محمد تقي رهبر
عندما يتم التحدث عن الإعلام كعامل لنقل وتوسعة وتطور الفكر والعقيدة والاتجاه، فلا بد من التعريج على استراتيجية هذا الإعلام لأنها إحدى ركائزه. فكما هو معلوم، أن عملية الإعلام ترتكز على عدة عناصر، أولها وأساسها العقيدة والفكر ثم المنهج والاستراتيجية ومنها الأساليب والوسائل والإمكانات... لذلك فإن المُرسِل يحتاج إلى منهج ووسائل وأساليب معينة لنقل رسالته، وتعيين هذا المنهج يتم على أساس المعتقدات التي بُنيت عليها هذه العملية.
فمثلاً نبحث في منهج الإعلام عن أجوبة للأسئلة التالية: هل نراعي الأمانة والصدق في نقل الخبر الإعلامي؟
أم نتبع أسلوب "الغاية تبرر الوسيلة".فنعمد إلى الكذب والادعاء وما إلى ذلك من أساليب مضللة؟
إذاً هناك استراتيجيتان متضادتان نابعتان من أيديولوجيتين وتفكيرين مختلفين:
الأولى: منهاجها الإعلامي قائم على الحقيقة والقيم الأخلاقية وهدفها الإرشاد والبيان.
والثانية: منهاجها الإعلامي قائم على المصلحة وبعيد عن الحقيقة ويتبع أساليب سياسية مضللة مع ضجة إعلامية صاخبة.
والاثنان أفرزهما الواقع الاجتماعي القائم والسياسة الحاكمة والفلسفة السائدة على المجتمع.
يقول ويليام ريفرز في هذا المجال: "لا يمكن فصل الإعلام عن الواقع الاجتماعي والسياسي الحاكم، فالإعلام في الغرب فرع من الفلسفة الليبرالية والديقمراطية وفي الشرق فرع من الفلسفة الماركسية والنظام الاشتراكي".
أما دائرة المعارف العالمية فكتبت في شرحها لمصطلح propaganda والتي تعني الدعاية السياسية:
"إن وضع قوانين البلاغة والمنطق من قبل بعد الأساتذة الكبار أمثال أفلاطون وأرسطو، جاء لهدفين:
الأول: بهدف إثبات نظرياتهم وأبحاثهم.
والثاني: لحفظ مواطنيهم من استعمال السفسطة والكلمات المهيجة وبالتالي الامتناع عن اتباع القادة غير المنطقيين".
وتضيف دائرة المعارف:
"أوصى كاتيليا رئيس ورزاء الامبراطورية الهندية في كتابه "أصول السياسة" السياسيين والملوك باستعمال عبارات منطقية وعقلانية مخلوطة بالاحتيال والحنكة في خطابهم، وخصوصاً أثناء الحرب والاستعداد لها. ويعتقد كاتيليا ككل سياسي اليوم، بوجوب استعمال أساليب الارهاب وإيجاد الفتنة والتفرقة في صفوف العدو "الحرب النفسية" أو "حرب الأعصاب" ودعا أيضاً إلى إظهار المودة للحلفاء بدون الارتباط العميق معهم. "ماكيافللي" أكد أيضاً على سياسة كاتيليا ودعا إلى سياسة الوجهين في الحرب".
إذاً، نستنتج مما سلف أن الإعلام والإعلام المضاد قد بدأ عمله منذ 500 سنة قبل الميلاد في اليونان عبر تدوين قانون البلاغة الذي وضعه عدة من الوكلاء والمحامين وبعض السياسيين.
يعتقد بعض العلماء أن النظام الإعلامي على مر التاريخ قد اتخذ شكلين أو إطارين:
1 - في قالب السلطة.
2 - في إطار الحرية.
أو بعبارة أخرى كان عمل الإعلام ينحصر في جهازين: إما في جهاز منغلق تابع للسلطة السياسية وإما جهاز منفتح يتعامل مع الجميع. وفي العصر الجديد ومع التطورات العلمية التي حصلت، فقد ظهرت نظريتان جديدتان:
- الشيوعية.
- ونظرية المسؤولية الاجتماعية.
حيث تُعتبر الأولى تكاملاً للنظام الإعلامي السلطوي أو الرسمي، والثانية تكاملاً للنظام الإعلامي الحر.
وهنا يجب الإشارة إلى أن بعضهم قسَّم الإعلام بشكل آخر حيث يقولون: هناك ثلاثة أنواع من الإعلام وحسب نظام الحكم السائد في بلدان العالم:
1 - النظام الإعلامي الحر السائد في أميركا وأوروبا واليابان وبعض الدول المتقدمة الأخرى وأساس هذا النظام قائم على الحرية في التعبير والمشاركة في كل شيء والمؤسسة الإعلامية فيه لا يرتبط بالحكومة إلا من الناحية القانونية.
2 - نظام التنافس السياسي بأسلوب السلطة. الإعلام في هذا النظام يملك بعض الحرية إنما في إطار السياسة العامة للدولة والحكومة ويسود هذا النظام في بعض الدول الآسيوية والإفريقية والدول العربية.
3 - النظام الإعلامي الاشتراكي، السائد في دول أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي (في السابق) حيث ينحصر الإعلام كما السياسة في يد الحزب الحاكم وتحت شعارات مزيفة "حقوق العمال، النمو الاجتماعي ورفض الامبريالية و..." يحتكر هذا النظام الإعلامي ويسخره لخدمة مصالحه الدكتاتورية.
أما النظرية الرابعة والتي طرحها "فرد" FRED والمسماة "المسؤولية الاجتماعية" فتنادي بأعلام يضع مصالح المجتمع نصب عينيه بعيداً عن الحرية غير المقيدة وعن السلطة المستبدة وقد قيدت وحددت هذه النظرية الحرية بالمسائل الحياتية للمجتمع وربطت كل هذه المسائل بالأمور العامة العلمية والإنسانية.
على أي حال، فإن الحرية كانت وما تزال محور النظريات الإعلامية، فقبولها أو رفضها وإطلاقها أو تقييدها يخلق أساليب وأنظمة مختلفة كلها تعدي العمل الإعلامي. ونظرتنا نحن كإسلاميين للحرية الإعلامية سنبحثها في ما بعد إن شاء الله وكمقدمة نقول أن الحرية والمصالح الاجتماعية يجب أن تكون ضمن إطار الإيديولوجية والاستراتيجية الإسلامية، وأن ما يسمى بنظرية "المسؤولية الاجتماعية" ما هي إلا فكرة صهيونية دونت بمهارة فسلبت حق التعبير من الشعب تحت عنوان الحرية الإعلامية للتغطية على الجرائم الصهيونية ضد الإنسانية ولعبت هذه النظرية دوراً مهماً في تسخير أفكار الشعوب الغربية عبر أساليبها المبنية على أساس علم النفس والاجتماع والبيان و... ولذلك ندرك علل تشبيه الشعب البريطاني للإعلامي "رجل الإعلام" بأنه نصابٌ ومحتال ونعي أيضاً علل خوف المجتمع الأميركي من الإعلام والإعلاميين واتهامهم بالسفسطة وغسل الأدمغة.
* الأبعاد الاستراتيجية للإعلام
ازدادت أهمية الإعلام في العصور الأخيرة وخصوصاً بعد أن اتخذ بعداً استراتيجياً ووضع جنباً إلى جنب مع العمليات العسكرية ودخلت مصطلحاته ثقافة وتراث كل الشعوب "الحرب الباردة" "الحرب النفسية وحرب الأعصاب".
وقد أعلن رئيس الولايات المتحدة السابق إيزنهاور بعد الحرب العالمية الثانية في 17 ك1:
"إن عظم الحروب التي ستواجهنا هي حرب تسخير أذهان الناس والبشر".
وقال أحد قادة الجيش الألماني بعد الحرب العالمية الأولى:
"نحن نصرف وندمر الكثير من ذخائرنا ومعداتنا لندمر مدفعاً واحداً لعدونا أليس من الأفضل أن نعمل عملاً نجعل عدونا يرتجف ولا يطلق النار علينا".
وهتلر يقول: "الإعلام هو قدرة سياسية لا نظير لها".
ولينين كما هتلر قال: "الإعلام هو أكبر قدرة وقوةٍ للحكومة".
ونابليون يقول:
"إن أقلام الصحافيين تفرحني أكثر من دوي الرصاص والمدافع".
وأما الرئيس الأسبق كارتر فقال:
"دولار واحد للإعلام أفضل من عشرةٍ للتسلح والحرب".
ومن هنا أصبح واضحاً لماذا سُمي هذا القرن ب "قرن الإعلام"؟ ولماذا أصبحت الميزانيات التي تصرف للإعلام ذات رقم عالٍ؟.
فالكثير من الطاقات المادية والمعنوية في البلدان المتقدمة تصرف على الإعلام والذي يشمل الكثير من الفعاليات: وكالات الأنباء ووكالات التجسس، خبراء الحرب النفسية والأعصاب، خبراء علم الاجتماع والمعلوماتية، النشريات، الكتب، الراديو، التلفزيون، التعليم والتربية، الأقمار الاصطناعية الأقلام الفن و...
ومن هذا التقدم الإعلامي والتكنولوجي الكبير استفادت الدول المستعمرة فعدلت عن سياسة التدخل العسكري المباشر ولجأت إلى الدخول في ثقافات وأفكار وأخلاق الدول الثانية وخطط لهذا العمل آلاف من الخبراء والمفكرين في العلوم المختلفة وسلاحهم هو الإعلام من راديو منتشر في كل أنحاء العالم وأقمار اصطناعية ومجلات و...
* السياسة الإعلامية للدول الكبرى
مع بداية العصر الإعلامي الجديد واستخدام أمواج الأثير انقسمت دول العالم إلى مجموعتين:
1- الدول المتقدمة "اصطلاحاً".
2- الدول النامية والفقيرة.
وتقع الدول الإسلامية في المجموعة الثانية مع الأسف، فمع كل ما تملك من إمكانات مادية ومعنوية تتيح لها الحياة المثلى، فإن زعماءها وحكامها ما زالوا يتمسكون بالسلطة ويمنعون أي تقدم ورقي للأمة بمعناه الواقعي وقد استفادوا لتركيز دعائم حكمهم من الإعلام الغربي وإشاعة الفحشاء والمنكر واللعب واللهو والمسائل الجنسية و... وهم يدَّعون ويصورون لشعوبهم أن ذلك هو التمدن والرقي. وأخيراً كما هو معلوم، سيطرت الحركة الصهيونية على حركة الإعلام العالمي وأصبحت تسخره لخدمتها وخدمة مشاريعها التوسعية والإجرامية.
ومن أجل أن يكون البحث شاملاً ومفيداً، سنبدأ بدراسة التيارات الإعلامية المشهورة في عالم اليوم ونلخصها في التالي: المسيحية والتبشير، الصهيونية والماسونية، الامبريالية والماركسية.
نبدأ بالمسيحية ومؤسساتهم التبشيرية المسماة "البعثات اليسوعية" ونلقي أولاً نظرة على التبليغ في شريعة السيد المسيح ثم نبحثها في مراحلها المختلفة.
1- المسيحية والتبليغ
إحترم التبليغ في كل الأديان السماوية، واعتبر المبلغ هادياً ومرشداً للناس ونال درجة رفيعة بينهم.
جاء في "العهد الجديد":
"ثم جمع تلامذته وأعطاهم القدرة والقوة وأرسلهم إلى ملكوت الله ليوعظوا الناس ويشفوا المرضى" (إنجيل لوقا - الباب التاسع).
وفي خطاب من السيد المسيح لتلامذته:
"كونوا سعداء لأن أسمائكم مدونة في السماء" (إنجيل لوقا - الباب العاشر).
وجاء في مكان آخر من الكتاب المقدس:
"من هدى ضالاً فقد أحيا نفساً" (يعقوب - الباب الخامس).
كما تلاحظون فإن منطق الإنجيل لا يختلف عن منطق القرآن في الدعوة وتبليغ الرسالة الإلهية:
﴿لا نفرق بين أحد من رسله﴾ (البقرة: 285).
﴿واستجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم﴾ (الأنفال: 24).
وفي رسالات الأنبياء بشكل عام أصول مشتركة فالمصدر واحدٌ والمحتوى متشابه والأساليب فيها الكثير من التشابه، وكدليل هذه رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى أسقف الروم الأعظم تقول:
"سلام على من آمن، أما على أثر ذلك، فإن عيسى بن مريم روح الله ألقاها إلى مريم وإني أؤمن بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون والسلام على من اتبع الهدى".
ومن رسالة له صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليهود:
"من محمد رسول الله أخي موسى وصاحبه بعثني الله بما بعثه به إني أنشدكم بالله وما أنزل على موسى يوم طور سيناء".
وبشكل عام فإن استراتيجية الأنبياء بالدعوة كانت واحدة مع بعض الاختلاف في التكتيك والأساليب وحسب العصر والظروف وكان هدفهم واحداً وهو بيان الحق والحقيقة.
من البديهي أن حكمنا هذا هو للشرائع السابقة التي تُحرَّف بل هي كما جاء بها الأنبياء، أما وقد سيطرت المادية على أرباب هذه الشرائع والأديان فإن الموقف يتغير، فكلنا يعلم علم اليقين كيف اندثرت العدالة والمعنويات وكيف غاب زهد عيسى عليه السلام ورفض الظلم عند موسى عليه السلام وكيف تربع الآباء الروحيون والقساوسة مكان قيصر وفرعون وكيف قاد هؤلاء أبشع الحروب ضد الإنسانية أثناء الحروب الصليبية والتي سفكت فيها دماء الأبرياء دفاعاً عن "الصليب". (كما يقولون).
وللدلالة نذكر مقطعاً من كتاب الباحث "غوستاف لوبون" الذي ألفه حول جنايات الصليبيين، جاء فيه:
"إن الأعمال القبيحة التي ارتكبها "مجاهدو" الصليب في هذه الحروب جعلتهم من أقسى وأوحش الشعوب على الأرض، فقتلهم للموالين وللأعداء وللنساء والأطفال والعزل والعجزة خير دليل على وحشتيهم".
أما "روبرت" الراهب الذي حضر شخصياً إحدى الوقائع المفجعة في هذه الحرب كتب يقول:
"مقاتلونا (يعني مجاهدي الصليب) كانوا دائمي الحركة والتحري في الأزقة والساحات وفوق السطوح وكانوا كأنثى الأسد التي تبحث عن ولدٍ سُرق لها يتلذذون بسفك الدماء البريئة وتقطيع الأطفال والشيوخ بالسيوف حتى امتلأت الشوارع بجثث القتلى وتعذر المرور إلا عليهم".
نعم، هكذا كان عمل مبشري القرون الوسطى وحاملي الرحمة! وممثلي الزهد والعطف العيسوي!! وقد ارتكبوا حماقة وجريمة أخرى عندما وقفوا ضد العلم والعلماء باسم الدين وألفوا محاكم "تفتيش العقائد" فقتلوا العلماء وعذبوهم.
وهذا "كانت" يقول فيهم:
"إن المسيح قرِّب ملكوت السماء ولكنهم لم يفهموا قصده، فبدل الملكوت الإلهي، بسط الرهبان سلطتهم".
أما الشاعر والكاتب المعروف فيكتور هوغو فله كلته المعروفة أمام البرلمان الفرنسي عندما حاول الرهبان الكاثوليك إصدار قانون بانحصار التعليم والتربية في البلاد فيهم، فقام مخالفاً وفاضحاً لأعمال المبشرين والآباء الروحيين ضد أهل العلم والعلماء ومما جاء في كلمته:
"... نحن نعرفكم ونعرف فرقتكم ونعلم كم دافع حزبكم عن الدين! وهناك شيئان نعرفهما من مخالفاتكم: الجهل والعقائد السخيفة. فحزبكم هو الذي حجب العلم والمعرفة ولم يسمح العلماء والمفكرين فذنب العالم "برنلي" الوحيد هو أنه قال أن النجوم لا تسقط على الأرض ولهذا أعدمتموه وعذبتم الطبيب "هارو" لأنه قال أن الدم يجري في العروق داخل جسم الإنسان. أما "غاليله" العالم والحكيم الإيطالي المعروف فقد نجا من الإعدام بواسطة يوشع وأودع السجن لأنه أثبت دوران الأرض. وأمثال هؤلاء كثير فبعضهم أعدمتم والبعض عذبتم وسجنتم وآخرون كفرتم وكل ذنبهم أنهم قالوا بما لا تقولون. والآن تأتون لتسيطروا على نطام التعليم والتربية. فنحن نخالفكم والناس ترفضكم. وأين هو نموذجكم التربوي فإيطاليا واسبانيا خير شاهد على فشلكم فقد حكمتم هذين الشعبين العظيمين لعدة قرون فما هي نتيجتكم؟ ايطاليا، مهد التمدن والحضارة أين أصبحت؟ شعبها لا يعرف القراءة والكتابة، واسبانيا التي اكتسبت التمدن من الروم والمعرفة من المسلمين وفتح لها الله بلداً جديداً هو أميركا، أين هي اليوم؟ فشعبها تأخر كثيراً بسبب حكمكم، فبدل أن تحافظوا على حضارتهم شكلتم محكمة التفتيش عن العقائد والتي ما زال البعض منكم يطمح بتشكيلها الآن.، فقتلتم عبرها خمسة ملايين نفس بريئة وأحرقتموهم...".
الصحيفة السوداء لمسيحية القرون الوسطى ومخالفتهم للعلم والحرية وإشاعتها للخرافات، هي في الحقيقة عامل مهم ضد التبليغ، لذلك خالف المثقفون والمفكرون المسيحية وبعضهم من رفض الدين بشكل عام نتيجة هذه التصرفات التي ارتكبت باسم الدين.
* تغيير أسلوب وتكتيك التبشير
على مر العصور اكتشفت الكنيسة فشل أسلوبها الديكتاتوري والفاشي في التبشير فلجأت إلى تغير أسلوبها الإعلامي والتبشيري عبر الدخول إلى نظام التعليم والتربية ونشر المجلات والكتب وتقديم الخدمات الصحية والمعيشية وما إلى ذلك من أمور يصدق عليها قول الله سبحانه وتعالى:
﴿خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً﴾ (التوبة: 102).
ففي ظل هذه الأعمال قاموا بتمهيد السبيل للدول المستكبرة في استغلالها للدول المستضعفة، بل وقاموا بتأييدهم وتأييد استعمارهم واحتلالهم، واستغلوا في ذلك الشبكة التبشيرية الواسعة الانتشار والعظيمة الإمكانات وكما هو معلوم فإن المبشرين المسيحيين يتكيفون مع أي محيطٍ وجدوا فيه ففي المحيط الماركسي أسسوا فكرة "الإلهيات المتحررة" المناسبة للفكر الماركسي وطبقوها مع أقوال السيد المسيح عليه السلام وهذا ما حاول بعض الجهلاء من المسلمين فعله فادَّعوا الماركسية الإسلامية أو الإسلام الاشتراكي.
إن المبشرين المسيحيين حاولوا وبشتى الوسائل والطرق المنحرفة الترويج لأفكارهم ومعتقداتهم المنحطة والمزورة ووصل بهم الأمر إلى أن أحد الرهبان في دولة السويد الذي لم يستطع جذب الناس إلى الكنيسة، أن طلب من اثنتين من الممثلات المجيء إلى الكنيسة ذلك الأسبوع وأداء المراسم الدينية ببدنٍ عارٍ، فما كان إلاّ أن امتلأت الكنيسة في الأسبوع الذي تلاه "فقد أتوا لرؤية النساء العاريات ولم يأتوا للعبادة".
على أي حال، فإن المبشرين استخدموا أساليب كثيرة لنشر أفكارهم في كل العالم إلا أن الشيء الأكثر انتشاراً واستخداماً هي الخدمات الثقافية والصحية وإبراز المحبة والعطف الإنساني!!!
لذلك نراهم شغوفين ببناء المدارس والمستشفيات، وخصوصاً للشعوب الفقيرة والمحرومة وقد استأثرت القارة الأفريقية بالكثير من خداماتهم!! ومع الأسف فإن أكثر الشعوب المستهدفة في حملاتهم التبشيرية هم المسلمون المحرومون. فقد دلت الإحصائيات على أن هناك خمسة ملايين مسلم أفريقي يتلقون تعليمهم في المدارس التبشيرية وأن هناك 98 مؤسسة تبشيرية مرتبطة بالكنيسة تسعى للترويج للدين المسيحي وخصوصاً بين الشباب وبطرق مختلفة.
ومن جهةٍ أخرى، نشرت إحدى المجلات الدولية "دراسات مسيحية" أرقاماً وإحصاءات عن عملية انتشار الدين المسيحي وقالت أن هناك 3700 مركز يعمل على تنسيق وبرمجة عمل 25400 مبشر مسيحي يعملون في الخارج ولهم 280 محطة راديو وعددٍ لا بأس به من المرسلات التلفزيونية وينشرون حوالي 20700 نشرة ترويجية مسيحية. وعلى سبيل المثال فإن هناك مجلة ينشرها مسيحيو بريطانيا في سبع لغات وتوزع منها حوالي 20 مليون نسخة مجاناً، وهدفها فقط الترويج للدين المسيحي والعقائد الكنسية.
وأيضاً من أساليب الكنسية التبشيرية، اتهامهم الباطل ضد الإسلام وهذه الحركة الهجومية لم تكن جديدة، فقد اتهم الإسلام من قبل، ولكن يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين، ومن اتهاماتهم ضد الإسلام قولهم أن الإسلام استخدم السيف لنشر دعوته، ولكن بحمد الله، انبرى أناس من داخل الدين المسيحي ونقضوا هذا الاتهام السخيف والضعيف. ونحن هنا لسنا بصدد الدخول في هذا البحث، ولكن كإشارة ونموذج، نعرض بعض الاعترافات ونبدأها بأحد أصولنا الإسلامية حول التعايش معهم، وهذا ما تلخصه لنا معاهدة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أسقف نجران "أبي الحارث بن علقمة" حيث جاء فيها:
"بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد النبي إلى الأسقف ابن الحارث وأساقفة نجران وكهنتهم ومن تبعهم ورهبانهم. أن لهم ما تحت أيديهم من قليل وكثير من بيعهم وصلواتهم ورهبانيتهم وجوار الله ورسوله، لا يغير أسقف من أسقفيته ولا راهب من رهبانيته ولا كاهن من كهانته ولا يغير حق من حقوقهم ولا سلطانهم ولا شيء مما كانوا عليه على ذلك جوار الله ورسوله أبداً ما أصلحوا ونصحوا عليهم غير مثقلين بظلم ولا ظالمين...".
كما تلاحظون، فإن الإسلام دعا إلى التعايش معهم ولم يفرض مبادئه عليهم. وهذه السنة النبوية ما تزال جارية حتى الآن وقد اعترف بها الكثير من المسيحيين، فهذا "ميشو Michsud" يقول:
"إن الآيات القرآنية التي تدعو إلى الجهاد ونشر الدين، هي ذاتها تدعو إلى الألفة والعدل وهي التي أعفت الراهب والقسيس واتباعهم من أداء الجزية وهي التي دفعت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى منع قتل الرهبان، لأنهم يصلون. عندما فتح عمر بيت المقدس، أمر جنوده بعدم التعرض لأتباع السيد المسيح عليه السلام على خلاف ما فعله المسيحيون عندما دخلوا المدينة أيام الحروب الصليبية فقد قتلوا كل من رأوا أمامهم من المسلمين واليهود".
أما البحث الفرنسي "غوستاف لوبون" فقد كتب تحت عنوان "فلسفة القرآن وانتشاره في العالم" يقول:
"نحن عندما ندقق في فتوحات الإسلام وانتصاراته، نرى أن الدين الإسلامي لم ينتشر بالسيف، فالمسلمون أعطوا الشعوب المغلوبة الحرية في قبول الإسلام أو البقاء على دينها، وباعتقادي أن سبب دخول المسيحيين في الإسلام هو إدراكهم لعدل الإسلام وأنه أقرب إلى الحقيقة من دينهم. وهناك حقيقة تاريخية، أن شعوب العالم أجمع لم تقبل أي دين أو معتقد تحت ظل السيف والقوة، وإلا كيف انتشر الإسلام في تركيا وبلاد المغول والصين والهند مع أن جنود الإسلام لم يدخلوا هذه البلاد قط ولم يحتلوا شبراً واحداً منها".
أما في كتاب "تاريخ التمدن" لويل ديورانت، فقد جاء تحت عنوان "الإسلام والمسيحية":
"خلال خمسة قرون من الزمن (من 700 إلى 1200م) كان الإسلام السباق والرائد في مجالات القوة والنظام والأخلاق والحكم والتكامل الحياتي والأدب والفن والعلم والفلسفة والطب و... وكانت ديار الإسلام أغنى من ديار المسيحية في الفن والثقافة، وقد أخذت أوروبا الطعام والدواء والأسلحة والفن وعلم التجارة وقوانين وعلوم البحار و... من المسلمين".
وكدليل على استقطاب الإسلام للمسيحيين يقول ويل ديورانت: "إن عدد سكن غرناطة المسلمين سنة 1311 كان 200,000 نسمة كلهم كانوا مسيحيين في الأصل عدى 500 شخص ولدوا مسلمين".
كتب السير توماس آرنولد يقول:
"الظاهر أن المسيحيين كانوا يدخلون في دين الإسلام أفواجاً، ونستطيع أن نستنتج ذلك من انخفاض عائدات الجزية التي يدفعها المسيحي الذي يعيش في ظلال الدولة الإسلامية، فقد انخفضت من 120 مليون درهم في زمن عمر إلى حوالي 40 مليون درهم في زمن عبد الملك، أي بعد خمسين عاماً".
ثم يورد آرنولد رسالة "يوشع باف سوم" إلى "سمعان" رئيس الكهنة والتي يشكو فيها من دخول مجموعات كبيرة من المسيحيين في الدين الإسلامي. ويتعرض بعدها إلى ذكر أسماء شخصيات بارزة اعتنقت الدين الإسلامي بعد فشلها في المناظرة العقلية مع المسلمين. ويذكر الكثير من المستندات التاريخية المهمة حول كيفية انتشار الإسلام في العالم.