علي كريّم
إلى ربوع الوطن عاد منتصراً، يطوي سني الهجر وينفض غبار الأسر... وفي البقاع تصطف الجموع، تُسرجُ لمقدمه الشموع فها مشغرة قامت لتبارك عودته تصدح فيها المآذن وأجراس الكنائس... ويمضي إلى ميدون يحمل السلاح ليجدد العهد ويحفظ الوعد.. ويبرم القسم من جديد.. للَّه ولكل شهيد. ستة عشر عاماً في الأسر، لم تفت من عزيمته، ولم تنل من صلابته وهو الحاضر في ساحات المقاومة منذ الطلقات الأولى. ولطالما حلم بالشهادة... فكان الشهيد الحي والقائد والجريح والأسير... بل ورسول المقاومة وسفيرها في زنازين الأعداء... الأسير المحرر حسن محمد العنقوني (أبو يحيى) من مواليد بلدة مشغرة في البقاع الغربي في الخامس من تشرين الثاني عام 1960، متأهل وله ولدان، أُسر بتاريخ الرابع من أيار عام 1988، إثر المواجهة البطولية التي خاضتها المقاومة الإسلامية في بلدة ميدون البقاعية والتي كان قد تهجر أهلها بفعل الإعتداءات الصهيونية المتكررة عليها...
* ميدون 1988
في أولى ليالي القدر المباركة (كانت الساعة تشير إلى الثانية فجراً من يوم 4-5-1988) تسلل العدو الصهيوني إلى البلدة بعد قصف مركز عليها إمتد لأربعة أيام، وبحكم قيادته لمجموعات المقاومة في ذلك المحور، قام أبو يحيى بتوزيع المهام على المجاهدين لتطويق العدو، بهدف أسر جنود صهاينة، ولكن خشية من كشف مجموعة أخرى للمجاهدين قدمت إلى المنطقة أوعز أبو يحيى إلى المجاهدين بفتح النيران، وعلى مسافة لم تتجاوز الخمسة أمتار سقط 10 جنود متسلِّلين بينهم قائد مجموعتهم، فبدأ القصف المدفعي للدبابات حيث تدخلت 4 مروحيات في المعركة، فاستحالت ميدون نهاراً بفعل ضراوة المواجهات والتي استمرت حتى الثامنة صباحاً. وعلى إثر إصابة ابن أخيه والذي استشهد في المعركة حاول أبو يحيى التوجه إليه، ولكن عاجله جنود العدو بطلقة ماغ أصابت فخذه وأخرى M61 أصابت قدمه، فشعر عندها بصعوبة الإصابة. حاول الاتصال برفاقه ولكن أجهزة التشويش للعدو حالت دون ذلك، حاول الزحف باتجاههم لكنه ما لبث أن غاب عن الوعي ولم يستيقظ إلا عند حاجز السريرة في داخل الشريط المحتل حيث رأى مجموعة من جنود العدو والعملاء يحيطون به ويوجهون أسلحتهم تجاهه، لم يجد سلاحه إلى جانبه ويداه مكبلتان فأدرك حينها أنه قد سقط أسيراً في يد العدو الصهيوني، وهو الذي كان سابقاً يحذر رفاقه المجاهدين من السقوط في الأسر، ولكن شاء اللَّه أن يكرمه لأداء رسالته الجهادية في ميدان آخر، ومع ذلك كان ينتظر الشهادة هناك بين لحظة وأخرى وهو بين يدي عدو لا يتورع عن فعل شيء، ولم يكن للحظة يفكر بسنوات أسر قد تطول 16 عاماً...
* وما وهنت عزيمته
على إثر العملية التي سقط فيها للعدو بإعترافه 20 قتيلاً و27 جريحاً حاول العدو، مستنفذاً السبل كافة، لمعرفة طريقة عمل المقاومة في تلك المنطقة وعدد المجاهدين فيها، فاعتقد أنه بأسر أبي يحيى العنقوني سينال مبتغاه ولكن هيهات أن ينال شيئاً، فأبو يحيى الصابر المجاهد المحتسب عند اللَّه أجره والمنتظر لشهادته، كان دائماً يجيب العدو بعبارة لا أعرف وهذا ما كان يدفع العدو لإيذائه بضربه على قدمه المصابة، فلم يسمع منه سوى صرخات التكبير بل وأكثر من ذلك، فقد كان ينكر على محققي العدو أشياء مسلَّمة لديه ويُفند كافة معلوماتهم حتى أنه كان يطالب بالإتيان بجهاز كشف الكذب لتأكيد صحة قوله فيشن بذلك هجوماً مضاداً على المحقق. وكثيراً ما كان العدو يمنن أبا يحيى بأنه هو الذي أحياه بعد أن كان ميتاً، فيكون الجواب بعقيدة راسخة وقلب مطمئن بأن اللَّه هو الذي أحياني فبيده الموت والحياة وهو القادر على كل شيء... وبعد نقله إلى داخل فلسطين المحتلة بقي لفترة 3 أشهر في سجن انفرادي حيث كانت تُمارس بحقه أبشع أنواع التعذيب والإذلال والقهر ولكن ما وهنت عزيمته يوماً وما انكسر عنفوانه الأبي ولو للحظات، فالشهادة كانت أمنية أبي يحيى على الدوام، والتهديد بقطع قدمه لم يتوقف، ولكن لم يكترث له أبداً...
* سفير المقاومة
بعد انتقاله إلى سجون التوقيف، أدرك بأن هناك رسالة، لا بد من أدائها، خاصة مع وجوده بين الأسرى الفلسطينيين وكانت الانتفاضة لم تزل في بداياتها، فكانت رسالته المقاومة، من خلال شرح طبيعة عملها وكيفية إعاقتها لمخططات العدو بالإضافة إلى شرح تفاصيل بعض العمليات والتي شعر معها الفلسطينيون بالعزة والقوة والقدرة على مواجهة العدو، حتى باتوا يلاحقون أخبار عمليات المقاومة فإذا كانت هناك عملية جديدة بادروا إلى سؤال أبي يحيى عن طبيعة الموقع المُهاجم وعن أداء المقاومة وقدرتها في ضربه... بل وأكثر من ذلك، فبعد أن أمضى تلك الفترة الوجيزة في سجون التوقيف تم نقله إلى سجن عسقلان حيث أمضى فترة 11 سنة فيه، لقي فيه استقبالاً حاشداً، إذ كان الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي والذي كان معتقلاً في ذلك السجن حينها قد تحدث إلى الأسرى عن عملية ميدون وأهميتها وقدرة المقاومة على تكبيد العدو خسائر جمَّة، فكيف إذا كان قائد العملية أصبح موجوداً بينهم وهذا ما انعكس بشكل إيجابي على معنويات الأسرى الفلسطينيين بل وازداد تقديرهم واحترامهم للمقاومة وجهادها... لقد أدرك أبو يحيى (هو ومن معه من الأخوة مجاهدي المقاومة الإسلامية الأسرى) أن عليهم واجباً لا بد من أدائه بل ورسالة لا بد من إيصالها لاستنهاض الهمم وشحذ النفوس، لقد كانوا حقاً سفراء المقاومة داخل الزنازين، فلطالما عقدوا الجلسات لتنظيم العمل والتحركات والمطالبة بالحقوق وتحسين أوضاع المعتقلين وعلى الرغم من قلة عددهم الأسرى اللبنانيين إلا أنهم عاصروا آلاف المعتقلين الفلسطينيين الذين كانوا يمضون فترات تتفاوت مدة الاعتقال فيها، لذا كانوا دائماً يرون وجوب إيصال رسالة المقاومة إلى أكبر شريحة ممكنة، ومعها باتت تكبر الثقة بالمقاومة يوماً بعد يوم، حتى بات المعتقل الفلسطيني يجزم بأن المقاومة الإسلامية وحدها هي القادرة على تحريره من الأسر... بعد 11 سنة تم نقل المعتقلين اللبنانيين إلى سجن نفحا في صحراء النقب والذي يحوى 850 أسيراً فلسطينياً وكانوا يتبدلون باستمرار، فكانت الحكمة الإلهية في ذلك في حمل رسالة المقاومة وإيصالها لأعداد كبيرة من الفلسطينيين. هذا كله على الرغم من التضييق المجحف من قبل العدو بحق الأسرى فلطالما وصلت لأبي يحيى رسائل من عائلته، يكون العدو قد شطب بعض الكلمات منها أو مزق جزءً من الورقة، إمعاناً في قهره وإضعافه بل وصلت به الأمور إلى حد تمزيق المصاحف ودهسها بالأقدام، هذا وأبو يحيى يتعاطى مع العدو بصلابة الطود الشامخ غير الآبه لكل مخططاته ومكائده.
* في ميدون مجدداً
حتى إذا كان التحرير في أيار من العام 2000 ومع كلمة سماحة الأمين العام السيد حسن نصر اللَّه ووعده بتحرير الأسرى، استبشر أبو يحيى ومن معه خيراً، وعرف كيف يستفيد من ذلك الحدث لتعبئة الفلسطينيين المعتقلين وكسر هيبة الإسرائيلي، ومع عملية أسر الجنود الثلاثة ازداد اليقين يقيناً والعزم إصراراً على متابعة ما قد بدأه داخل المعتقل، ويروي أبو يحيى كيف أن المعتقلين داخل السجن قد علموا بخبر العملية عبر متابعتهم المتواصلة لمحطات التلفزة وذلك قبل مسؤول السجن والجنود فيه، فلما علت الصيحات والتكبيرات من كافة الزنازين، أتى مسؤول السجن وجنوده لمعرفة سبب ذلك، فتم إبلاغهم بالنبأ من قبل المعتقلين، فكان له وقع الصدمة عليهم... وها هو اليوم قد أزهر سقاء الدم، وأثمر غرس الجهاد الذي زرع أبو يحيى ورفاق دربه في سني المقاومة الأولى بذوره، فرفاق الدرب منهم من قضى نحبه ومنهم ما زال حاضراً في الميدان ينتظر الوعد الإلهي. لقد عاد أبو يحيى وأبى إلا أن يذهب إلى حيث سطرت المقاومة كبرى ملاحمها، إلى حيث تمنى الشهادة، على أرض ميدون، حاملاً سلاحه، مرتدياً ثياب الجهاد ليجدد العهد للَّه ورسوله صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام، للشهداء والجرحى والأسرى وقيادة المقاومة بحفظها والسير على خطى السلف الصالح حتى تحرير الأقصى الشريف، ولا ينسى أن يتوجه إلى مجاهدي المقاومة الإسلامية وكل الشرفاء والأحرار بأن لا ينسوا دماء الشهداء الذين ساروا على نهج الحسين عليه السلام، أن يبقوا الأوفياء لهم ولخط ولاية الفقيه الذي رسم معالمه الإمام الخميني الراحل والأوفياء لقيادة المقاومة ومجاهديها... هنيئاً له ذلك العطاء المتفاني في مرضاة اللَّه، مباركٌ لنا وجوده اليوم بيننا، لَحَقّ إنها ودائع اللَّه اختزنها رحمة لعباده، وآيات من نور تسرج دروب النصر والعزة والإباء.