د. حسن سلهب
يطرح المعنيون بالتعليم مشكلة قديمة متجددة تتعلق بالاختبارات الدورية التي يخضع لها التلميذ في المدرسة. وبالرغم من كل المحاولات لتحسين هذا الاستحقاق التربوي عند التلميذ، إلا أن المشكلة لا تزال تضغط على الجميع، فأولياء التلامذة يصابون بنوعٍ من الاستنفار، مصحوب بقلق شديد، طيلة فترة الاختبارات التي تمتد أحياناً، لتصل إلى عشرين يوماً متواصلاً، وكذلك المعلمون الذين يدخلون في تجربة ضاغطة تبدأ بإعداد الاختبارات، ولا تنتهي بتصحيحها، ومن ثم تحمُّل ما تسفر عنه من نتائج.
* موعد الاختبار والقلق المبكر:
أما التلامذة، فحكايتهم مريرة تبدأ من حين إعلامهم بموعد الاختبار، وتتفاقم كلما اقتربوا من مواعيده المتوالية، ولا تنحسر موجات القلق إلا بعد فترة من إعلان النتائج. وإذا أردنا إحصاء الأيام التي تستغرقها هذه الحكاية، فنحن أمام شهرٍ على الأقل من التوتر والترقُّب. يتفاوت الجميع في طريقة تفاعلهم مع مراسيم الاختبارات ومستلزماتها، وقد تتمكن نسبة من هؤلاء من تجاوز كل ذلك باللامبالاة وعدم الاكتراث، لكن من الواضح أن شريحة واسعة من المعنيين، لا تشكل الاختبارات المدرسية بالنسبة لها مواعيد حافلة بالاطمئنان، أو عامرة بالتعلُّم. لا نريد مما تقدَّم إثارة هذه الإشكالية من الزاوية النفسية، فقد يكون من المفيد تعرُّض الإنسان لهذا النوع من التجارب لتقوية بنيته النفسية، لكننا نود توضيح الآثار المترتبة على ذلك من الزاوية العلمية، أي التدقيق فيما إذا كان هذا التوتر والقلق يخدمان غاية الاختبار أم لا.
* معرفة الطالب رهينة الإجراءات:
إننا في صدد تحديد نوع وطبيعة الإسهام الذي تلعبه هذه الأجواء في قياس الحصيلة التعلمية للتلامذة. مع الأسف الشديد، يمكن القول إن ظروف الاختبارات المدرسية لا تؤثر إيجاباً بشكل عام، في قياس الحصيلة التعلُّمية. قد يكون لها دور في تحريك التلامذة نحو الدرس، وقد تنشِّط فيهم العزيمة نحو استثمار الأوقات المتاحة، لكن فعل التحريك والنشاط يصدر عن خلفية لا تتصل دائماً بالعلم والتربية، فالخوف من الرسوب أو التراجع، والرغبة في الحصول على الدرجات العليا، كلها مشاعر تتوسل بالعلم ولا تستهدفه. وبالرغم من تحقق المستوى العلمي المنشود، إلا أنه يفتقر للعلاقة المرجوة بالعلم. ثم إن التحريك والتنشيط هذا لا ينمي الإرادة الذاتية، بل هو نوع من التأثير على شيء لتحريك شيء آخر، بصورة لا إرادية، كتعرض الإنسان لضربة على إحدى يديه مثلاً، فينهض جسمه وينشط بصورة كلية. فمظاهر الاستعدادات خلال أيام الامتحانات، من قبيل تغيير مقاعد التلامذة، والفصل بين تلامذة الصف الواحد بتلامذة من صفوف أخرى، ووضع الحقائب المدرسية في وسط الطاولة التي يكتب عليها التلامذة، وتشديد الرقابة عبر زيادة عدد المراقبين للصف الواحد، كل ذلك قد يفيد النظام العام، وعدم تمرير الإجابات بين التلامذة، لكنه لم يسهم في تحقيق وضعية مساعدة للتلميذ على توليد الإجابات وتدوينها. فالقيِّمون على الامتحانات والاختبارات المدرسية معنيُّون بكل ما يساعد على تظهير المعارف والمهارات والمواقف للتلامذة، وليس بكل ما يؤمِّن النظام العام، أو يمنع الغش، فحسب. إنّ لاستخراج مخزونات الذاكرة شرطاً، ولفهم المكتوب والتعبير فيه بصورة دقيقة مقدمات، ولإنجاز عمليات المقارنة والتحليل والتقييم بدرجة عالية من الاجتهاد والإبداع مناخات نفسية طيبة. ومن الصعب اعتبار هذه الشروط، والمقدمات، أو المناخات، بمثابة حصيلة طبيعية لأنظمة الاختبارات المدرسية القائمة حالياً.
* كيف نختبر معرفة الطالب؟!
إن التوتر والقلق لا يسعفان التلميذ أبداً في رفع مستوى حيويته الذهنية، وإن عبور البعض لهذه المرحلة، من دون خسائر، لا يشكل قاعدة عامة. بناءً على ما تقدم نطرح العفوية، أو التلقائية، معياراً في تنظيم الاختبارات المدرسية، من دون التخلي عن المعايير الأخرى التي تؤمِّن صدقية الاختبارات، بعيداً عن الإجراءات التي تولد التوتر والقلق. وعندما نقول العفوية أو التلقائية، لا نقصد بالتأكيد العشوائية أو العبثية، فبين هذين النوعين من المصطلحات بونٌ شاسع كما هو معروف. فالعفوية تعني استدراج التلميذ لإظهار ما لديه من معارف أو مهارات أو مواقف، من دون مقدِّمات إدارية توحي بالتقييم كغاية وحيدة لهذا الاستدراج. والتلقائية تعني أيضاً الإفساح في المجال أمام التلميذ لعرض معارفه، أو مهاراته، أو مواقفه، من دون الاهتمام بالآثار المترتبة لناحية الدرجات، أو الترفيع والرسوب. لا نتوهم أنه بإمكاننا تغييب موضوع التقييم بتاتاً أو كلياً، ولكن بالإمكان إعطاؤه دوراً ثانوياً في دوافع التلميذ نحو التعلُّم. ما نود قوله: إذا كانت وضعية التلميذ هي وضعية علمية، فإن عملية التقييم تدخل في السياق العام للوضعية ولا تنفرد بسياقٍ خاص. إذاً، ما تطرحه هذه المقالة لا يشكل نوعاً من الرعاية النفسية، على أهميتها وجدواها، بل يتصل بشروط التقييم الموضوعي التي لا تتوافر مع غياب الإحساس بالأمان والعافية.
* الاختبار والضغط النفسي الغالب:
ومن قبيل إيراد الأمثلة فقط نعلم جميعاً أن النسبة الأكبر من التلامذة ينهون اختباراتهم بأسرع وقت، وذلك ليس بسبب قدرتهم على تقديم الإجابات الصحيحة، بل لتقصير وقت الشعور بالضغط إلى أدنى ما يمكن، ومن يطلع على خطوط هؤلاء، ويقارنها بخطوطهم خارج الاختبار، يعرف آثار هذه الضغوط على أعصابهم، ولا يقتصر الأمر على ما تقدم، ذلك أنه من الصعب العثور على نوعية جديدة من الأفكار أو الصور البلاغية، فضلاً عن المنهجية في مقاربة الأسئلة. فالإبداع أو الابتكار عمليات ذهنية نادرة جداً في هذه الأعمال، والهم الأول عند أكثر التلامذة الخروج من هذا النفق بما تيسَّر، وليس الابتهاج بالأفكار الجديدة، والبلاغيات الجذابة، أو المقاربات غير المسبوقة، وهذا إن دلَّ على شيء، فإنه يدل على عقم الأجواء التي تشيعها هذه الاختبارات. أخيراً، يمكن اعتبار آليات الاختبارات الرسمية واحدة من أشهر المصاديق على ما تقدَّم. وعلى الرغم من كل الإجراءات التنظيمية الدقيقة، فإننا أمام استحقاقات نفسية، لا علاقة لها بشروط التقييم الموضوعي. وإن التدقيق بوجوه أكثر المرشحين لهذه الاختبارات، لحظة الدخول إلى القاعات، يوحي بحجم الضغوط النفسية التي يتعرضون لها، وبالتالي التوقُّعات حول الأعمال التي سينجزونها. أخيراً، لقد ابتعدت الاختبارات المدرسية عن غايتها، وبدل أن تكون حصيلتها مادة لتقييم عمليات التعلُّم، فقد غدت مؤشرات على التجارب النفسية الصعبة التي يخوضها الجميع، وفي مقدمتهم المتعلمون.