علي كريِّم
"يا عماد من لا عماد له، يا ذخر من لا ذخر له، يا سند من لا سند له..." كلمات كانت أنساً له في وحشته وبلسماً في وحدته، لطالما لهج لسانه بها، فباتت فيض وصال، تعينه على اجتياز مراتب القرب، وتشحذ همته لتقوژى كلما خبت، أوليست هي نفسه التي قد عاهدت ربها على خلوص النية وسلوك أقرب الطرق إلى رضوانه؟ أوليست هي التي خرجت مهاجرةً إلى اللَّه ورسوله ونصب عينيها "إني ذاهب إلى ربي سيهدين"؟
عقد عزمه، وبايع ربه، وفوض أمره إليه، فأياً تكن العاقبة إن لم يكن باللَّه عليه غضبٌ فلا يُبالي... من هنا كانت مسيرة الأسير المحرر الحاج فوزي محمد أيوب . الحاج فوزي (أبو عباس) من مواليد زقاق البلاط بيروت في العام 1966 متأهل وله ثلاثة أولاد. قضى بضع سنوات في سجون العدو وتحرر بتاريخ الثامن والعشرين من كانون الثاني في إطار عملية التبادل الأخيرة. مع الحاج فوزي، تحار من أين تبدأ، وتتوه معه في أحداث كثيرة عايشها، تختصرها الآية القرآنية "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا". منذ صغره، كان كثيراً ما يرى في عالم الرؤيا أنه في فلسطين المحتلة يعيش في أزقتها، بل أكثر من ذلك، كثيراً ما كان يرى في عالم الرؤيا أن المجاهدين قد دخلوا فلسطين فاتحين للقدس بثياب الجهاد، إلا أنه يرى نفسه بثياب مدنية قد دخل وفي مهمات خاصة. كان ينتظر بفارغ الصبر أمر ذهابه إلى تلك الأرض المباركة. قُبيل ذهابه في مهمته إلى فلسطين بأسبوع التقى بالأسير المحرر بلال دكروب والذي كان قد تحرر حينها، ليحدثه عن السجون الإسرائيلية والمعتقلات، والتحقيق والتعذيب وعن الكثير من الأحداث التي عايشها في المعتقل، أدرك بعدها الحاج فوزي أن ذلك لطف من اللَّه وكأنه يهيؤه لسنوات سيلقى فيها ما قد لقيه.
على إثر دخوله فلسطين صلى ركعتين للَّه سبحانه وتعالى طالباً منه التوفيق وأن يرزقه خيراً في طاعته، ومع سماعه لخبر عملية المقاومة بأسر الجنود الثلاثة، اشتدت عزيمته وكانت بمثابة اللطف الإلهي الذي قوّاه على أداء ما قد ذهب لأجله... ينقل الحاج فوزي لحظات أسره، عندما كان مع مجموعة من الأخوة الفلسطينيين في مبنى قد حاصرته قوات الاحتلال وبدأت بإطلاق النيران فاستشهد أمامه مجموعة من الأخوة الفلسطينيين برصاص القناص الإسرائيلي الذي استعمل حينها رصاص الدمدم المحرم دولياً والغريب حينها وليس بغريب على العدو أنه كان يطلق النار على الفلسطيني بعد أن أجهز عليه ويتركه ينزف حتى الموت دون أن يحرك ساكناً تجاهه، وأمام ناظري أبي عباس، حتى ارتسم ذلك المشهد في مخيلته حتى اليوم، لينقل فيه أبشع صور العدوانية لدى الصهاينة. عند تلك اللحظات، توقع الحاج فوزي أن اللحظات القادمة ستكون صعبة، ولكنه لم يغفل عن ذكر اللَّه، إيماناً وتسليماً بأن اللَّه سينصر المؤمنين ويوهن كيد الكافرين، ومع بداية التحقيق والذي امتد فترة 4 أشهر في حين أنه لا يجب أن يتجاوز الثلاثة، كانت اللحظات عصيبة ولم يكن هناك راحة بالمطلق، فاليدان والرجلان مكبلتان بالكرسي المثبت بالأرض ولم تُفك إلا لساعتين طوال النهار لأجل الصلاة أو الأكل.
أيام طويلة قضاها بالكاد تغفو عيناه للحظات بسيطة، حتى أنه لم يكن ليُظهر غلبة النعاس عليه أمام العدو حتى لا يبدو أنه يشعر بالضعف أمامه. وفي اللحظات التي يكاد أن يشعر فيها ببعض الضعف يمده اللَّه بقوة وعزم أكثر من ذي قبل. أربعة أشهر بين التحقيق والعزل التام والعذاب النفسي ومع ذلك كله، كانت أحب الأوقات إليه عندما يسجد شكراً للَّه لأن ما يجري هو بعين اللَّه وطاعته، فبات يوماً بعد يوم أكثر صلابة إلى حد بدأ يسخر من العدو أثناء التحقيق... بعد الأشهر الأربعة الأولى، تم نقله إلى زنزانة الشيخ عبد الكريم عبيد والحاج مصطفى الديراني، دون علمه المسبق بذلك، ومع دخوله إليها، كانوا يقيمون الصلاة فالتحق بهم، وكانت لتلك اللحظات نقطة التحول الكبيرة في الأسر، إلى حد نسي معه الحاج فوزي بأنه أسير، فلفترة طويلة لم يكن قد توفر بين يديه كتاب مفاتيح الجنان والصحيفة السجادية، وما أن وصل زنزانة الشيخ احتضنهم طويلاً، وكأنه استرجع أغلى ما لديه، ليس ذلك فقط بل الكثير من كتب أهل البيت عليهم السلام إضافة إلى نهج البلاغة الذي قرأه أكثر من مرة وهو لطالما تمنى سابقاً أن يقرأه ولو لمرة واحدة.
وعلى إثر مشكلة حدثت في السجن حاول العدو الايقاع بين الحاج فوزي وبين الشيخ عبيد وتم فصله إلى سجون العقاب وهي سجون أعدت خصيصاً لمعاقبة المعتقلين بغية تحقيق مآرب ما، يمكث فيها المعتقل مدة أسبوع فقط، ولكن لشدة حقد الصهاينة، بقي أبو عباس مدة ثلاثة أشهر فيها وهي سجون مظلمة تملأها الحشرات وبجوارها كلاب لا تتوقف عن العواء ليل نهار، ومع ذلك كله كان اللَّه يمده بعون هو نفسه يعجب منه الآن: كيف كان يواجه العدو حينها، حتى أن مدير السجن كان يمر عليه كل أسبوع مرة علَّ الحاج فوزي يترجاه ليخرجه من ذاك السجن ولكن هيهات أن تضعف نفسه أمامه. كان في الليل العبد الذليل الخاشع للَّه سبحانه وفي النهار الطود الشامخ الذي لا يأبه بالعدو وترهيبه. وأكثر ما آلمه حرمانه من كتب أهل البيت عليهم السلام إذ أنه لم يعد إلى غرفة الشيخ بل نُقل إلى زنزانة بحجم سرير نوم ليبقى فيها إلى حين الإفراج عنه.
وعلى الرغم من بقائه بمفرده إلا أنه لم يكن يشعر بالوحشة أبداً، فاللَّه دائماً يؤنسه وكثيراً ما كان يرى الشهداء في منامه فيستبشر بهم خيراً، وكثيراً ما كانوا يدلونه على أمور وعلى أفعال تتيسر معها حاجاته داخل السجن دون أيحتاج إلى أحد من الجنود. كانت لطائف اللَّه سبحانه وتعالى يراها مع كل يوم جديد في السجن ولم يشعر يوماً أنه لوحده، حتى إذا مرت الأيام واقترب موعد انجاز التبادل بعد أن كان الحاج فوزي قد استبشر خيراً منذ أن أطلق العدو جثتي الشهيدين عمار حمود وغسان زعتر، ومن خلال متابعته للأخبار عبر راديو صغير استطاع تهريبه، كان دائماً يشعر بأن اللَّه سبحانه وتعالى لا يمكن أن يترك عباده وحدهم، فاللَّه سبحانه وتعالى يُري عبده المؤمن بعض الفرج، ليظل قلبه متعلقاً به ولا تغلق الأبواب كلها في وجهه. وعاد إلى لبنان، يغمره الشوق لرؤية أولاده عباس، محمد، وعلي بعد غياب لسنوات، وزيارة قبور الشهداء، الذين لم يفارقوه يوماً في سنوات أسره فقد كانوا على الدوام العون والمرد له، والسلوى في الليالي المظلمة. ها هو الحاج فوزي أيوب اليوم بيننا وهذا شيء من قصته مع فلسطين التي لطالما عايشها في رؤياه منذ صغره، وجلَّ ما حصده من كل ذلك معايشته آيات اللَّه سبحانه وتعالى في قلبه، وها هو اليوم ينصح المجاهدين بأن لا يهابوا الشدائد وأن في العلاقة مع اللَّه تعالى تجارة لن تبور بل وخير حصادها، فها هو قد دخل فلسطين غازياً وعاد بنعمة اللَّه واللَّه عنده دائماً حسن الثواب.