نور روح الله | بالدموع الحسينيّة قضينا على الاستكبار* بمَ ينتصر الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف؟ (2)* فقه الولي | من أحكام النزوح تحقيق | قصائدُ خلف السواتر مناسبات العدد ياطر: إرثٌ في التاريخ والمقاومة (2) محميّة وادي الحجير: كنزُ الجنوب الصامد (1) قصة | وزن الفيل والقصب شعر | يا ضاحية الافتتاحية | لحظة صدقٍ مع اللّه

مع الإمام الخامنئي | الحوزويّون روّاد قضايا الأمّة (1)*

 


الحوزة مؤسّسة منفتحة على خارجها، فمخرجاتها على جميع المستويات هي في خدمة فكر المجتمع والبشر وثقافتِهما. هي مكلّفة بـ «البلاغ المبين»، ونطاق هذا البلاغ واسع جدّاً، يمتدّ من المعارف التوحيديّة السامية إلى الواجبات الشرعيّة الفرديّة، ومن تبيين النظام الإسلاميّ وهيكليّته ومسؤوليّاته إلى نمط العيش والبيئة والحفاظ على الطبيعة والحيوان، وكثيرٍ من المجالات والجوانب الأخرى للحياة البشريّة.

وقد اضطلعت الحوزات العلميّة منذ القِدم بهذه المسؤوليّة الثقيلة، وانخرط العديد من المتخرّجين فيها على مختلف مستوياتهم العلميّة في أساليب متنوّعة لتبليغ الدين وأمضَوا عمراً فيه. وبعد الثورة، ظهرت في الحوزة مؤسّسات لتنظيم محتوى هذه الحركات التبليغيّة وتقويمه في بعض الأحيان.

* العناصر الضروريّة للتبليغ
ثمّة عنصران أساسيّان ينبغي التركيز عليهما في الحوزة، هما: التعليم والتهذيب.

1. التعليم: إنّ إيصال رسالة عصريّة تملأ الفراغ، وتُحقّق هدف الدين يستلزم التعليم والتعلّم لا محالة. يجب أن يتصدّى جهازٌ ما لهذه المهمّة ليعلّم الطالب قوّة الإقناع، والإلمام بأسلوب الحوار، ومعرفة كيفيّة التعاطي مع الرأي العامّ، والفضاء الإعلاميّ والافتراضيّ، والانضباط في مواجهة المخالف، ويُعِدَّه عبر التمرين والممارسة لدخول هذا الميدان في فترة محدودة. من جهة، ينبغي جمع أحدث المغالطات والآفات الفكريّة والأخلاقيّة وأكثرِها شيوعاً، وتوفير أفضل ردٍّ عليها وأبلغه وأقواه في إطار لغة متناسبة مع العصر، وباستخدام الأدوات التقنيّة الحديثة. ومن جهةٍ أخرى، يجب تدوين أهمّ المعارف الدينيّة التي تتناسب والوضع الثقافيّ والفكريّ المعاصر في هيئة حُزَم مناسبة لفكر جيل الشباب والناشئة والأسرة ولثقافتهم. تُعدّ هذه التركيبة من الشكل والمضمون أهمّ موضوعات التعليم في هذا الجانب.

ويُعَدُّ الموقف الإيجابيّ، بل وحتّى الهجوميّ، أهمّ من الموقف الدفاعيّ في العمل التبليغيّ، وإنّ ما قيل بشأن دفع الشبهات والمغالطات ومعالجتها، ينبغي أن لا يجرّ الجهاز التبليغيّ إلى الغفلة عن مهاجمة مسلّمات الثقافة المنحرفة السائدة في العالم، وربّما في بلدنا. إنّ ثقافة الغرب المفروضة والتلقينيّة تتّجه بسرعة متزايدة نحو الانحراف والانحطاط؛ فالحوزة الضليعة بالفلسفة والكلام لا تكتفي بالدفاع في وجه إثارة الشبهات، بل تخلق تحدّيات فكريّة تُجاه هذا الانحراف والضلال، وتُجبر المدّعين المُضلّلين على الردّ.

يندرج إعداد هذا الجهاز التعليميّ ضمن أولويّات الحوزة؛ وهذه هي تربية «المجاهد الثقافيّ»، التي يجب إعدادُها بجدّيّة قصوى وبوتيرةٍ سريعة.

2. التهذيب: لا يعني التهذيبُ تربيةَ المنعزلين؛ فجزءٌ كبير من نطاق نشاط المجاهد الثقافيّ هو الدعوة إلى تهذيب النفس والأخلاق الإسلاميّة، وهذا العمل يكون عديم الأثر والبركة إذا لم يكن الداعي نفسه متحلّياً بما يدعو إليه. إنّ الحوزة بحاجةٍ إلى تحرّكٍ أكبر من الماضي في تأكيد التوصيات الأخلاقيّة.

* الإخلاص وتحمّل الصعاب
أنتم أيّها الطلّاب والفضلاء الشباب قادرون حتماً، بعون قلوبكم الطاهرة والنقيّة وألسنتكم الصادقة، على إنجاز مهمّة التهذيب الأخلاقيّ لجيل الشباب اليوم، شريطة أن تبدأوا بأنفسكم أوّلاً؛ فالإخلاص في العمل، وقطع الطريق على وساوس المال والجاه والمنصب، هو المفتاح لدخول الأجواء العذبة للروحانيّة والحقيقة. وهكذا يغدو العمل الشاقّ للجهاد الثقافيّ مهمّة عذبة وحركة مؤثّرة. إنّ الصعاب التي يواجهها طالب العلم في مثل هذه الحال ستتحوّل إلى وسيلة لإرادةٍ صلبة وعزمٍ راسخ بدلاً من أن تكون عائقاً أمام السلوك الجهاديّ للتبليغ.

* ميثاق الحوزويّين
لا شكّ في أنّه لا يمكن العثور على أيّ حركة إصلاحيّة أو ثوريّة في إيران أو العراق في المئة والخمسين سنة الماضية، لم يقدها علماء الدين، أو لم يحضروا في خطوطها الأماميّة. وفي ذلك دلالة مهمّة على طبيعة الحوزات العلميّة ودورها في التصدّي لتهديدات العدوّ في مختلف المجالات. انطلاقاً من إدراك هذه الحقائق، وفي ندائه الموجَّه للحوزات العلميّة المُفعم بالمضامين والمدوّي، وصف الإمام الخمينيّ قدس سره الحوزويّين برُوّاد الشهادة في جميع الثورات الشعبيّة والإسلاميّة؛ وفي المقابل، عدّ طريق الشهداء وعملهم مصداقاً لبلوغ حقيقة التفقّه. وبعبارة أخرى: قدّم العلماء بوصفهم طلائع ميدان الجهاد والدفاع عن الوطن ونصرة المظلومين. وفي ما يخصّ مستقبل الحوزة، علّق أكثر آماله على الطلّاب والفضلاء الذين حثّتهم هواجس النهضة والكفاح والثورة على التحرّك، وعبّر عن عتبه على الذين يكتفون بكتبهم ودراستهم، من دون الاهتمام بهذه القضايا المصيريّة. جرت الإشارة مراراً في هذا النداء إلى المتحجّرين، والتحذير من تغلغل العدوّ عبر استغلاله لغفلتهم، مُنبِّهاً إلى خطر الأساليب المتطوّرة للتكسّب بالدين. وحسب الرأي الصائب للإمام الجليل قدس سره، يتربّص صيّادو الاستعمار في أرجاء العالم ويكمُنون للحوزويّين الشجعان المُلمّين بالسياسة، ويخطّطون لمحاربة مجدهم وعظمتهم ونفوذهم الشعبيّ.

* لا لفصل الدين عن السياسة
لقد تخوّف الإمام الجليل قدس سره من أن يُصيب تيّار التحجّر المتظاهر بالتقدّس الحوزةَ العلميّة بوساوس فصل الدين عن السياسة والنشاطات الاجتماعيّة.

إنّ الترويج لهذا الوهم الباطل يُمثّل أعظم هديّة تُقدَّم لقوى الاستعمار والاستكبار، والتي لطالما تضرّرت من حضور علماء الدين وخوضهم معركة الكفاح ضدّها، وتكبّدت الهزائم في حالات متعدّدة.

إنّ قداسة الدين أكثر ما تتجلّى في ميادين الجهاد الفكريّ والسياسيّ والعسكريّ، وتترسّخ بتضحية حاملي معارف الدين وجهادِهم وبذل دمائهم الطاهرة. ينبغي مشاهدة قدسيّة الدين في سيرة النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، إذ كان أوّل عمل أقدم عليه عند دخوله يثرب هو تأسيس الحكومة، وتنظيم القوّة العسكريّة، وتوحيد ساحة السياسة والعبادة في المسجد.

ينبغي للحوزة العلميّة، وحفاظاً على اعتبارِها المعنويّ ووفاءً لفلسفة وجودها، أن لا تنفصل أبداً عن الناس والمجتمع وقضاياه الأساسيّة، وأن تعدّ الجهاد بكلّ أنواعه واجباً قطعيّاً عليها عند الحاجة.

تتمّة المقال في العدد المقبل بإذن الله.


* من نداء سماحته دام ظله إلى المؤتمر الدوليّ الذي عُقد بمناسبة مرور مئة عام على تأسيس الحوزة العلميّة في قم، بتاريخ 07/05/2025م.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع