سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)
البكاء على فراق مَن نُحبّ أمرٌ فطريٌّ وطبيعيٌّ. وعليه، إنّ استنكار بعضهم البكاء على فَقد قريبٍ أو عزيزٍ أو حبيبٍ أو صديقٍ، بحجّة أنّ هذا البكاء اعتراضٌ على المشيئة الإلهيّة والقضاء الإلهيّ، هو استنكارٌ غير صحيح وغير مقبول. فالبكاء لا يتنافى على الإطلاق مع التسليم لمشيئة الله، بل يجتمع معه. وسيتناول هذا المقال ظاهرة البكاء على الإمام الحسين عليه السلام كمورد لاجتماع البكاء والحزن مع الرضى الإلهيّ، ونعرّج على زيارة الأربعين.
•"إنّ العين تدمع"
إنّ نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم -الذي هو قدوتنا وأسوتنا ومبلّغُ الشريعة الإلهيّة، ولا أحد يستطيع أن يكون مسلماً أو متشرّعاً أكثر منه صلى الله عليه وآله وسلم- عندما توفّي طفله الصغير إبراهيم، دمعت عيناه وبكى، وقال: "إنّ العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلّا ما يُرضي ربّنا، وإنّا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون"(1).
لقد كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يحزن ويبكي ويذرف الدموع لوفاة أو استشهاد بعض أصحابه صلى الله عليه وآله وسلم. وقد نقل لنا التاريخ أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد مشى في جنازة بعض أصحابه حافيَ القدمين، حاسرَ الرأس. وكذلك بكى صلى الله عليه وآله وسلم عندما جاءه خبر معركة مُؤتة -وهي معركة كانت قد شهِدت بطولات عظيمة جدّاً- واستشهاد قادتها: جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة.
ويذكر التاريخ أيضاً أنّ الإمام الحسين عليه السلام قد بكى في كربلاء لفقده ابنه، وأخاه، وابن أخيه، وأهل بيته، وأصحابه. وهذا أمر طبيعيّ؛ لأنّ الإمام الحسين عليه السلام إنسان كسائر الناس، وبكاؤه لا يتنافى مع الصلابة والقوّة، والعزم، والثبات. هذا، فضلاً عن أنّ نفس الإمام الحسين عليه السلام قد سَمَت ووصلت إلى تلك المرتبة العظيمة من القيم والمشاعر والعواطف الإنسانيّة، فإنّها تتأثّر بشكلٍ أقوى لما أصاب أهل بيته وأصحابه.
•بكاء عشقٍ وعاطفة
إنّ الإنسان يبكي بطبيعته، ليس بسبب فَقد عزيز فقط، بل حتّى عند حدوث كوارث طبيعيّة، بل وبعضهم يبكي في ملعب كرة القدم عند خسارة فريقه، ولا يستطيع أن يمنع نفسه من البكاء؛ لأنّه يحبّ النادي الذي يشجّعه حبّاً جمّاً. أمّا مسألة البكاء على الإمام الحسين عليه السلام، فثمّة أمر مميّز وخاصّ، وهو أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم -بإجماع المسلمين- كان يخبر، عن الله عزّ وجلّ، عن كثير من الأحداث التي ستحصل في المستقبل. ومن جملة ما أخبر به صلى الله عليه وآله وسلم أنّ حفيده الإمام الحسين عليه السلام سيُقتل، في الوقت الذي كان فيه الإمام الحسين عليه السلام ما زال صبيّاً صغيراً وهو بين يدَيْ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي حجره. وعندما يُخبر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، تدمع عيناه ويبكي الإمامَ الحسين عليه السلام حبّاً وعشقاً وعاطفةً.
•معجزةٌ خالدة
ورد في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: "نظر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحسين بن عليّ عليهما السلام وهو مقبل، فأجلسه في حجره، وقال: إنّ لقتل الحسين حرارةً في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً، ثمّ قال [الصادق] عليه السلام: بأبي قتيل كلّ عبرة. قيل: وما قتيل كلّ عبرة يا بن رسول الله؟ قال: لا يذكره مؤمنٌ إلّا بكى"(2).
والشاهد اللّافت هنا في كلام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه كيف يمكن لإنسان بهذه الثقة واليقين أن يخبر عن أنّ هذا الصبيّ الصغير الذي يُجلسه في حجره، سيُقتل وقد قُتل عليه السلام؟ وفي رواية أخرى يحدّد صلى الله عليه وآله وسلم المكان الذي سيُقتل فيه حفيده الإمام الحسين عليه السلام. هذا أوّلاً.
وثانياً، وهو أمرٌ أعمق وأقوى، وهو كلامٌ لا يصدر إلّا عن نبيّ؛ إذ لا يمكن للإنسان أن يخبر عنه نتيجة تحليله للأوضاع والظروف. هذا الأمر هو أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد أخبر -وهو في مكّة قبل 1400 عام، وفي وسط الصحراء- عن أمرٍ سيبقى إلى يوم القيامة، وهو أنّ حفيده الإمام الحسين عليه السلام الذي سيُقتل، سوف يبقى إلى الأبد في قلوب المؤمنين، وسوف تبقى له في قلوبهم حرارةٌ، ولهفةٌ، وألمٌ، وحزنٌ. انظر إلى كلمته صلى الله عليه وآله وسلم: "حرارة في قلوب المؤمنين"، إنّها تأتي بالدموع والآهات والأحزان.
ولذلك نحن اليوم، وقد مضى على حادثة كربلاء (1380) سنة، ما زلنا وما زالت الأجيال تبكي الإمام الحسين عليه السلام كأنّه قُتل بالأمس. يزداد بكاؤنا عمقاً، ومعنىً، ودفئاً، وحرارةً، ونشعر بذلك كلّه في قلوبنا، نتيجة التجربة والتقدُّم في العمر.
•مشهدٌ مذهل ومحيّر
اليوم، عندما يؤتى بشهيد وقد حُزَّ رأسه، وتراه أمُّه أو أبوه، من المؤكّد أنّ مشاعرهما تجاه الشهداء الذين قُطّعت رؤوسهم في كربلاء ستكون مختلفة، وكذلك صبرهما وبكاؤهما سيكون مختلفاً.
إذاً، الفهم الذي لدى الناس عن واقعة كربلاء وما جرى فيها، ازداد عمقاً وتجذُّراً، وكذلك الحضور والتفاعل مع تلك الواقعة والبكاء على الإمام الحسين عليه السلام يزداد عاماً بعد عام. انظروا إلى هذا المشهد، في هذه الأيّام والليالي العشرة، خصوصاً في ليلة العاشر ويومه، من الصباح نجد الناس من قارات العالم كلّها، من المدن، والقرى، والبلدات، وأستطيع أن أجزم وأقول -من دون أيّ مبالغة- إنّ في هذا الزمن -ونتيجة الظروف والحريّات والأوضاع الأمنيّة المختلفة، والقدرة على التعبير عن الرأي- يجتمع مئات الملايين في يوم العاشر منذ الصباح، ويبكون بكاءً شديداً ومؤلماً وحزيناً على رجلٍ قد قُتل قبل (1380) سنة، هو وأصحابه، وسُبيت نساؤه. إنّه -بحقّ- مظهر مدهش ومحيّر، ويُذهِل أيّ إنسان غريب عن هذا الجوّ وعن هذه الثقافة.
•البكاء تعبيراً عن المودّة
إذاً، من أين كلّ هذا البكاء، وحرقة القلب هذه، وهذه اللّهفة الصادقة؟ أنحن نتصنّع هذا البكاء؟ عندما يبكي الناس ساعةً أو ساعتين، أهم يتصنَّعون ويمثِّلون؟ لا، بل هذا الحزن والبكاء حقيقيّان، إنّه إحساسٌ حقيقيّ بالثكل، وهو يأتي من المودّة: ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إلّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ (الشورى: 23). إنّه تعبيرٌ عن هذه المودّة، وهذا الحبّ، وهذا العشق لرسول الله ولآله وللإمام الحسين عليهم السلام.
•أربعون الإمام الحسين عليه السلام مَظهرُ العشق
هذه المودّة والعشق والحبّ تظهر في ذكرى أربعين الإمام الحسين عليه السلام، حيث يقصد الملايين من الناس من كلّ أنحاء العالم المدنَ العراقيّة: بغداد، أو البصرة، أو النجف، أو الحلّة، أو المدن القريبة من كربلاء، ليسيروا على أقدامهم إلى كربلاء. بعضهم يأتي من البصرة التي تبعد نحو 300 كلم عن كربلاء. هذا المشهد الذي يجسّده الشعب العراقيّ وغيره من الشعوب، يتمثّل في القوافل التي تسير يوماً أو يومين أو ثلاثة أيّام أو حتّى أسبوعاً على الأقدام، متّجهة نحو معشوقها الحسين عليه السلام.
أمّا ما الذي يدفع هؤلاء الملايين إلى الذهاب سيراً إلى كربلاء، فقد يقال إنّها الحماسة، ولكنّ الحماسة قد تدوم يوماً أو اثنين وتنتهي. وإذا قيل الدافع هو الرغبة في الثواب الأخرويّ، فلماذا لا توجد هذه الرغبة في الكثير من الأمور المتضمّنة للثواب الأخرويّ؟ إذاً، ما الذي أخذهم إلى كربلاء؟ الذي أخذهم إلى كربلاء هو هذا العشق، وهذا الحبّ، وهذا التقدير، وهذه اللّهفة، وهذه العلاقة العاطفيّة الخاصّة، وهذه المعرفة بعظمة هذا الرجل وقيمته ومقامه وتضحياته من أجل الإسلام والأمّة، وحبّاً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
عندما يذهب الناس إلى كربلاء، يذهبون إلى جزءٍ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والذي استمرّ دينُه وأمّتُه بفضل هذا الرجل، حفيده الإمام الحسين عليه السلام. إذاً، من لوازم هذا الحبّ والعشق، أن يذهب المحبّ مشياً إلى حبيبه، فيتحمّل المشقّات كلّها، صيفاً وشمساً وحرّاً، وشتاءً ومطراً وبرداً قارساً. ومن لوازمه أيضاً، التنظيم الذي نشهده في تلك المسيرات من قبل الناس، وخدمة بعضهم بعضاً، وتلك الموائد والضيافة التي توضع على محبّتهم عليهم السلام، وذلك التواضع في الخدمة... وعلى الرغم من الأخطار والعمليّات الانتحاريّة لا تزال الأعداد في ازدياد. هذه معجزة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم!
•بالبكاء تحيا القضيّة
أقول لكلّ مَن يناقش في أمر البكاء وسببه: نحن نبكي أمام العالم كلِّه، وسوف نبكي إلى قيام الساعة، وأجيالنا الآتية ستبقى كذلك، وإنّنا نفخر بذلك. وأنا أدعو الجميع وأقول لهم: ابكوا على الإمام الحسين عليه السلام. إنّ واقعة كربلاء بقيت حيّة إلى اليوم بهذا البكاء، وبهذه العاطفة والإحياءات، وهذا الذكر المتواصل.
في بكائنا نعبّر عن حبّنا ومودّتنا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولآله وللحسين عليهم السلام، ونجدّد بيعتنا للحسين عليه السلام أن نسير على دربه، ونضحّي كما ضحّى، ونصل إلى ما وصل إليه، ونُخلِّد هذه القضيّة وهذه الذكرى التي حاول بعد ذلك بنو أميّة وبنو العبّاس وكثيرٌ من طواغيت العالم أن يُميتوها ويمنعوها ويدفنوها، وأن تصبح ذكرى عابرة في التاريخ؛ إذ إنّ مَن كان يذهب إلى زيارة الإمام الحسين عليه السلام في زمن المتوكّل العباسيّ مثلاً، تُقطع يده ورجله، ويُقطع لسانه، ويُقتل. لقد دمّروا مرقد الإمام الحسين عليه السلام، وحفروا قبره عليه السلام، وحاولوا أن يدمروه بالطرق كافّة، حتّى ينسى الناس رجلاً اسمه الإمام الحسين عليه السلام، ولكنّهم فشلوا.
إنّ الإمام الحسين عليه السلام في هذا الزمن، وفي هذا العصر، أقوى حضوراً من أيّ زمنٍ مضى، وسيبقى كذلك.
(*) من خطبة لسماحته (حفظه الله) ليلة العاشر من محرّم الحرام، عام 2017م - 1439هـ.
1.مغني المحتاج، محمد بن أحمد الشربيني، ج1، ص356.
2.مستدرك الوسائل، الميرزا النوريّ، ج10، ص318.