مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

حوار الحضارات قبل فوات الأوان!

موسى حسين صفوان‏

 



رغم أن المستجدات توحي بتوقعات أكثر تشاؤماً، إلا أن فرصة تبنّي الأطراف المتنافسة على مراكز النفوذ في العالم اليوم، الخيارات الديبلوماسية، ربما يفتح الباب من جديد إلى جولة من الحوار، تتجاوز الموضوعات الاستراتيجية التي تقلق العالم، إلى ما هو أكثر تعميماً والذي يمكن أن نطلق عليه حوار الحضارات. ولا بد لنا أن نولي الكثير من العناية للفارق الجوهري بين الحوار السياسي، الذي يعالج في الغالب موضوعات آنية تتعلق بالمتغيرات السياسية، وبين حوار الحضارات الذي ينبغي أن يتعمق في بحث الجذور السوسيولوجية لتكوين الحضارات الإنسانية.

* البداية من كتاب اللَّه:
لقد أرشدنا اللَّه سبحانه وتعالى في كتابه الكريم إلى طبيعة التفاوت البشري الناشئ عن تنوّع العوامل التاريخية والجغرافية، وما يتبع ذلك من تنوّع المدارس الثقافية والطبائع الاجتماعية. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (الحجرات: 13). هذه الآية الكريمة تؤكد التنوع بين الشعوب والقبائل المختلفة من جهة، وتدعو إلى التعارف، وهو الحوار، لتبادل الأعراف والمفاهيم من جهة أخرى... وقد جعل سبحانه من التقوى قاعدة وإطاراً للحوار، إذ أن المتحاورين قد يكون لكل منهما قاعدة وإطار مختلفان فلا يصلان إلى النتيجة المرجوة، فالقاعدة والإطار يمثلان الثوابت المشتركة التي ينبغي أن يتحاكم المتحاورون على أساسها... يقول أمير المؤمنين عليه السلام وهو يخاطب أصحابه: "... وليس أمري وأمركم واحداً إني أريدكم للَّه وأنتم تريدونني لأنفسكم..."(1) وفيه إشارة لاختلاف قاعدة وإطار الحوار، والتقوى في هذه الآية الكريمة تعني كل ما يتطلّبه الحوار من أسس معرفية تخضعه لقواعد الإسلام، وتحول بينه وبين تجاوز الحكم الشرعي، وهذا بطبيعة الحال يحتاج إلى العلم والخبرة ولهذا كان تعقيبه سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ....

* كيف تتكوّن الحضارات:
حوالى القرن الثامن الهجري كتب ابن خلدون (1332- 1406) مقدمته التي تناول فيها ما أطلق عليه علم العمران(2). وبعد مضي ما يقرب من أربعة قرون، جاء عصر النهضة الأوروبية، وظهر علماء اجتماع وفلاسفة من أمثال: جان جاك روسو، وأوغست كونت، وهربرت سبنسر، وغيرهم فتوسعوا بدراسة أحوال الشعوب، وصنّفوا علوم الاجتماع، وقد تطوّرت هذه العلوم في القرن الماضي وتشعّبت حتى باتت تشكِّل الإطار المفهومي للحراك السياسي والحضاري في هذا العصر، وبطبيعة الحال لا يتسع المجال في هذا المقال للتوسع فيما تطرحه مثل هذه العلوم من نظريات، لذا سوف أقتصر على بعض العناوين التي تكفي لإبراز أهمية التعرف إلى العناصر المكونة لمختلف الحضارات البشرية.

يطلق العلماء على العلم المهتم بمجموعة التخصصات التي تدرس النواحي الإجتماعية والثقافية لحياة الإنسان اسم: الانتروبولوجيا الثقافية Cultural Anthropology، ويقسم هذا العلم إلى قسمين أساسيين: الإثنوغرافيا Ethnography، والذي يهتم بالدراسات الوصفية لأسلوب الحياة، ومجموعة التقاليد والعادات والقيم والأدوات والفنون، ويشمل ذلك المفاهيم وطرائق التفكير وغيرها. الإثنولوجيا Ethnology، وهي تهتم بالدراسة التحليلية والمقارنة للمادة الإثنوغرافية، بهدف الوصول إلى تصورات نظرية أو قواعد عامة تحكم مختلف النظم الاجتماعية البشرية(3). وقد استفاد الاستعمار فيما مضى كثيراً من الدراسات الانتربولوجية لتوسيع نطاق نفوذه من خلال دراسة تفاصيل حياة الشعوب الواقعة تحت سيطرته، وكان علماء الأنتروبولوجيا إلى وقت قريب بمثابة مستشارين عند المستعمرين. ورغم أن الأنتربولوجيا المعاصرة تتبنّى المواقف الإنسانية وتبدي اهتماماً كبيراً بمشاكل الإنسان المعاصر، وخاصة مشاكل الحرب والسلام وسباق التسلح ومواجهة التفرقة العنصرية والتأكيد على حقوق الإنسان، إلا أن العديد من هؤلاء يعتبر من المنظرين الأساسيين لمشاريع الهيمنة الاستكبارية...

* مشكلات الحضارات:
لم يدخل العالم في عصر تطوّر وسائل الاتصال إلا في النصف الثاني من القرن الماضي على أن عصر العولمة الذي شهد طفرة هائلة على هذا الصعيد لا يزيد على ثلاثة عقود، وقبل هذا التاريخ كانت المسافات الجغرافية وبالتالي الثقافية شاسعة للغاية بين الشعوب وقد أدى ذلك إلى خلق أكثر ما نشهده اليوم من مشكلات في العالم... ومن أجل توضيح الصورة نذكر بعض النقاط في هذا المجال:

1- عدم انتقال التطورات الصناعية التي شهدتها القارة الأوروبية إلى بقية أنحاء العالم إلا بعد قرون، ولم تنتقل إلا بشكل جزئي يسمح للدول الصناعية بتسويق إنتاجها أكثر مما يسمح للشعوب الأخرى بتطوير قدراتها الصناعية، وهذا يمكن الإشارة إليه على أنه لعب دوراً بارزاً في توسع الاستعمار الغربي في بلداننا.

2- أدّى التفاوت الصناعي بين الشعوب الغربية والشرقية إلى تفاوت في الثروات، مما أثر على أوجه الحضارة كافة، وقد ساعدت المصالح المستمرة للدول المستعمرة على تكريس هذا الواقع، وخلق وقائع من شأنها زيادة التخلف مثل النزاعات الإقليمية والقومية وغيرها...

3 - لقد أدّى التفاوت الثقافي إلى بروز ظاهرة التعصب العرقي Racism وهي ظاهرة موغلة في القدم، بدأت منذ بداية التاريخ... ورغم أن الأنبياء وثقافة الرسالات السماوية ارتفعت إلى مستوى القيم الإنسانية، إلا أنه وللأسف الشديد برزت تلك الظاهرة في القرون الماضية وحتى الآن ما تزال تشكّل فلسفة سياسية واجتماعية تلقي بثقلها على المشروع الحضاري برمته.

4 - تداعيات رواسب العصور الماضية واليوم رغم دخول العالم عصر القرية الكونية الكبيرة، إلا أن رواسب ومخلفات الثقافة العنصرية، انسحبت ليس على التعصب ضد الشعوب، بل ضد التاريخ والجغرافيا، وكل ما يمت لتلك الشعوب بصلة مما خلق حالات من الأحكام المسبقة التي يصعب معها معالجة القضايا عن طريق الحوار، ولعل هذا ما يجب أن نفهمه ونحن نجد الشعوب الغربية قاطبة تمارس فعل الاعتداء على الرموز الدينية والفكرية للشعوب الشرقية عامة... ولا يمكن فهم ذلك إلا بإرجاعه للخلفيات الثقافية التي راكمت مفاهيم تعصبية على مدى قرون طويلة، وساهمت تصرفات بعض المسلمين غير الهادفة وغير المنضبطة في تعميقها وتأكيدها... في ظل غياب أو ضعف محاولات التواصل الهادفة التي يمكن أن تفعل شيئاً على هذا الصعيد.

* قبل فوات الأوان‏
إزاء هذا الواقع... هل يمكن أن ينجح مشروع حوار الحضارات؟ من الطبيعي أن الحوار في ظل العديد من الأحكام المسبقة سوف يصبح بالغ الصعوبة، إلا أنه ليس مستحيلاً على أي حال... فإذا ما فهمنا أصل المشكلة الحضارية، واستطعنا أن نشخّص هوية التحديات، نستطيع أن نقترح الحلول الناجعة في هذا المجال... وحتى لا يكون كلامنا إنشائياً نذكر النقاط التالية على سبيل المثال:

1- تعميق التواصل بالمؤسسات الثقافية والاجتماعية العالمية والمشاركة في النشاطات الفكرية والاجتماعية مثل النشاطات المناهضة لسياسات العولمة، والداعية للحفاظ على البيئة، وحقوق الإنسان وما إلى ذلك.

2 - التوأمة مع العديد من المؤسسات الفكرية لنشر الفكر الإسلامي الأصيل، فلو عرف العالم مبادئ الإسلام التي تؤكد على احترام الإنسان ونبذ التعصب العنصري، والمساواة وما إلى ذلك، لكان ترك على الأقل الكثير من الأحكام المسبقة.

3 - تعريف العالم بالتاريخ الإسلامي الحقيقي، وتطهير التاريخ الإسلامي مما عبثت به أقلام المستشرقين.

4- إظهار معاناة الشعوب الإسلامية مع الاستعمار وتواطؤ العالم المتمدّن على شعوب المنطقة وخاصة الشعب الفلسطيني... عن طريق المؤتمرات والمنشورات وما شابه. ومن الطبيعي أنه يمكن وضع ما لا يُحصى من الخطوات في هذا المجال... ولكن السؤال المُلح: كم بقي لدينا من وقت قبل أن تصبح خيارات الحوار شيئاً من الماضي؟!!


 (1) نهج البلاغة، الخطبة 136.
(2) المنجد في الإعلام، راجع أيضاً دائرة المعارف الإسلامية.
(3) عالم المعرفة، د. حسين فهيم، العدد 98، قصة الانتروبولوجيا، ص‏14- 15، 276 -281 (بتصرف).

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع