علي كريّم
مع بدايات عمره التمس طريقاً للجهاد، وأذاق الأعداء بعضاً من بأسه حتى إذا تأذوا بناره، صنعوا له الكيد ليطفئوها، ولكن نوره لم ينضب يوماً ولم يخبُ... عصيبة هي سنوات بعده، تُحاك من وجع الأيام، يسرجها النور الذي يأبى اللَّه إلا أن يتمه، ويحدوه أمل اللقاء بابنته التي أطلت بعيداً عنه، لكن اللَّه بلطفه يسترجع وديعته، فحمداً لك يا رب على ما أعطيت وما أبليت، فما صنعت بنا إلا خيراً... بضع كلمات تختصر حكاية الأسير المحرر جواد علي حسين قصفي، تُخبر عن مسيرة جهاد، خطها بقوة الإيمان والسلاح وبسنوات أسر لم تفت يوماً من عزيمته، ولم توهن صلابته، مع ما حباه اللَّه برحمته وإختزن له يوم لقائه من شفاعته... الأسير المحرر من مواليد السلطانية في الأول من نيسان للعام 1962، متأهل، وله ابنة واحدة، وُلدت وتوفاها اللَّه ولم يرها يوماً إلا في بضع صور.
* عمل المقاومة قبل الأسر
في العام 1985، ومع انسحاب العدو الإسرائيلي من بعض قرى الجنوب، كانت بعض تلك القرى تعيش هاجس الصراع مع اليهود، والناس لم يكونوا بعد مهيئين للقتال بشكل واسع، عمل جواد على تشكيل خلايا مقاومة انطلاقاً من بلدته، مع إمكانيات بسيطة ومتواضعة، ولكن بفضل اللَّه انطلق العمل وبقوة تجاه المواقع الإسرائيلية والعملاء، حتى بات جواد قصفي إرهابياً يجب تصفيته كما زعم العدو حينها... خطط وشارك في العديد من العمليات والتي أزعجت العدو حينها كثيراً بل والعملاء أيضاً إلى حد بات معه جواد مسؤولاً عن مقتل وحرج حوالي 70 من جنود الاحتلال والعملاء... لم تكن معاناته حينها فقط مع قوات الاحتلال، بل وأيضاً مع عناصر قوات الطوارئ الدولية الذين كثيراً ما أعاقوا تحركاته هو والإخوة المجاهدين معه، فلم يسكت حينها جواد وأرسل إليهم أكثر من رسالة تهديد، فانكفأوا عنه، ولكنهم ادخروها له... استطاع بهمته وإيمانه باللَّه أن يؤسس لروح المقاومة وعملها في السلطانية وجوارها حتى بات معروفاً لدى الصديق والعدو من هو جواد قصفي...
* الأسر:
مع مضي السنوات الأولى من عمله وتنفيذه للعديد من العمليات النوعية أُخبر جواد قصفي من مسؤول من المقاومة في الجنوب حينها أن العدو وقوات الطوارئ الدولية يريدون أذيتك بقتل أو أسر، لذا ابتعد لأيام عن المنطقة، ولكن حركته بقيت مراقبة من قبل العدو وعملائه. إلى أن كان ذاهباً إلى أحد أصدقائه في إحدى القرى الجنوبية في قضاء صور بتاريخ 14 12 1988 الساعة 30,9 صباحاً وبعد أن عاد من مدينة صور إذ كان يراجع الطبيب بخصوص حمل زوجته، وخلال تفقده للمزروعات في إحدى الخيم البلاستيكية لصديقه سمع صوت سلاح وأحد الجنود يصرخ "جيش أمن الدفاع، الجميع ينبطح". لم يكن يدرك في تلك اللحظة حقيقة ما يجري، سأل الجندي، من هو جواد قصفي فأجابه فعاجله بإبرة مخدر في فخذه لم يستفق منها إلا في بنت جبيل وقد كان معصب العينين هو ومن كان معه في الخيمة. (الأسير المحرر يوسف وزني). أدرك حينها أن الأمر غير طبيعي وأنه وقع أسيراً في أيدي العدو الإسرائيلي الذي كان لديه تقرير من قوات الطوارئ الدولية يفيد بأن جواد إرهابي يجب أن يوضع حد لعمله العسكري...
* داخل المعتقل:
بعد يومين من الاعتقال في بنت جبيل، نُقل جواد قصفي إلى سجن المخابرات العسكرية في الصرفند داخل فلسطين المحتلة، ليمكث أكثر من 5 سنوات في سجن إفرادي لا يتحدث ولا يتواصل فيه مع أحد ودون محاكمة. أكثر من 5 سنوات لم يعرف فيها سوى التحقيق، والمقومات البسيطة جداً التي كانت بين يديه (أبريق 3 حرامات فرشة صحن للأكل)، وقبل ذلك كله طاعة ربه ورضوانه، من أداء للصلاة الواجبة والقضاء والتلاوة لكتاب اللَّه تعالى، بالإضافة إلى رسالتين من زوجته... وخسر في تلك الفترة الكثير من وزنه إلى حد لم يعرفه أحد الجنود الخاطفين حين رآه بعد 4 أشهر... بعد خمس سنوات، حُكم على جواد بالسجن المؤبد لحمله السلاح ضد العدو وقتله للعديد من جنوده عدا العملاء. وعلى إثر اعتقال الحاج أبو علي مصطفى الديراني، نُقل جواد إلى سجن عسقلان، فكان ذلك بمثابة الانتقال من الجحيم إلى النعيم، حيث التقى بالأسرى اللبنانيين هناك. لكنه لم يجتمع معهم إذ بقي ثلاث سنوات في عزل تام قبل انتقاله إلى السجون الجماعية والتي بقي فيها إلى حين انجاز عملية التبادل مع بداية العام 2004.
* قصته مع جميلة
كل ما يرويه جواد عن قصته مع الأسر لا يساوي قطرة في بحر قصته مع ابنته جميلة. فجميلة جواد قصفي، ابنة الإثني عشر ربيعاً أطلت على الدنيا وغادرتها دون أن ترى والدها يوماً ودون أن يراها هو أيضاً... فبعد عام كامل من اعتقاله وعبر رسالة إليه من زوجته علم جواد أنها قد وضعت أنثى وأسمتها جميلة. راح عندها يفكر في ابنته كثيراً، كيف هي ماذا تفعل، كيف تمضي الوقت... الخ، وكأنه يُحدث نفسه عن عالم الغيب... وبعد عامين ونصف وصلته رسالة عبر الصليب الأحمر مع صورة لجميلة، فكانت المرة الأولى التي يرى فيها صورة ابنته، ولكن لدقائق معدودة، سأله أحدهم عندها عن اسمها فأجابه: جميلة، فقال: اسم على مسمى... 3 دقائق فقط أمعن كثيراً في الصورة ثم انتزعوها منه، فكانت الصورة الوحيدة في السنوات الخمس الأولى من الأسر... في فصل الصيف ولشدة الحر، كان العدو يجري المياه على أرض السجن لتبريد الجو، فيخال جواد ابنته وكأنها تسبح وتلعب بالماء أمامه. وفي أيلول من العام 1994، بعثت جميلة له بأولى رسائلها والتي كتبتها بخط يدها مع صورتين لها عبر الصليب الأحمر. عندها بدأ يحتفظ بصورها ورسائلها وأشرطة الكاسيت التي كانت ترسلها، ولكن هذا الأمر لم يُحدث التقارب الفعلي مع جميلة بقدر ما حصل منذ أيلول 1998، فمع تهريب أجهزة الخلوي إلى المعتقل، بدأ ينشأ تقارب مميز بين الأب وابنته، تحدثه ببراءة الطفولة الممزوجة بلهفة الشوق إلى الأب الغائب، ويجيبها بصوت الأب العطوف الممتلئ فؤاده عشقاً وحباً لابنته البعيدة عنه. لم تخبر الأم الأب عن حال جميلة الصحي، خشية أن يعيش همها فما هو فيه يكفيه، إذ قالت له بأن جميلة تعاني من بعض التهابات في الرئة، ولدى سؤاله لجميلة عن رئتيها في إحدى المكالمات، قالت بأنها ليس لديها مشكلة في رئتيها ولكن المشكلة في الكليتين، عندها بدأت الأمور تجول في خاطر جواد ويساوره الخوف والقلق تجاه حال ابنته...
ومع انكشاف أمر الخلوي من قبل العدو، انقطعت الاتصالات فترة 3 أشهر، أرسلت خلالها جميلة برسالة إلى والدها تُخبره فيها بأنها قد نجحت في المدرسة وأنها قد بلغت عمر 12 سنة قبل عاشوراء بيومين، وأقامت عيد ميلاد، واعدةً إياه بأنه آخر عيد ميلاد ستحتفل به بعد أن أدركت بأن أهل البيت عليهم السلام هم أصحاب الفرح والسرور الحقيقي ولأجلهم تقام الأعياد وكذا العزاء فهم أهل العزاء الحقيقي، فنحتفل لأعيادهم عليهم السلام ونحزن لمصائبهم عليهم السلام. وحقاً لقد كان آخر عيد ميلاد تعيده، وكأنها قرأت بين جنبات حياتها بأن أيامها باتت معدودة، ولكم كانت تتمنى رؤية والدها قبل ذلك، فهي التي بدأت تحدث نفسها عن كيفية استقبال والدها في المطار على اثر اعتقال المقاومة للجنود الثلاثة في مزارع شبعا، فلم تسعها الفرحة حينها وقد حسم الأمر لديها بأن والدها خارج لا محالة... ومع توالي الأيام، كان حال جميلة يزداد سوءاً، والأب الغائب الصبور يتابع وضع ابنته لحظة بلحظة، يحدثها ليخفف من روعها وينسيها الألم، ففي الأشهر الستة الأخيرة من عمرها دخلت المستشفى أكثر من مرة ولفترات تجاوز بعضها الشهر...
ولكن عند فجر يوم التاسع عشر من تشرين الأول لعام 2001، وبعد أدائها لصلاة الصبح، أخبرت جميلة والدتها بأن وجعاً مؤلماً ينتابها، وهي المرة الأولى التي تبدي فيها تلك الحالة، وما هي إلا لحظات حتى فاضت الروح إلى بارئها تحملها الملائكة على أجنحة الرحمة الإلهية، لتودعها في جنان الخلد، ويسترجع اللَّه وديعته الجميلة، دون أن ترى أباها، وهو الذي اعتراه الأسى، لكنه بات شاكراً للَّه على ما أعطاه برحمته، واستودعه يوم لقائه لتشفع له ولأمها، فلم ير صنع اللَّه به إلا خيراً... لم يفكر يومها بابنته بقدر ما فكر بزوجته، وهي التي ملأت دنياها بوجود جميلة، فلقد باتت اليوم وحدها، فلقد غابت عنها نسمة الحب التي تملأ دنياها كل يوم بعبق الشوق، ووردة العشق التي تتفتح معها أنسام الوصال... ومع عودته إلى بيروت مساء الثامن والعشرين من كانون الثاني، ولدى رؤيته لأبناء الأسرى كيف يحتضنون آباءهم، شعر حينها حقاً بقيمة الابن. وكلما رأى أحدهم يتلهف للاطمئنان على والده، حمد اللَّه وشكره، فلقد كان هذا قدره الذي قدَّره... عند علمه بقرار العودة إلى الوطن، شعر وكأن الأيام الستة عشر الأخيرة (منذ إعلان إتمام الصفقة) وكأنها بمقدار سنوات الأسرى الخمس عشرة السابقة، ولكن في مطار بيروت وكأن سنوات أسره كلها كانت خمس عشرة ثانية لا أكثر... عصي على الرضوخ، محتسب عند اللَّه أجره، يتعب التعب منه وهو لا يتعب، ينسج ألواناً للصبر، وجلّ همه رضا رب العالمين، وعند كل بلاء يشكر اللَّه على نعمه، فلا شيء يُقلق طالما أنه بعينه تعالى...