صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

الأسر في القرآن الكريم‏

الشيخ محمد يونس‏

 



أولت الشريعة الإسلامية اهتماماً بالغاً بموضوع الأسير على مستوى التعاطي والمعاملة معه، لما لهذا الأمر من علاقة مباشرة بشخص الإنسان وقيمته ككيان إنساني، بعيداً عن تفاصيل الانتماء والهوية والعقيدة، وبعيداً كذلك عن الأداء والسلوك والعمل والممارسة. ومما لا شك فيه، أن المنطلقات الثقافية لهذا الأمر تكمن في الجذور الأخلاقية التي رسمتها الشريعة في ميادين الحياة كافة، واعتبرتها جوهر التشريع وروحه. فالأسير من حيث المبدأ هو إنسان في أضعف لحظات حياته، فاقد للقدرة ولكل وسائل الدفاع ولا حول ولا قوة له، مستسلم لمشيئة وإرادة من أسره، الذي بإمكانه أن يتخذ بحقه أي إجراء أو حكم وتنفيذه دون تردد أو خوف. وهذه المسألة هي التي شكلت جوهرياً عنواناً لثقافة التعاطي مع الأسير، كما شكلت في الوقت نفسه عنواناً لثقافة الآخرين وأساليبهم وأهدافهم من هذا الموضوع.

فالأسير انتقل من موقع المحارب الذي يشهر سلاحه في وجه المسلمين إلى موقع المستسلم لإرادتهم، فكان من الطبيعي أن يختلف الحكم في التعاطي معه من مرحلة القتل والمواجهة إلى موقع الرحمة عند القدرة والتمكن. وهدفت الشريعة بداية إلى إصلاح الأسير وهدايته، بمعنى إخراجه من حظيرة الضلالة إلى ربوع الإيمان وإعطائه فرصة تصحيح مساره ودوره في الحياة، ليكون إنساناً صالحاً ونافعاً في المجتمع، بعد أن كان في الموقع النقيض. وشكلت هذه المسألة عنواناً كبيراً لموضوع التعاطي مع الأسير، كونها نقطة تحول جذرية في حياته على مستوى الاعتقاد والعمل.

وقد أشار القرآن الكريم لهذه النقطة من خلال قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (الأنفال: 70) معتبراً أن صلاح الأسير على مستوى النفس والسريرة عامل مهم لنيله رضا الله ومغفرته. كما اعتبر أن بقاء الأسير على موقفه وخيانته للأمة خيانة لله يستحق عليها العذاب الأليم، إذ قال: ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم (الأنفال: 71).
الأسر في القرآن‏
وبالرجوع إلى القرآن الكريم، نرى أن الشريعة الإسلامية عارضت فكرة الأسر باعتبارها عنواناً مستقلاً، كأن يقوم المسلمون بأسر أحد من الأعداء بعيداً عن عملية الصراع بشكل عام. بل كل ما ورد في الشريعة الإسلامية عن الأسر كان بلحاظ تمكن المسلمين من أسر بعض أفراد العدو في ساحات الوغى أي أثناء مواجهة عسكرية لها أهدافها الدينية والعقائدية وما سوى ذلك. وأما أن يقوم المسلمون بأسر أشخاص من الأعداء من دون أي مواجهة مسلحة أو عملية صراع مستمرة أو دون أهداف دينية، كتحرير أسرى مسلمين من أيدي العدو وما سوى ذلك، فإن القرآن حارب هذا المنطق بشدة، وقد أكد المفسرون هذه النقطة عند قوله تعالى ﴿فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا (محمد: 4).

فالآية أكدت على المجاهدين المسلمين عند لقائهم الكفار في ساحات الوغى أن يُعملوا السيف في رقابهم ويُغلظوا عليهم ليروا بأس المسلمين. وأما القبض عليهم واتخاذهم أسرى وشد وثاقهم، فإنه جاء بعد إثخانهم بالجراح وإنهاكهم إلى درجة الضعف والوهن، لتتم بعدها مرحلة التعاطي والمعاملة معهم كأسرى حرب. كما يستفاد ذلك من قوله تعالى ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ (الأنفال: 67) حيث نهى الله تعالى نبيه عن أسر المعادين ابتداءً من أجل مقايضتهم بمال أو ما شابه، واعتبر أن ذلك تصرف دنيوي لا يتماشى وروح الشريعة، كما لا ينسجم وأخلاقيات المسلم الرسالي، كما ورد في بعض التفاسير.

وهناك موقف آخر أطلقته الشريعة من القوم الذين بينهم وبين المسلمين عهد وميثاق، حيث نهت عن قتالهم واتخاذ أسرى منهم، كما يشير القرآن الكريم بقوله تعالى ﴿وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (الأنفال: 72).

الموقف من الأسير
وحرصت الشريعة الإسلامية على معاملة الأسير بمنتهى الرحمة. ويمكن في هذا المجال قراءة موقفين بينتهما الشريعة واعتبرتهما قانوناً ملزماً للتعاطي مع أسرى الحرب، وهما إما إطلاق سراحه وإما مبادلته بالمال أو بأسرى المسلمين الذين هم في قبضة العدو.
أما الأول، فهو العفو عن الأسير وإطلاق سراحه مجاناً دون مقابل. فقد أوصت به الشريعة وأعطته أولوية خاصة، كما يظهر في تقديمه على الفداء في قوله تعالى ﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا (محمد: 4)، أو قوله تعالى ﴿وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (التغابن: 14)، وكما يستوحى من قوله تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (الإنسان: 8) وقد حكم به الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم ، لا سيما بعد فتح مكة، كما تشهد بذلك السيرة الصحيحة. وقد كانت لهذا الموقف آثار إيجابية عظيمة في نفوس الأسرى ساهمت في تحولهم عن الشرك والضلالة الى ربوع الإسلام الحنيف. وهذا الحكم هو تأكيد للحكم الإلهي بالعفو والمغفرة، ومن أولى بذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي قال فيه القرآن الكريم ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين (الأنبياء: 107).

وأما الموقف الثاني، أي الفداء كما عبر القرآن الكريم، فإن الذي يظهر من الآيات أن المسلمين لجأوا إليه في حالات الضرورة وهو مبادلة الأسرى بالمال أو بأسرى لهم في أيدي الأعداء. وهذا الموقف مبني على ضرورة سعي المسلمين لإنقاذ إخوانهم من براثن الأعداء الذين كانوا يعاملونهم بمنتهى التنكيل والوحشية. وقد أكد القرآن الكريم التزام تحرير الأسرى واعتبره واجباً مقدساً ينبغي العمل عليه، بل لا يجوز بأي وجه التخلي عن المسلمين الأسرى الذين وقعوا في أيدي الأعداء أثناء قيامهم بتكليفهم الإلهي وواجباتهم الرسالية.

وهناك حكم استثنائي حكم به رسول الله وهو قتل الأسير. وهذا الحكم التزم به رسول الله إزاء بعض الأسرى. إلا إن الظاهر من حكم النبي أن هذا الحكم ليس من باب الأسر، وإنما كان لمقتضى آخر كحكمه بالقتل على أسرى بني قريظة الذين نقضوا عهدهم مع الرسول وراحوا يساعدون مشركي قريش كلما سنحت لهم الفرصة بذلك. ولذلك نرى عدم ذكر هذا الحكم في القرآن الكريم.

وفي الختام، لا بد من الإشارة إلى أن الشريعة أوجبت على المسلمين إطعام الأسير وسقايته وعدم تجويعه، وأن يكون الطعام مماثلاً في الجودة والكمية لطعام المسلمين، أو أفضل منه إذا كان ذلك ممكناً ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ونهت عن أي نوع من أنواع التعذيب والتنكيل كالذي مارسه المشركون بأسرى المسلمين، وضرورة توفير الأمن والسلامة وسوى ذلك من الأمور الضرورية لكل إنسان.
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع