مقابلة مع الدكتور محسن صالح
حوار: منهال الأمين
وأنت تحمل هذه الآلة الصغيرة"الروموت كونترول" تصبح أمام خيارات واسعة، تعد ربما بالآلاف، مفتوحة على كل الاحتمالات، وعلى كل الآفاق، العلمية، السياسية، الثقافية، الاقتصادية، الفنية. ولكن هل صحيح أنك أنت من تتحكم بهذه الآلة، أم أن العكس صحيح، فتجد نفسك منقاداً إلى خيارات سيئة، فاسدة مفسدة، تدرك بعد حين أنك لم تكن صاحب القرار في اعتمادها. تنبه إلى أن حبائل الشيطان تتطلب منك كما يقال"كبسة زر". فهل ترضى أن تكون بكبسة زر جندياً للشيطان أو حتى هدفاً سهلاً له ولجنوده المنتشرين في الدنيا وبأشكال مختلفة ومتعددة: فضائيات، مواقع انترنت، صحف، مجلات، منشورات، فنانون ومطربون، عروض أزياء، تلفزيون الواقع..؟ فلنطرح السؤال دائماً: ما هو دور وسائل الإعلام المختلفة في نشر الفساد الاجتماعي؟ والسؤال الأهم: ما هي وسائل المواجهة؟ انطلاقاً من هنا، طرحنا القضية على د. محسن صالح، الأستاذ في معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية، وكان معه الحوار التالي:
* ما هي أبرز المفاهيم التي يمكن أن تتلقفها شعوبنا العربية والإسلامية عبر وسائل الإعلام وتساهم في فساد مجتمعاتنا؟
بالدرجة الأولى هناك السينما الأمريكية وشبكة الانترنت التي لا تنفك عن بث كل ما هو مفسد ومضل للناس. وكذلك نشر نوع من أنواع الثقافة السياسية والاجتماعية. وهذه بدورها تؤدي بالأفراد إلى الانسلاخ شيئاً فشيئاً عن مجتمعاتهم، والانخراط على الأقل من الناحية العقلية في بداية الأمر في مجتمع آخر. حيث أن العادات والتقاليد والاحترام المتبادل بين الناس والعلاقات الأسرية والاجتماعية ومراعاة ما هو مقدس في التراث والدين والموروث الاجتماعي، كل ذلك يصبح على المحك. وبالتالي فإن الضمير أو العقل الجمعي، الذي يجمع الجماعة ويجمع ثقافتها المشتركة، يتضرر بشكل كبير بهذه الثقافة التي تقسِّم وتفصل الناس بعضها عن بعض، والرجل عن المرأة، والولد عن أهله، والعائلة عن الدين والقيم. وهذا ما يؤدي إلى خلل في الموازين الاجتماعية.
* ولكن ألا نستطيع أن نقول أن هذه المفاهيم غير مقبولة تماماً في الغرب وخاصة لدى المجتمعات المصنفة محافظة، وبالتالي فإن هذا الإعلام يقوم بدور مشبوه حتى بالنسبة للغربيين؟
هذا صحيح، ففي مرحلة الستينيات وأوائل السبعينيات كانت الأفلام والبرامج التي تظهر كثيراً من مفاتن المرأة غير موجودة في قاموس الإعلام والفن والسينما في الولايات المتحدة وأوروبا وإن وجدت فبشكل سري وغير معلن، وذلك مراعاة ربما للأوساط المحافظة التي كانت تعترض على مثل تلك المظاهر، وكانت تلك المجتمعات إلى حدٍ ما محافظة. وحتى اليوم لا زال هناك مجموعات محافظة ولكنها مقموعة وغير مسموعة الصوت، وهي مضطرة للخضوع لسلطة رأس المال الذي يسعى لجعل الإنسان سلعة، كما السلع التي تُباع في الأسواق تماماً. ومن ثم خلق ظواهر اجتماعية تؤدي إلى هذا التحلل والفساد الاجتماعي ويتجلى ذلك في العلاقات الجنسية غير الشرعية أو مظاهر اللباس غير المحتشم أو بالأحرى شبه العاري. وهناك ظاهرة أخطر من ذلك كله وهي أشبه ما تكون بتجارة حقيقية بالإنسان، فعندما يضطر المرء إلى العمل ساعات طويلة خلال النهار من أجل تحصيل قوت يومه فقط، ويصبح مرهوناً ومقيداً للجهة التي تشغله، وإلا فمصيره سيكون الجوع، فهو عندها سلعة تتحكم بها أهواء أصحاب رؤوس الأموال والدول المستعمرة والمستكبرة في هذا العالم. فالأخلاق السيئة هي نتاج طبيعي لبيع وارتهان الإنسان نفسه للآخر، فهو قد يلجأ إلى الكذب والتملق للوصول إلى منصب ما، أو للحصول على مكسب معين، فيتحول إلى إنسان وصولي في سبيل المكاسب المادية، وهذا طبعاً على حساب القيم والأخلاق التي تتحلى بها مجتمعاتنا. وتهدف القوى الاستعمارية إلى تطويعها وإفسادها لتكون في خدمتها بأي طريقة كانت. وهذا ما يؤدي إلى خلل اجتماعي عندنا نحن المستعمَرين. وبالنسبة إليهم أي المستعمِرين فإن الخلل يضرب مجتمعاتهم أيضاً، نتيجة لأن الرأسمالي يريد أن يفتك الانحلال والفساد الأخلاقي في المجتمعات كافة على اعتبار أنها أسواق تسهل عليه الهيمنة والسيطرة وترويج ما يريده من منتجات فاسدة تعود عليه بالربح المادي الكبير.
* ولكن ما هي طبيعة وأثر هذه المنتجات الفاسدة؟
هي بالضبط أخلاقيات فاسدة تورث حالة من التشرذم والتي من الطبيعي أن تسهل للسلع الأجنبية أن تدخل إلى بيوتنا، يمكن أن تكون سلعاً ثقافية، نعب منها حتى الشبع، مثل أي سلعة غذائية أخرى، كالمصطلحات والألفاظ المشينة التي ترد على كل شفة ولسان، وكذلك المظاهر المشينة التي يعمد شبابنا وفتياتنا إلى تقليدها واقتباسها فضلاً عن العلاقات الجنسية غير الشرعية، وهي باختصار التفلت من عقال العقل والأخلاق. وهذا ما يؤدي إلى الشرذمة ودخول الإنسان تحت هيمنة الآخر ومفاهيمه، عندها يصبح بدون قيمة بحد ذاته، وحتى أمم بأكملها تفقد وجودها وقيمتها. وهذا يؤدي أيضاً إلى سلخ الإنسان عن إنسانيته الحقيقية. وأعتقد أن هذه المظاهر واضحة وبيِّنة من خلال الفضائيات واسعة الانتشار وشبكة الانترنت سهلة الاستعمال.
* ولكن هذه الأخيرة لا يمكن أن ننكر الدور الايجابي الذي تلعبه في تثقيف الإنسان وفتح آفاقه على أبواب المعرفة والعلم؟
الجوانب الايجابية كثيرة، وموارد الاستعمال المفيدة لهذه الوسائل تكاد لا تُحصى. ولكن الإنسان بطبعه ميال إلى اللهو، وهناك مجموعات قليلة ميالة إلى الجد والإبداع وبالتالي إلى التصدي للهجمة التي تشن علينا من خلال هذه الوسائل وتؤدي بنا إلى الانحراف. هؤلاء قلة لا يستطيعون القيام بالدور المطلوب أمام حجم وضخامة الهجمة، وبالتالي فإن في مجتمعاتنا الإسلامية وكذلك في أميركا الجنوبية وأفريقيا هناك معاناة كبيرة للشعوب في مواجهة الغزو الثقافي، وفي الحفاظ والتمسك بالقيم والعادات والتقاليد (الموروث الاجتماعي).
* إذاً ما هو الحل أمام هذه المعضلة؟ هل هو المنع والحرمان من استعمال هذه الوسائل كالانترنت والفضائيات وغيرها؟
نحن هنا أمام إجراءَين مهمين ينبغي القيام بهما:
أولاً: مراقبة هذه البرامج اللاأخلاقية التي تبث عبر الانترنت والفضائيات وغيرهما.
ثانياً: وهذا الأهم إيجاد ثقافة ممانعة لثقافة الغزو الآتية من أجل إفراغ هذا المجتمع من مبادئه وقضاياه وقيمه.
وأعتقد أننا كلنا مسؤولون ولو بمجرد المحاولة عن أخذ ونشر ما هو مفيد ويساهم في التقدم العلمي للمجتمعات، وعن جعل هذه البرامج من الانترنت وغيرها أداة تنموية، وليس أداة لتخلف المجتمع وبالتالي انهياره. وهنا يأتي دور إعلامنا ليأخذ المبادرة في التحذير والتوعية من كل ما هو فاتن ومفتن وفاسد ومفسد للأفراد والجماعات، ومن ثم يجب العمل على الاستفادة من الايجابيات الممكن أن تتوفر في هذه الوسائل المتعددة كالانترنت والفضائيات وغيرها.
* كيف ترد على من يعتبر أن هذا الذي نسميه انحرافاً للأفراد عن جادة الصواب، إنما هو في إطار الحرية الفردية للإنسان فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"؟
العقود والأنظمة الاجتماعية كافة تضع حرية الفرد في خدمة الجماعة، وفي خدمته أيضاً. وإذا ما كانت هذه الحريات الفردية ستؤدي إلى إفساد المجتمع، يجب عندها إيجاد الوسيلة المناسبة، فنية كانت أم إعلامية أم غير ذلك، لتعيد لُحمة المجتمع وتوحيده، وتعزيز قدرته على المواجهة لهذه الأدوات المنحرفة. طبعاً هذا يحتاج إلى مؤسسات وإلى عقول خلاقة تستطيع أن تسد الفراغ، وتوجد أدوات مناسبة لرأب الصدع الحاصل. هناك مشكلة أساسية تواجه مجتمعاتنا، وهي أن النموذج الغربي الذي يقدم لها (أي المجتمعات) هو نموذج فاسد في جوانب متعددة. فنحن لا نستطيع أن نعمم الفساد على مختلف نواحي حياة المجتمع الغربي والأمريكي، هناك أناس مضطهدون في تلك المجتمعات، لأنهم يرفضون التخلي عن العادات والتقاليد التي تنسجم مع عادات وتقاليد الشعوب المحافظة، كالمجتمعات الإسلامية والعربية. وعندما نقول"محافظ"، يعني محافظ على ذاته وثقافته، ولا يمكن أن تأخذ الكلمة معنى ذا طابع سلبي، يقود ربما إلى التشدد. أبداً، الأمر مختلف تماماً. ولكن هناك مفهوم رئيسي يجب التنبه له دائماً، وهو أن حرية الفرد هي دائماً في خدمة الجماعة. في الغرب يُطرح دائماً مفهوم معاكس"حرية الفرد في مقابل الجماعة". أو بالأحرى ضد الجماعة، وليس من أجل توحيد ولُحمة الجماعة. وهنا تكمن المشكلة، والتي يجب أن يتم تحذير الأجيال من خطورتها، للوصول إلى نشر ثقافة تستطيع أن تغير هذا الواقع غير السوي وغير التنموي لشعوبنا، التي تحتاج إلى تحرير طاقاتها وتحرير عقول أبنائها، وحكماً تحرير أراضيها من"الدنس" الذي يُراد له أن يضرب مقدرات ومقدسات الأمة.
* هل المطلوب من إعلامنا في تصديه لدور"الإعلام المضاد" أن"يطور" تجارب الآخرين، لتصبح منسجمة مع المفاهيم الإسلامية التي يعمل على نشرها؟
ليس بالضرورة أن يكون البديل من نفس الجنس والنوع والأدوات، ولكن يجب الالتفات إلى أن أي برامج يعتمدها إعلامنا، لجذب المشاهد، يجب أن تحاكي أمرين أساسيين: المخيلة والعقل من جهة، والواقع من جهة أخرى. وهذا أمر يحتاج إلى جيل من الشباب القادر على إبداع وخلق آليات فنية جديدة تستطيع أن تواجه التحديات الموجودة في مجتمعاتنا سواء في الجامعات أو المدارس، أو حتى على مستوى البرامج التربوية ككل، وواقعاً نحن نحتاج إلى ثورة في كل شيء، وهذه الثورة تطال أيضاً البرامج الثقافية والمدرسية وكل ما يمكن أن يندرج تحت اسم الفن، سواءً الأفلام أو المسلسلات التلفزيونية والمسرحيات والأناشيد وغير ذلك. وكذلك على مستوى الأخبار وتغطية الأحداث السياسية المحلية والعالمية. فبذلك تصبح التنمية شاملة للمستويات كافة، وهذا ما يحتاج للوقت والجهد، لذا يجب تسخير الطاقات كافة من أجل الوصول إلى الهدف الأسمى، وهو الحرية والاستقلال لشعوبنا ومجتمعاتنا. وأريد أن ألفت إلى نقطة مهمة أرى من الضروري أخذ مدلولاتها بعين الاعتبار، وهي أن المتضرر من هذه الثقافة وهذا الغزو، هو المجتمع المصدِّر بالدرجة الأولى. ففي الولايات المتحدة الأمريكية بالخصوص، هناك أوساط كثيرة تعيد أسباب ارتفاع نسبة الجريمة بشكل رئيسي إلى الأفلام السينمائية التي تروج للعنف والجنس"والأفكار المجنونة" وغير السوية في كثير من الأحيان، ذلك أن الجريمة صارت تأخذ منحى خطيراً يتمثل في أن القاتل يمكن أن يكون شقيقاً أو صديقاً أو زميلاً أو ابناً أو أباً أو أماً للضحية في معظم تلك الجرائم المسجلة. وهذا ما يثير الاستنكار في تلك الأوساط، أكثر ما يثيره في أوساطنا للأسف. فالمطلوب التنبه والتصدي قبل أن يصيبنا ما أصاب غيرنا من بلاء عظيم.
* في ظل هذه الهيمنة الإعلامية على تفاصيل الحياة اليومية، ما هي النصيحة للكبار والصغار؟
لا شك بأن العملية التربوية هي عملية شاملة متكاملة، تطال الرجل والمرأة والأولاد والمجتمع والمدرسة والشارع ووسائل الإعلام كافة، وهذه العناصر مجتمعة يجب أن تساهم في تطوير فهم الفضائل والقيم الموجودة في مجتمعاتنا، لأنه إذا ما تم تعزيز هذه القيم المميِّزة لمجتمعاتنا الإسلامية، فإننا عندها نستطيع مواجهة الهجمة الثقافية الغربية. والتوعية المطلوبة لا تأتي بشكل ذاتي فقط، بل ينبغي تعزيز الثقافة، وذلك عبر مختلف الوسائل، سواءً بالنقاش والحوار البنّاء، أو المشاركة في المحاضرات والندوات العلمية والفكرية وتكثيف البرامج التلفزيونية والإذاعية الموجِّهة. وبشكل أساسي تفعيل التثقيف التربوي والديني في المدارس، وليس الاكتفاء بالنواحي العلمية البحتة للطالب فمهمة المدرسة أن تصنع إنساناً قادراً على حمل رسالة المجتمع، لا أن يكون همها فقط تخريج أكبر عدد من حملة الشهادات المتوسطة والثانوية سنوياً. يبقى أن نشير إلى أننا نعيش في مجتمع متنوع، وهذا التنوع يؤدي إلى إبراز الميول المختلفة لدى تلك الشرائح المتنوعة المكوِّنة للمجتمع. ولذا يصبح من الأهمية بمكان أن تجعل من ذاتك (كيانك)، التي تعاني من مشاكل متعددة داخلية وخارجية، ميالة بوعي وإدراك إلى تقديم البدائل المناسبة، والتي لا تتعدى الحدود الشرعية، بعيداً عن التقليد الأعمى أو الاقتباس أو الاستنساخ المعدل، سواءً بالكلمة أو المشهد أو اللحن أو النص، وعلى مستوى المفاهيم الاجتماعية المختلفة. وهناك أمر غاية في الأهمية، يجب أن لا نغفل عنه، وهو أننا نعيش تداعيات مئات السنين من حالات التخلف والغزو الثقافي والتشوه في كل شيء، وهذا يحتاج إلى بعض الوقت من أجل إعادة المسار الأخلاقي الثقافي لهذه الأمة إلى طبيعته.