟ ولماذا جعله الله تبارك وتعالى للدمع، بل وحتّى لقطرة واحدة منه، بل وحتّى التباكي؟
* المجالس في مواجهة الأغلبيّة الظالمة
إنّ كلّ هذا الثواب الذي خُصّص لمجالس العزاء ولرثاء الإمام الحسين عليه السلام، يكمن في قضيّة سياسيّة مهمّة، فضلاً عن جوانبها العباديّة والروحيّة. فذلك اليوم الذي صدرت فيه هذه الروايات، كان يوماً كانت فيه الفرقة الناجية مبتلاة بالحكم الأمويّ والعبّاسيّ في الغالب، بهدف القضاء على الإسلام وعلماء الدين، وكان ثمّة أقليّة قليلة للغاية في مواجهة القوى الكبرى آنذاك. ومن أجل تنظيم النشاط السياسيّ لهذه الأقليّة، بدأ النقل عن مصادر الوحي بأنّ المجالس والدموع التي تُذرف فيها، لها كلّ هذه العظمة. فكان الشيعة يجتمعون على أقليّتهم آنذاك، ولعلّ الكثير منهم لم يكونوا يعلمون ما هو الموضوع، ولكنّ الهدف كان تنظيم مجموعة من الأقليّة أمام تلك الغالبيّة. وهكذا، كانت هذه المجالس طيلة التاريخ تنظيماً عامّاً في البلاد الإسلاميّة، وفي إيران التي هي مهد التشيّع والإسلام والشيعة.
* اجتماع على حبّ الإمام الحسين عليه السلام
في المرّة الأولى التي اعتقلوني فيها في قمّ، كان بعض رجال الأمن يقولون لي في السيّارة، إنّهم جاؤوا لاعتقالي ولكنّهم كانوا يخشون الخيم المنصوبة في قم، وكانوا يخشون أن يبلغ الخبر مسامع المحتشدين في الخيم، فلا يستطيعون القيام بمهمّتهم.
إنّ القوى الكبرى تخشى هذا التنظيم وهذه المجالس من دون أن يكون ثمّة يد واحدة تجمع كلّ هؤلاء الناس؛ لأنّ أبناء الشعب يتلاحمون من تلقاء أنفسهم في أرجاء البلاد أيّام عاشوراء، وفي شهري المحرّم وصفر وفي الشهر المبارك أيضاً. فإذا أراد شخص أن يقدّم خدمة للإسلام ما عليه إلّا أن يصرّح بموضوع ما، فإنّه ينتشر في جميع أرجاء البلاد بواسطة هؤلاء الخطباء وأئمّة الجمعة والجماعة، فيؤدّي اجتماع الناس تحت هذا البيرق الإلهيّ والحسينيّ، إلى أن ينظّموا أمورهم. في حين أنّ القوى الكبرى إذا أرادت أن تقيم تجمّعاً في مناطقها، فإنّه لا يتمّ إلّا بعد جهود كبيرة ما يستغرق أيّاماً أو أسابيع عدّة.
* البكاء على الإمام عليه السلام يحيي النفوس
لعلّ المتأثّرين بالغرب يُعايروننا بأنّنا «شعب البكاء»، ولعلّ هؤلاء لا يستطيعون أن يتحمّلوا الثواب العظيم الذي تحمله قطرة واحدة من الدمع أو التوجّه إلى الله بالدعاء. إنّ الجانب السياسيّ من هذه الأدعية والجانب المعنويّ المتمثّل بالتوجّه إلى الله هما اللّذان يعبّئان الشعب للهدف الإسلاميّ. إنّ مجلس العزاء ليس هدفه البكاء على ما حلّ بسيّد الشهداء عليه السلام والحصول على الثواب فحسب -علماً أنّ هذا الهدف مقصود ويستحقّ الأجر الأخرويّ أيضاً- بل إنّ الهدف الأساس هو تحقيق الوعي بالجانب السياسيّ الذي خطّط له أئمّتنا عليهم السلام في صدر الإسلام؛ كي يبقى حتّى النهاية، فليس بإمكان أيّ شيء أن يترك تأثيراً بمقدار ما يتركه العزاء لسيّد الشهداء عليه السلام.
إنّ مجالس العزاء والرثاء لسيّد المظلومين عليه السلام، والتعبير عن الظلم الذي تعرّض له؛ ولشخص ضحّى بروحه وبأصحابه وبأولاده في سبيل الله ولرضاه، كلّ هذه الأمور هي التي خرّجت هؤلاء الشباب الذين يتوجّهون إلى الجبهات ويطلبون الشهادة ويفتخرون بها، ويحزنون إن لم يفوزوا بها، وهي التي تصنع مثل تلك الأمّهات اللاتي يفقدن أبناءهنّ، ومع ذلك، فإنّهنّ مستعدّات لتقديم أبنائهنّ الآخرين.
إنّ مجالس عزاء سيّد الشهداء عليه السلام ومجالس الدعاء هي التي تصنع هذا الشعب على هذه الشاكلة، وقد شيّد الإسلام الأساس منذ البدء، بحيث يمضي إلى الأمام بهذه الفكرة وبهذا البرنامج. وإذا ما فهم أولئك الذين يعايروننا حقّاً الهدف من مراسم العزاء، ولماذا اكتسب البكاء كلّ هذه القيمة والأجر عند الله، فحينئذٍ، لن يصفوننا بأنّنا «أهل البكاء»، بل سيعدّوننا «شعبَ الملاحم».
* اعرفوا قدر هذه المجالس
إنّ على شعبنا أن يعرف قدر هذه المجالس التي تُبقي الشعوب حيّة. وأنا آمل أن تُقام هذه المجالس أكثر فأكثر وبنحو أفضل. والجميع له دور في ذلك بدءاً من الخطباء الكبار وحتّى منشدي المراثي؛ فكلّ له أثر في هذه القضيّة.
لقد بلغنا تقريباً هذه الدرجة، وهي أنّ شعبنا قام بثورة على حين غرّه، وحدث انقلاب لا نجد نظيره في أيّ مكان آخر ببركة هذه المجالس التي كانت تجمع كلّ البلد وكلّ أبناء الشعب مع بعضهم بعضاً. إنّنا شعبٌ استطاع بهذا البكاء أن يقضي على سلطة عمرها 2500 سنة.
*من كلمة لآية الله الإمام الخمينيّ قدس سره، حسينيّة جماران، بتاريخ: 20/6/1982م. صحيفة الإمام، ج 16، ص 262 - 266.