ولاء إبراهيم حمّود
عندما فرض القصفُ اللئيمُ على بعضِ منابرِ القولِ الحكيمِ إغلاقَ أبوابِها، حمل بعضُ شعرائِها قصائدَهم، ومضَوا إلى قرى الحافّةِ الأماميّةِ في معركةِ أولي البأس. خِلْتُهُم تركوا أقلامَهم طيَّ أوراقِهم فوقَ المكاتب، لكنَّ الأحداثَ أظهرت أنَّ بعضَهم أخذ قلمَهُ وبعض قُصاصاتٍ ورقيّةٍ من روحِه، ومن هناك، من فوقِ السواتر، أطلقَها مع روحِه صاخبةً مُدوّيةً حارّةً دافقةً. قصائدُ كان الدمُ حِبرَها، والأشلاءُ ريشتَها، والروحُ معراجَها إلى السماواتِ العُلى.
* تحيّةُ امتنان
كان بإمكانِهم - مثلنا جميعاً - أن ينتظروا وقفَ إطلاقِ النار، وحضورَ أولى أمسياتِ الحضورِ بقصائدَ رَنّانةٍ، فيها كلُّ قدراتِهم البلاغيّةِ والإبلاغيّة، لكنَّهم آثروا أن لا تبقى قصائدُهم تماثيلَ جامدةً، فأرادوا أن يَرووها بالقاني من شرايينِهم، فتدبَّ فيها الحياة.
وهكذا صار، عاد بعضُهم أشلاءً، وآخرون لم يعودوا، وبعضُهم ما يزال مفقودَ الأثرِ إلّا من قُصاصةِ ورقٍ كتبَ عليها لواعِجَهُ وتركَها للرياحِ والمطر، يمسح بعضُ كلماتِها ويُبقي بعضَها الآخر ظلالاً وآثاراً.
هذا التحقيقُ تحيّةُ عِرفانٍ وامتنانٍ للشعراءِ السادةِ المقدَّسةِ أرواحُهم: السيّد محمّد يحيى حجازي، الذي أرسلَ من فوقِ السواترِ قصيدتَهُ الأخيرةَ لأبيه، والشاعرُ حسين وهبي، الذي كتبَ هناك أيضاً قصيدتَهُ الأخيرة، كما أخبرني الشاعرُ المقاومُ أنور علي نجم، والشعراء سلطان لحاف وعلي عاشور ورفيق بزيع وعلي عصمان، والشعراءُ الأربعة من جمعيّة «إبداع»، التي ما تزال تواكب الفعلَ المقاومَ بما هو أغلى من الشعرِ وأحلى، بالثباتِ والإصرارِ وسط ما يهبُّ علينا من أعاصير.
جلتُ بأسئلةٍ ثلاثةٍ على أربعةٍ من زملائِهم في ميدانِ الشعر، فكانت هذه إجاباتُهم:
* ما دوافعُ زملائِكم للقتالِ من دونَ منابرِهم؟
رأت الشاعرةُ زينبُ فيّاض أنّ صدقَ الشاعرِ إلهامٌ يقودُهُ إلى حيثُ تستقرُّ روحُه. ولأنَّهُ ينسجُ قصيدتَهُ بمدادِ عشقهِ، مختزنًا فيها وفاءَهُ لسيّدِ الشهداءِ، لن يُقصّرَ قلبُهُ العاشقُ عن نصرةِ مولاه، وسيُترجمُ ما خطّتْهُ أناملُهُ وَلاءً له إذا ما سنحت له الحياةُ فرصةَ بذلٍ وعطاء.
ورأت الشاعرةُ إسراءُ لافي عودة، وهي زوجةُ شهيدٍ بطلٍ في هذه المعركة، أنَّ ذهابَ الشاعرِ إلى الجبهة «دليلٌ عمليٌّ صادقٌ مُعتّقٌ بما نضحت به قريحتُه، خطَّهُ بيراعه على أوراقِ الحياةِ مضرّجةً بدماءٍ طاهرةٍ، أزهرت في بلادِنا صدقاً وإيماناً راسخاً بالقضايا التي كان يُؤمن بها، فشكّلَها قصائدَ شممْنا فيها رائحةَ المسكِ والعنبرِ وشذى إخلاصِه في قصائدِه”.
ورأت الشاعرةُ سارةُ اليتامى أنّ شهادةَ الشاعرِ أثرٌ يتركُه بعد مسيرةٍ من النضالِ المُخلِصِ بالحرفِ والكلمة، وأنّ هؤلاءِ الشعراءَ المجاهدينَ في الميدانِ الأدبيّ ثمّ العسكريّ عرفوا حقيقةَ مسارِ الشاعرِ بعيداً عن المصالحِ الدنيويّة، فوقفوا في ميدانِ الجهادِ الأعظمِ حيث الجودُ بالنفسِ أغلى المراتب، وحيث الحرفُ يُجاري الرصاص.
ورأى الشاعرُ أحمدُ غالب سرحان أنّ الشاعرَ المثقّفَ المُشتبكَ مع العدوّ، يستطيعُ أن يُحدّد مسارَهُ في كلِّ مرحلةٍ؛ لأنَّهُ جاهدَ بقلمِه قبل الحرب، وتركَ عند اندلاعِها دفاترَه، وحملَ بُندقيّتَهُ لأنَّ قضيّتَهُ ساميةٌ وتستحقّ التضحية، فهدفُهُ إحقاقُ الحقِّ ولو بذلَ دونَهُ مُهجتَهُ.
* ما مصيرُ قصائدِهم بعد استشهادِهم؟
لاحظت الشاعرةُ زينب فيّاض أنَّ في كلِّ قصيدةٍ حسينيّةٍ شعاعًا ينبعثُ من قلبِ شاعرِها الذي وهبَهُ فداءً للقضيّةِ الحسينيّة، وإنّ ذاك الشعاعَ سيغدو جذوةً من قبسِ روحِه التي أضاءت في سماءِ العاشقين ليهتدي بها كلُّ من همسَ بكلماتِ قصيدتِه، وفي ذلك يكمنُ سرُّ بقائِها.
ورأت زوجةُ شهيدِ ملحمةِ أولي البأس، الشاعرةُ إسراء لافي عودة، أنَّ القصيدةَ تتألّقُ عندما ترتقي روحُ كاتبِها وتزدانُ بالعبقِ الذي نراه في صدى كلماتِه فتَبقى حيّةً معنا، ونحيا على وقعِ أوتارِها التي عزفَ عليها عندليبُ البذلِ والعطاء، سواءٌ بكلماتِها التي أصبحت صكَّ عهدٍ منه، أو بجهادِه الذي وقّعَه بختمِ الدمِ ليرتقي إلى الملكوت.
أمّا الشاعرةُ سارة اليتامى فتتساءل: «كيف لقصيدةٍ خطّها صاحبُها بالصمودِ والكفاحِ والعشقِ الإلهيِّ اللّامتناهي أن تخمد، وهي من آثارِه التي أرادَها لله، وما كان لله ينمو ويدوم بقاؤُه؟».
فيما يعتبرُ الشاعرُ أحمدُ سرحان أنّ القصيدةَ المُقاوِمة تبقى متّقدةً طولَ الدهر لأنَّها تحملُ في طيّاتِها قيمَ الإنسانيّةِ جمعاء، وهي لا تنطفئ لأنَّ المجتمعَ لا يزال بحاجةٍ إليها حتّى يستمدّ منها القوّة.
* ماذا جال في سرّكم بعد ارتقاءِ زملائِكم الشعراء؟
تساءلت الشاعرةُ زينب فيّاض عندما سمعت باستشهادِ الشاعرِ وسيمِ شريف على جبهة 2006م، الغارقِ في بحرِ عشقِه الرّبّانيّ: «كيف وصل؟»، فوجدت بعد بحثِها الدؤوب في رسائلِه ما يشفي قلبَها الحائرَ وأعلنت: «إنَّه العشقُ يا سادة، فمن ذاقَ حلاوتَه، سَيَسْرُجْ خيلَ رحيلِه نحو الملكوتِ الأعلى ليصلَ إلى معدنِ العظمة، لأنّ روحَهُ باتت تأنسُ بأهلِ السماءِ لا أهلِ الأرضِ حيثُ مستقرُّها الأبديّ إلى جوارِ الله عزّ وجلّ».
وبعد سماعِها نبأ استشهادِ بعضِ الزملاءِ من الشعراءِ، تساءلت الشاعرةُ إسراء لافي عودة: «كيف لهؤلاءِ الشعراءِ، أسيادِ المنابرِ في الشعرِ والكلمة، أن يستقلّوا براقَ الله يومَ الفتح، ويَهجروا متاريسَهم الأدبيّةَ ليستقرّوا في متاريسَ عسكريّة؟». لتختم بحقيقةٍ: «إنَّه دربٌ واحدٌ للعروجِ بالروحِ نحو الوصال، فبالكلمةِ الحقِّ تعرُجُ أرواحُنا، وما هذا إلّا ديدنُ العشّاق».
تُعلن سارة اليتامى، الشاعرةُ التي يصلُها بالمجاهدين صِلةُ قربى ونسبٍ عبر عمّها العاشقِ أبي ميثم، الذي كتب بأحلى من الشعرِ رسالةَ المجاهدين إلى سماحة شهيدِنا الأقدس عام 2006م، أنّها تأثّرت كثيراً لدى سماعِها باستشهادِ ثُلّةٍ من الشعراءِ المجاهدين، وكأنّها تقرأُ خبرَ شهادتِها هي، فشعرت بمسؤوليّةٍ كبيرةٍ لإكمالِ رسالتِهم، بتقديمِ ما كانوا يرغبون بتقديمِه في حياتِهم للحياة، كنوعٍ من حفظِ الجميل، وأنّ استشهادَهم أيقظَ فيها روحَ الكتابةِ بعد أن خمدت، وتساءلت عن واجبِنا تجاهَهم، وكيف نحملُ أماناتِهم لنستمرّ، وأضافت: «لن يَجفَّ الحبرُ كما لم تَجفَّ هذه الدماءُ الزاكية».
ولعمري إنّ موقفَ سارةَ العزيزةِ هو ختامٌ رائعٌ يُمهّد لما وعدَهم به رجلُ القوافي، الشاعرُ أحمد سرحان، الذي تساءل بمرارةٍ وحسرةٍ كيفَ سبقَهُ رفاقُهُ الشعراءُ إلى الشهادة، وعاتبَهم بِمحبّةِ العاشقِ المُشتاقِ لأنّهم ذهبوا إليها دونَهُ. ولكن لا المرارةُ أو الحسرةُ أو عتبُ المحبّ لحبيبِه منعَ الشاعرَ العزيزَ من أن يَعِدَ رفاقَهُ الشعراءَ الشهداءَ بإكمالِ دربِهم الذي خطّوه بدمائِهم الطاهرة، وبالمبادئِ التي رسموها بحروفِهم المُقاوِمة.
* آخرُ القصائد مع البندقيّة
خلف السواتر، مع البندقيّة، قصيدةٌ كتبَها الشهيدُ محمّد حجازي وكانت آخر القصائد:
اذرف دموعَك عند ظلِّ المدفعِ
وأهِلَّ شوقَك للجهاتِ الأربعِ
واهمس بآذانِ الزنادِ بحرقةٍ
أَسمعْ عدوَّك قبلَ ما لم يسمعِ
غضباً على العادينَ كن بل كن لظىً
أحرقْ بنارِ القلبِ سطوةَ مدّعِ
نبكيه بل نبكي الحسينَ مجدّداً
فالطُّفُّ قصّةُ سيّدٍ لم يخضعِ
هذا الحسينُ ونحنُ صحبٌ في الوغى
ورؤوسُنا خُلِقَت لرمحٍ فارفعِ
هيهات أوّلُ درسِنا، ونداؤُنا
ولقاؤُنا ما بعدَ يومِ المصرعِ
أبناءُ نصرِ اللهَ لا نخشى الرّدى
والنصرُ يُصنعُ من جراحٍ فاسمعِ
وبدربِنا دربُ الشهادةِ عشقُنا
تبكي الحسينَ جراحُنا كالمِدْمَعِ
لبّيك نصرَ اللهَ بعضُ وفائِنا
نصرٌ عظيمٌ مثلُ شمسٍ أسطعِ