الوقت بعد منتصف الليل، أيقظها والدها مع أخويها الصغيرين، ولمّا استفسرت نظراتها البريئة عن السبب، أجابها... "عادت والدتك من الحج"، فرحت للوهلة الأولى.. ثم استغربت، ولكن ظلت تساؤلاتها دون جواب.
عندما وصلت إلى أرض المطار، لاحظت الحزن والوجوم يلف وجوه جميع الحاضرين. وهناك.. رأت أجساداً ممددة على صفين.. بلا حراك.. لا حراك أبداً.. وعرفت أن ضالتها ستكون بينهم. تقدمت قليلاً.. تبحث عنها، فكان لها ما توقعت، لقد وجدت أمّها مطروحة مع بقية أفراد قافلة النور
بينما راحت تطالع بعينيها حالة والدتها. حملتها الذكريات إلى الماضي القريب، جثت على ركبتيها الصغيرتين، وانطلقت في الكلام: "قلتِ لي قبيل سفرك إلى ديار الله أن سفرك سيطول لشهر كامل، فما الذي دعاكِ للعودة بهذه السرعة التي لم يكن يحلم بها حتى أخي الصغير محمد؟!"
ولكنها لم تسمع جواباً من عزيزتها، فتابعت تقول:
"عندما طبعتِ على خدّي قبلة الحنان والحب والرحمة وأنت توصيني بالعناية بأخوي الصغيرين وبمساعدة جدتي، كنت أتخيّل أن سفرك سيكون طويلاً.. طويلاً، ولم أتصور بأني سأحضر إلى المطار لاستقبالك بهذه السرعة، ولكن هذه هي الحقيقة.. فها أنذا قد حضرت الآن ومعي والدي ومحمد أحمد وجدتي".
استغربت هذا الجفاء اللامبرر وهذا السكوت المبهم، فما تعودت من والدتها غير المحبة والاحترام والرعاية، فتساءلت بهمس:
"تُرى... ما هذا النوم الطويل؟!".
ثم حاولت من جديد:
"أماه.. جئت إلى المطار لتقبيل ذلك الوجه الصبوح الذي ودّعني قبيل أيام، والبسمة تعلوه، ودمعات الفراق الساخنة تنحدر على حمرته المتوهجة.. ولكن ما الأمر؟ ماذا حدث حتى بات وجهك متورماً داكناً فيما أنت هامدة لا تتحركين؟!".
اقتربت من أمّها أكثر وطوّقتها بيديها الصغيرتين وصاحت:
"أماه... أماه... بالله عليك.. لماذا أصبحت يداك اللتان كانتا حتى الأمس القريب تحتضننا وتمسح بنعومتها دمعات حزننا، لماذا أصبحت دامية باردة هكذا؟!
بالله عليك.. قولي ما الذي يمنعك من عناقنا؟! ألا تلاحظين أخي محمداً كيف لفّته الحيرة وهو ينظر إليه بطرفه؟! ألا تسميعن صراخ رضيعك أحمد؟! لا شك أنك تعرفين أنه لم يتعود بعد على الحليب الصناعي".
لا زال صمت أمّها الرهيب هو الصدى الوحيد لكلماتها، فالتفتت إلى أبيها علّها تسمع منه جواباً، فوجدته هو الآخر على غير طبيعته. أحست أن الدنيا تدور في عينيها.. ولم تعد تعي هذا الموقف، فأسعفها الدمع.. وأحرقها الشوق.. ورمت بنفسها على جسد أمّها، وصاحت:
"قومي... قومي من نومك.. أرجوك.. انهضي ولنذهب معاً إلى بيتنا، فليس غيرك يملؤه سعادة وهناء.
قومي.. وانظري حدتي وهي تداري بآهات القلب حزنها وألمها..
قومي.. وانظري أبي، لاحظيه كيف يسعى لخنق عبراته وحبس أحاسيسه وكتم غضبه..
ألا تقرأين في عينيه رجاءه أن تعودي لنا؟!
أرجوك أماه.. بالله عليك.. هلاّ فتحت عينيك لنا.. فقد جئنا لاستقبالك جميعاً".
سارت بكفّيها البريئتين الناعمتين على جسد القتيلة.. الشهيدة.. تتفحص، تمعن الرؤية فيه. ثم حطت بهما عند ضمادة الرأس وسألت والدتها:
"ما هذا القماش الأبيض تشدّين به رأسك؟ ما سر بقع الدم الواضحة عليه؟!"
أحسّت.. على نشيج والدها لترى دموعه الحارة تنهمر من عينيه المشتعلتين غضباً... عرفت أنّ أمها لن تجيبها، تشبّثت بها للمرة الأخيرة، وصرخت:
"عودي لنا... أرجوك عودي لنا... قوي أن قلبك كان يتحرق شوقاً لرؤيتنا... شفتاك الداميتان أعيدي لهما الحياة.. بسماتك وكلمات الحب الصادق أعيديها.. أسعدي قلوبنا بقبلة منك.. بحق الله عليك انهضي.. ولا تتركيني وحيدة، فما زلت صغيرة على القيام بمسؤولياتك في البيت. ألم تعديني أن تخيّطي لي ثياب المدرس عند رجوعك؟ ألم تعاهديني على مرافقتي إلى المدرسة في اليوم الأوّل حتى أتعرّف على معلّماتي وصديقاتي؟ عجباً... ما الذي حصل؟!
ألم تذهبي لزيارة بيت الله الحرام... الكعبة المشرفة.. بيت الناس الآمن؟! ألم تقولي أكِ مشتاقة لزيارة مرقد الزهراء... سيدة نساء العالمين.. مظلومة التاريخ؟! لا أدري هل وجدت قبرها؟!
أتوسل إليك أجيبيني.. إحكي لنا عن ذكريات رحلتكِ، عودي وأروي لنا ـ كما في السابق ـ قصصاً تصور لنا انتصار الحفاة والمحرومين والمظلومين على الطغاة والمستكبرين..."
"الطغاة والمستكبرين".. "الحفاة والمحرومين"... "فاطمة الزهراء عليها السلام مظلومة التاريخ".. نعم.. لقد أحسّت وهي تردد كلامها هذا أن قشعريرة سرت في جسدها، وأحست فجأة أن جسد أمّها بات بارداً جداً..
ومقت السماء بطرفها.. وهمست:
"إلهي.. أي ظالم هذا الذي قتل أمي البريئة؟! ألم يدر أنها من ضيوفك؟! ألم يدر أنها من زوار بيت الله الحرام؟! هل تجاهل أن عيوننا كانت على الباب تنتظر عودتها بفارغ الصبر؟!"
استفاقت الطفلة المفجوعة من رحلتها الكلامية البريئة على مسحات اليتم التي جاد بها الحاضرون: نحيب الأب المكتوي بنار المصاب. وحشرجات بكاء ذوي شهداء مكة. وكأن هذه المشاهد جعلتها تتجلّد. وتؤمن بالحق وترضى به..
لم تجد نفسها إلاّ وهي تقف منتصبة، وبكل هدوء وإصررار وصبر ـ محفوف بحزن عميق عميق ـ قالت كلماتها:
"أماه...
أعاهدك أنني على طريقك سأواصل السير.. فطريقك طريق هاجر.. والزهراء.. وزينب".
ثم أحسّت أنه ينبغي عليها أن تلقّن نفسها درساً في هذا الموقف العصيب، فتابعت:
"نعم.. بمواصلة هذا الدرب سنفوز باقتلاع جذور أعداء الإنسانية. طوبى لك هذا الوسام الرفيع..
أجل... لقد جاء فدوري ولن أتردد..
وأقسم.. بحمرة دمك المسفوح ظلماً عند جدران الكعبة...
بجسدك الطاهر الذي هشّمه الأوباش..
وبشعار "الله أكبر" الذي صرخت به وأنت ترتقين سلّم الشهادة،
أقسم لك.. أنني سأواصل درب الإسلام الحق..
حتى النصر.. ولو كان فيه سفح دمي.. مثلك..
مجلة "بقية الله" تختار من المقالات التي ترسل إليها المقالة التي تحوز على المواصفات المطلوبة وتنشرها.