نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

سياسة الإسلام في معاملة أسرى الحرب‏

-لمحات من الفقه وسيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم

الشيخ محمد حسن زراقط


عندما تنشب الحرب تترك آثارها على الإنسان قتلاً في ساحة الظلم، وشهادة في ميدان الحق والدفاع عنه، وأسرى في الجهتين أيضاً. وما نود البحث حوله في هذه المقالة هو ظاهرة الأسر، لنستعرض ما وسعنا ذلك، مع مراعاة الاختصار طريقة معاملة الأسرى في الإسلام، بعد أن انبلج صبحه بشروق شمس الهداية المحمدية. وقبل الدخول في البحث حول الأسر وأحكامه في الإسلام، لا بد من الإشارة إلى مجموعة من الأمور:

أولاً: إن الإسلام لم يشرّع الحرب لأجل الحرب، وإنما شرعها لأسباب معنوية هي الدفاع أو فتح باب الدعوة إلى الله، ومنع المشركين من ممارسة ضغوطهم على الناس لمنعهم من الإيمان. ويبدو أن أكثر إن لم نقل كل الحروب التي خاضها النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت حروباً دفاعية. وما يقال عن الحرب، يقال عما يحصل فيها من أحداث وأفعال كاعتقال الأسير.

ثانياً: إن بعض الأحكام المتعلقة بمثل هذه الأمور تقبل التغير من فترة زمنية لأخرى، وهي تابعة للظروف التي تطبَّق فيها. فربما يكون أمرٌ في فترة تاريخية محددة تبعاً لظروف الصراع مع الكفر جائزاً ولا يكون كذلك في ظرف آخر، وهكذا بالنسبة لموضوع الأسر.

ثالثاً: إن طريقة التعامل مع الأسرى تابعة في كثير من تفاصيلها لطريقة تعامل العدو مع أسرى المسلمين. فعندما يقسو العدو، وتبعاً لمبدأ المعاملة بالمثل الذي أقره الإسلام يجوز المعاملة بالطريقة نفسها مع مراعاة أعلى درجة ممكنة من الأخلاقية.

رابعاً: إن الأسر حتى لو كان فيه شي‏ء من العقوبة والقسوة من جهة أنه حجز لحرية الإنسان، إلا أنه يبقى أفضل الخيارات الممكنة في حالات الحرب؛ لأن الأسير يحيا إلى أمد على أمل التحرر، وغالباً ما يتحرر، وهذا الحل أفضل من القتل في ساحة القتال. وعندما تكون الحرب ذات طابع ديني، يعطى الأسير الذي يقع بيد المسلمين فرصة التعرف على الإسلام والاطلاع عليه. وبالتالي، يتحول الأسر إلى باب من أبواب الدعوة وفرصة من فرص الهداية.

* سياسة الأسر في الإسلام:
ليس من المبالغة القول إن الإسلام في تعامله مع الأسرى يصل إلى أعلى المستويات وأرقاها في مجال حفظ الكرامة الإنسانية للأسير وعدم الاعتداء عليها. ويتجلى احترام الإسلام للأسير في التشريعات التي أقرها الإسلام في هذا السبيل وفرضها على جيش المسلمين؛ حتى صح أن يقال إن أرحم الفاتحين هم المسلمون. وسوف نعرض لبعض العناصر التشريعية التي تكشف المبادى الأخلاقية التي تحكم نظرة الإسلام إلى الأسير وتعامله معه.

أ - احترام حقه في الحياة:
ما يكشف عن احترام الإسلام حق الأسير في الحياة، تشريعه لفكرة الأسر بدل القتل، وتحريم الإسلام لقتل الأسير بعد أسره، وتكليف المسلمين بالاهتمام به لجهة تأمين متطلبات حياته من طعام وشراب ما دام في الأسر. حتى لو كانت عقوبته القتل، فلا يجوز أن يُمنع من الطعام والشراب قبل القتل. وهذا الحكم من الأحكام المعروفة بين الفقهاء. ومما يدل على حسن الاهتمام بالأسير وضرورة رعايته قوله تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُورا (الإنسان: 8 9). وهذه الآية كما هو مشهور بين المسلمين نزلت في أهل البيت الذين تنازلوا عن طعام إفطارهم للأصناف الثلاثة المذكورة في الآية وهي (اليتيم والمسكين والأسير). وقد أقرهم الله على ذلك وأثنى عليهم لأجله. وهذا يكشف عن أن إطعام الأسير من بين وسائل التقرب إليه تعالى. ثم إن الآية الكريمة التي تشير إلى طريقة التعامل مع الأسرى تحدد خيارات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن يخلفه في قيادة المسلمين، بخيارين اثنين هما المن أو الفداء، أي الإطلاق دون مقابل أو الإطلاق مقابل فدية مالية تدفعها الجهة التي كان يقاتل معها، والآية هي قوله تعالى: ﴿فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا (محمد: 4). وقد حصلت في التاريخ الإسلامي حالات من الفداء لم تكن محصورة بأخذ المال، وإنما حصل أحياناً نوع من تبادل الأسرى بين المسلمين والمشركين. وفي إحدى المرات طلب النبي من الأسرى تعليم بعض المسلمين القراءة والكتابة ليتم إطلاق سراحهم.

ب - احترام الشخصية المعنوية للأسير:
من الميزات التي يتميز بها الإسلام، احترامه للشخصية المعنوية للأسير، بمعنى احترام كرامته الإنسانية وعدم الاكتفاء بحفظ حياته فحسب. ومن ذلك، أن القرآن الكريم يطيب خاطر الأسرى الذين دفعوا الفداء للمسلمين ويعدهم بأن يجبر الله خسارتهم ويعوضهم خيراً مما دفعوا: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (الأنفال: 70). ولا بد من الالتفات إلى عمق هذه الآية ورقي مضامينها، فإن المخاطبين هم أسرى اعتقلوا في حرب ضارية مع المسلمين، وقد أخذ منهم الفداء ليطلق سراحهم، وهذا يعني أنهم لم يسلموا بعد. ومع ذلك، يطالب الله نبيه بالتحدث إليهم وطمأنتهم إلى مستقبل أيامهم في علاقتهم مع الإسلام، وأن الله سوف يقبل إسلامهم لو أسلموا يوماً ما ويعوضهم خيراً مما دفعوا لإطلاق سراحهم. فهل بعد هذا من رقي في التعامل مع الأعداء؟!

ومن مظاهر احترام الشخصية المعنوية للأسير، تكليف الفقه الإسلامي المسلمين باحترام الاتفاقيات التي تُعقد مع الأسرى. وليلاحظ القارئ النص الآتي لأحد فقهاء الشيعة وهو القاضي ابن البراج، وسوف أدرج بعض التوضيحات في النص وأميزها عن النص الأصلي بالأقواس: "وإذا كان المشرك ممتنعاً وهو أسير، فجُعِل له جعْل (أي وعده المسلم بجائزة) على أن يدل على المشركين (ويكشف عن مواقعهم) فدل عليهم وجب الوفاء بما ضُمِن له (أي وجب على من وعده أن يفي بوعده له). ولو جُعِل له جعْل على أن يدل على مائة فدل على خمسين أو عشرة فدل على خمسة، كان له النصف مما جُعِل له... وإذا ضل المسلم عن الطريق ومعه أسير من المشركين فجعل له الأمان (أي وعده بالأمن وإطلاق سراحه) إن دله على الطريق، فلما دله عليها ولاح (أي ظهر وبدا) له الجيش خاف المسلم (الآسر) من أن لا يطلقه صاحب الجيش (قائد الجيش)، كان عليه إطلاقه قبل وصوله إلى الجيش. فإن أدركه المسلمون قبل إطلاقه كان على صاحب الجيش إطلاقه له، فإن اتهمه (أي اتهم القائدُ جنديَّه بالتواطؤ مع الأسير) في ذلك استحلفه عليه (طلب منه أن يحلف على أنه وعده بالإطلاق مقابل أن يدله على الطريق) ثم أطلقه، وإن لم يفعل صاحب الجيش ذلك (إن لم يطلق قائد الجيش سراح الأسير)، على المسلم (الذي وعد) أن يأخذه في سهمه ثم يطلقه بعد ذلك (بأن يتنازل عن حقه في الغنائم مقابل استلام الأسير وإطلاق سراحه وفاء بما وعد). (و) إذا دخل إنسان من المشركين إلى دار الإسلام (بلاد المسلمين) آمناً، ثم أراد الرجوع إلى دار الحرب (بلاد الكفر) لم يمكن له أن يخرج بشي‏ء من السلاح وما جرى مجراها مما يستعان به على قتال المسلمين، إلا أن يكون دخل ومعه شي‏ء فيجوز تمكينه من ذلك دون ما سواه"(2). وهذا النص على طوله نقلناه لما فيه من دلالات رائعة تكشف عن احترام الفقه الإسلامي للأسير وشخصيته وضرورة حفظ أمواله والوفاء والالتزام بالعقود والعهود التي تعطى له، واحترام ملكيته حتى لو كانت سلاحاً نحتمل أنه سوف يقاتل المسلمين به بعد عودته إلى بلده.

ج- مراعاة حاله:
من الأخلاقيات التي يلزم الإسلام أتباعه بها احترامهم لحال الأسير، والرفق به خلال الأسر. ومن ذلك أنه لو أسر المسلمون شخصاً لا يستطيع المشي معهم وجب عليهم تركه وإطلاق سراحه. وفي هذا الأمر يقول الشيخ الطوسي: "ومن أخذ أسيراً فعجز عن المشي ولم يكن معه ما يحمله عليه إلى الإمام فيطلقه؛ لأنه لا يدري ما حكم الإمام. ومن كان في يده أسير وجب عليه أن يطعمه ويسقيه وإن أريد قتله في الحال"(3). ما تقدم نبذة عن حقوق الأسير في الإسلام. يوم أقرها الإسلام وشرعها لم تكن هناك اتفاقيات لا في جنيف ولا في غيرها، بل شرعها الإسلام يوم كانت البشرية غارقة في ظلام دامس. بل إنه بعد تنظيم مجموعة من الوثائق المتعلقة بحقوق الإنسان، من اتفاقية جنيف للأسرى، واتفاقيات حقوق المدنيين في النزاعات المسلحة وغيرها من الاتفاقيات، ما زالت كرامة الإنسان مرهونة برغبة القوي وهواه. فهذه أميركا حتى يومنا هذا ترفض توقيع بعض المعاهدات المتعلقة بجرائم الحرب، وما زالت تعتقل المتهمين في أسوأ الظروف في غوانتانامو وأبو غريب وتسومهم سوء العذاب، وقد ظهر من ذلك ما يندى له الجبين.
 


(1) الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، مادة "أسر".
(2) القاضي ابن البراج، المهذب، ج‏1، ص‏310.
(3) الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، المبسوط، ج‏2، ص‏13.
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع