ها هي ثورة سيد الشهداء عليه السلام ترسم لوحة مضمّخة بكل ألوان المعاني العظيمة، تنثر عبر صفحات التاريخ أقدس العبر، وتوقظ في الشيعة تعاليم الإسلام الحنيف: في جوهر وحيه وسرّ نهضته.
ها هي كربلاء تعلّم الناس أن الإسلام ثورة مستمرة على الظلم والطغيان، وحركة هادرة بوجه الشرك والجحود..
هي شجرة تسقى من ماء واحد وأكلها مختلف ألوانه، تتفجر في أوراقها ينابيع الحكمة والتضحية والفداء، وتزهر في كل أرض كربلاء وكل يوم عاشوراء.
إن سر هذه النهضة ولا شك، ليس في كثرة الأعداء ولؤمهم، ولا في طبيعة المعركة، وما آلت إليه، أو الجرائم البشعة التي ارتكبها الأمويون وأتباعهم، والحرمات التي هتكت والمقدسات التي دنست، لأن كل هذه ربما تكررت في التاريخ أو حدث ما هو شبيه لها عبر عصوره المظلمة من السفك والفساد.
ألا وإنَّ الدّعي ابن الدّعي قد ركز بين اثنتين، بين السّلة والذلّة... وهيهات منّا الذلّة.
السر كله هو في الحسين الإمام والأصحاب العظام والمخدرات الكرام، الذين رسموا أعظم لوحة من التاريخ، لم ولن يأتي مثلها أبداً.
السر كله هو سيد الشهداء الذي قاد نهضته الكبرى منذ بدايتها وحتى ما بعدها إلى عصرنا الحاضر، ليصنع ملحمة، فجّرت بحور الشعر والرثاء، والثورة والفداء، وما زالت أسرارها مكنونة لا تخرق أستارها إلا بسير العاشقين في أسفار التوحيد إلى مراتب الخلوص.
وما سنتعرض له هنا هو رشحة من أسرار سفر ذلك العاشق الذي وصل إلى مقام البقاء بعد الفناء، فصار قدوة الأنبياء وعنقاء مغربهم يرحلون إليه في أزمنة الفترات ويدعون ربهم باللحوق به صلاحاً لأنفسهم ويتوسلون بسره المكنون للنجاة من عوالم الكثرات حتى الكثرات الأسمائية يطلبون بذلك مقام الجمع والاسم العظيم...
أي سر فيك، وأنت الذي شهد التاريخ كله بقصور عقول المتعمقين، وكتبتَ بأسطر الملحمة الكبرى برهان عجز المتبحّرين، وصرت مهوى تحليق الطائرين على أجنحة القدس ومهبط النازلين بقوسي الصعود والنزول، فجمعت دائرة الإمكان في قطب الرحى.
إن القلم ليعجز عن خط كلمات حقيقةٍ كانت رقائقها مظاهر الإطلاق وتجلياتها بحار أنوار الوجود، ولكنه يكتب شوقاً، ويتحرك متيماً: يهتز لنبضات قلب قد فجعتَه حباً وقتلته عشقاً.
ما زلتَ تقرأ فينا آية مدين لنتلمس نجاةً لموسى، وتترنم رمال الصحراء بكلماتك الأقدسية فتزرع فينا ولهاً واضطراباً يدكّ كل وجودٍ إلا هو... فقد كنت سر أسرار الوجود: يا حسين...
لو لم تجرِ أحداث التكوين كما أردت كيف كنا لنعرف! ولو لم يعصمنا كهف أولادك المعصومين عليهم السلام كيف كنا ندرك! هل أننا لو كنا في زمانك عرفنا، أو في جوارك أدركنا؟
إن الإمام الحسين عليه السلام في حركته باتجاه كربلاء قد خالف كل الموازين التي كان يتمسك بها الكثيرون من الفضلاء فضلاً عن العقلاء، وعجز عن فهم سر حركته المحللون الذين كانوا يعدون من كبار القوم، فمن ناصح مشفق إلى واع مدرك إلى خبير مطلع، كل واحد يشير عليه بترك المسير إلى الكوفة وإهمال أهل العراق الذين خدعوا علياً عليه السلام وخانوا الحسن عليه السلام ونازعتم الأهواء وشغفهم حب الدنيا وتحزّبهم معاوية. وما بال أهل اليمن، وهم في منعة من يزيد وجيشه، قد يعدوا عن المسير، واقتربوا من الحق، جبالهم حصون وقبائلهم جنود، وهم أولو بأس وقوة.
إلهي، كيف لي أن أفهم لماذا اختار الحسين قتلاً في سبيلك وسبباً لحرمك في مرضاتك وكيف أقوى على معاينة ما جرى، فهل ستأخذني بجريرتي هذه، أم ترحمني بدموع جرت في محبتك ومحبة وليّك.
إن كربلاء كانت ظهور حقيقة الولاية تعديها، والفيصل الحق بين الإيمان والنفاق.
فما أصعب أن يبقى المؤمن على إيمانه وهو يرى إمامه المعصوم صاحب الولاية الكبرى يقتل بالسيوف والرماح وتسمى نساؤه ويقتل أبناؤه، ويفتك بأصحابه.
وقد يتساءل: لماذا لم يقهر الأعداء بسيفه المستمد من قوة الإله، ولماذا لم يدعُ عليهم وهو صاحب الدعاء المستجاب، أليس أن الإنسان الكامل مظهر لأسماء الله وصفاته؟!
ولماذا لم يُعمل ما أجراه الأنبياء على أقوامهم، فيهلكهم بعذاب أو أشد من ذلك؟؟
إن معرفة سر هذا السؤال تميط اللئام عن بعض أسرار الولاية الكبرى، وتكشف عن جوهر ثورة كربلاء، وبدونها تبقى نهضة الحسن الشهيد عليه السلام أجزاء متفرقة.
فكل موقف من مواقف الإمام فيه شرف وفضل وكرامة، وتجلٍ لأعلى مراتب التضحية والإنسانية. ولكن مجموع المواقف البطولية فاقد للوحدة والغائية بناء على التصور الذي يفتقد المعرفة المذكورة.
فطالما أن الحسين عليه السلام مظهر لقدرة الله المطلقة، ولو شاء لهزم القوم وحده، وأبادهم عن نكرة أبيهم فجعلهم صرعى كأنهم أعجاز نحل خاوية: "ولا القضاء لمحى الوجود بأسره" فلماذا هُزم في المعركة وتحمل كل النتائج المفجعة؟
وكما ذُكر، فإن السر يكمن هنا، وفي هذا السر استحق الحسين عليه السلام أن يكون مهبط آمال الأنبياء أجمعين.
فالله سبحانه وتعالى أطلع على قلوب أنبيائه الماضيين فلم يجد أحداً منهم قادراً على أن يتحمل هذا البلاء العظيم. ولو نظرنا إلى هذه الواقعة الكبرى ودققنا في كل تفاصيلها فإننا لا نجد في كل التاريخ واقعة تشبهها من حيث الشدة وحجم الكارثة وعظمة الابتلاء.
والأمر الآخر الذي ميز الإمام الحسين عليه السلام هو هذه الرؤية التي عبر عنها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله: "حسن مني وأنا من حسين". فالشق الأول من الحديث واضح ومعلوم، ولكن كيف يكون النبي صلى الله عليه وآله من الحسين عليه السلام؟
إنها الرحمة الإلهية المطلقة التي تعني هداية عالم الإمكان إلى كماله اللائق له. وهذا ما لم يكن ليحصل لولا حفظ الإسلام الذي هو طريق كمال الوجود.
لقد كان الإمام الحسين عليه السلام ينظر في حركته إلى الإسلام وإلى الوجود كله، وكان يزن كل الأمور على أساس الرحمة الإلهية المطلقة.
فتكليفه هو هداية العالم كله، وقد عرف أن هذا التكليف يتطلب منه بذل دمه وأن تسبى نساؤه ويسقن كالإماء في البلدان والوديان.
كل هذا لم يكن ليتحقق لو لم يكن الإمام الحسين عليه السلام مظهراً للرحمة الإلهية المطلقة..
قالت زينب عليها السلام: "يا أهل الكوفة، أتدرون أيّ كيد لرسول الله فريتم؟ وأيّ دم له سفكتم؟ وأيّ كريمة لن أبرزتم".