نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

الإمام الباقر عليه السلام بشارة الرسول صلى الله عليه وآله

الشيخ تامر محمد حمزة

 



الإمام محمد بن علي الباقر (أبو جعفر عليه السلام) هو الإمام الخامس من أئمة أهل البيت، وهو السابع من أعلام الهداية. وقد اجتمعت فيه الكمالات النبوية وتبلَّغ تحيات جده الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله محمد بواسطة أحد أبرز صحابته وهو جابر بن عبد الله الأنصاري، وكذلك شهد واقعة كربلاء حين كان طفلاً يؤثر في نعومة أظافره نسيم الصباح. وما نتفيأ ظلاله من العلوم والمعارف، إنما هو ببركة الحوزة التي شيَّد أركانها ثم رفع قواعدها ولده الإمام جعفر الصادق وآتت أكلها في ظل إمامته المباركة.

* أُوتيَ الحكم صبياً:
ولد الإمام الباقر سنة 57 (هـ) وترعرع في ظل أبيه الإمام علي بن الحسين عليه السلام حتى شبّ ونما. وقد نهل من أبيه العلوم والمعارف حتى فاق معاصريه علماً وأبدع في كلّ الفنون والعلوم كما شهد له بذلك جدّه محمّد صلى الله عليه وآله، حيث لقّبه بالباقر قبل ولادته بأكثر من خمسين سنة، لعلمه بما يقوم به سبطه من نشر العلوم وإذاعتها بين الناس فبشّر به أمته. كان في طفولته آية من آيات الذكاء، حتى أن جابر بن عبد الله الأنصاري على شيخوخته كان يأتيه فيجلس بين يديه فيعلّمه، وطفق يقول: يا باقر، لقد أوتيت الحكم صبياً(1). وقبل ذلك، كان يمشي جابر في المدينة ويقول: يا باقر، متى ألقاك؟(2). ويقول هذا بناءاً على ما سمعه من رسول الله ذات يوم وهو يقول: يولد لابني هذا (الحسين عليه السلام) ولد يقال له علي بن الحسين... ويولد لعلي بن الحسين ابن يقال له محمد، إذا رأيته يا جابر فأقرئه مني السلام(3). وفي مصدر آخر، أضاف: يهب له النور والحكمة فأقرئه مني السلام(4). وقد تشرف قتادة وهو فقيه أهل البصرة بمقابلته، فاضطرب قلبه من هيبته، وأخذ يقول: لقد جلست بين يدي الفقهاء وأمام ابن عباس، فما اضطرب قلبي من أي أحد منهم مثلما اضطرب قلبي منك(5).

* الخلافة ملك عضوض:
دامت إمامة أبي جعفر حوالي تسعة عشر عاماً في ظل مجموعة من الحكام الأمويين. وهم على التوالي: حكم بن الوليد بن عبد الملك، وسليمان بن عبد الملك، وعمر بن عبد العزيز، ويزيد بن عبد الملك، وشطراً من حكم هشام بن عبد الملك، واستشهد عليه السلام في حكومته. أما سياسة بني أمية فكانت تعتمد وتتعهد بالقضاء على كل التعاليم التي جاء بها الإسلام وإعادة الأمة إلى الجاهلية الأولى، إذ لم يبق شيء إلا وأصابه الانحراف، حتى عم الدولة والأمة معاً كما عم المبادئ والقيم والعلاقات والممارسات العملية جميعاً. وبعبارة مختصرة، فقد حولوا الخلافة إلى ملك عضوض. ومن المؤسف جداً أن الذين تبوأوا مواقع القضاء والإفتاء أقروا الحكام على ذلك، إما طمعاً أو خوفاً أو استسلاماً للأمر الواقع.

هذا كله مضافاً إلى إحاطة الحكام أنفسهم بمجموعات من الفسقة والمنحرفين، كما حصل مع سليمان بن عبد الملك. وقد صدق ذاك الأعرابي الذي وصف حاشيته مخاطباً إياه بقوله: قد تكنّفك رجال أساؤوا الاختيار لأنفسهم فابتاعوا دنياك بدينهم، ورضاك بسخط ربهم، خافوك في الله ولم يخافوا الله فيك، فهم حرب للآخرة سلم للدنيا، فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله عليه، فإنهم لن يألوا للأمانة تضييعاً وللأمة عسفاً، وأنت مسؤول عما اجترحوا وليسوا بمسؤولين عما اجترحت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك فإن أعظم الناس غبناً من باع آخرته بدنيا غيره(6). وكانت همة هذا الطاغية في النساء، حتى انعكس ذلك على المجتمع لدرجة أن الرجل إذا لاقى صاحبه يقول له: كم تزوجت؟ وماذا عندك من الجواري؟(7). وقد تصرّف بالأموال العامة في سبيل كل ما يشبع رغباته وأهواءه، وما كان ينفقه على الجواري والمغنيات أكثر مما كان ينفقه في المرافق العامة وما يخدم الناس.
ويضاف إلى الجهل المستحكم على الأمة وفي الأمة توسيع عمليات الفتح والغزو، إلى تهديم الأمة اجتماعياً بتكثير الغلمان والجواري وتشتت الأسر، فأدى ذلك إلى الانحراف الأخلاقي والسلوكي، وكذلك تهديمها فكرياً بسبب تداخل الثقافات وقابلية الأمة لتقبل ثقافات غريبة.

* منبع العلم:
في ظل الأجواء المذكورة، أقام الإمام الباقر مدة ولايته التي امتدت لتسعة عشر عاماً في المدينة المنورة ولم يبرحها إلى مكان آخر، متخذاً من المسجد النبوي مدرسة ينشر فيها العلوم والمعارف الحقة. وشرع الإمام بالتدريس بعد التصدع الذي أصاب البنيان الأموي بسبب الخلافات بين الولاة على السلطة، مما أشغلهم عن التفكير بأحد ممن حولهم، فكانت الفرصة مؤاتية للإمام لينشر علمه لمواجهة كل الانحرافات التي أصابت الأمة. وبدأت تتكون نواة الحوزة العلمية باختلاف الرجال إليه من كل فج عميق، لينهلوا من معينه الصافي ويرجعوا إلى قومهم لعلهم يحذرون. وشرع في دعوة الناس إلى أخذ العلم والمعرفة من منابعهما النقية، ويدل عليه ما قاله لسلمة بن كهيل وللحكم بن عتيبة: شرّقاً وغرّبا، فلا تجدان علماً صحيحاً إلا شيئاً خرج من عندنا(8). ولم يقتصر على طبقة خاصة، بل فتح أبواب مدرسته العلمية لعموم أبناء الأمة الإسلامية، وقد حضر مجلسه حتى من خالفه بعد ذلك، أمثال: عطاء بن رباح وعمرو بن دينار، والزهري وربيعة الرأي، وابن جريج، والأوزاعي، وبسام الصيرفي، وأبي حنيفة وغيرهم(9). وعندما كان يحدثهم بالحديث ما كان يسنده عن أحد وحينما سئل عن ذلك، قال: إذا حدثت بالحديث فلم أسنده، فسندي فيه أبي زين العابدين، عن أبيه الحسين الشهيد، عن أبيه علي بن أبي طالب، عن رسول الله، عن جبرائيل، عن الله عز وجل(10).

* الشجرة الطيبة:
بعد أن رفع الإمام الباقر قواعد الحوزة، أكمل بنيانها ولده الإمام الصادق وعمد إلى نشر الفقه وبيان أحكام شريعة الله سبحانه، وكانت شجرتهما الطيبة تظلل بالدرجة الأولى أهل المدينة حتى تميزوا عن غيرهم بالتفقه. وقد تخرج على أيديهم المباركة جمهرة من الفقهاء، كزرارة بن أعين، ومحمد بن مسلم، وأبان بن تغلب، وبريد العجلي، وأبي بصير، وغيرهم من الذين بلغوا أعلى مراتب الاجتهاد. وقد جلسوا بين الناس يفتونهم في الحلال والحرام بأمر من الأئمة، وبلغوا درجة رفيعة حتى قال فيهم الصادق: "ما أجد أحداً أحيا ذكرنا واحاديث أبي إلا زرارة وأبو بصير ومحمد بن مسلم وبريد بن معاوية هؤلاء حفاظ دين الله وأمناء أبي على حلال الله وحرامه"(11). ومن الجدير ذكره أن الشيعة هم أول من سبق إلى تدوين الحديث، يقول في ذلك مصطفى عبد الرزاق: ومن المعقول أن يكون النزوع إلى تدوين الفقه كان أسرع إلى الشيعة، لأن اعتقادهم العصمة في أئمتهم أو ما يشبه العصمة كان حرياً إلى تدوين أقضيتهم وفتاواهم(12). وقد بلغت الحوزة العلمية في عصر الإمام الصادق مرتبة الذروة كماً وكيفاً، يقول الحسن بن علي الوشا: "لقد أدركت في هذا المسجد (مسجد الكوفة) تسعماية شيخ، كلٌّ يقول حدثني جعفر بن محمد الصادق"(13). وأما كيفاً، فقد تعددت الفنون في الحوزة، ولكل فن رجاله، ولكن كان التركيز على الفقه والأصول.

* مدرسة أهل البيت عليهم السلام الفقهية:
الأول: فتح باب الاجتهاد. يعتبر فتح باب الاجتهاد في هذه المدرسة المباركة من أعظم الإنجازات، لما له من فاعلية على مضي الزمن وإلى يوم القيامة، لأنه يعالج جميع القضايا لا سيما الموضوعات المستحدثة، مما يسهل على الناس الأخذ بحكم الله لا سيما في عصر الغيبة الكبرى مع التحديات الكبرى التي تواجه الأمة، وقد أدرك حقيقة هذه الميزة علماء المسلمين من غير الشيعة.

الثاني: فاعلية العقل: لقد انفردت مدرسة أهل البيت عليهم السلام حين جعلت العقل أحد مصادر التشريع الأربعة لاستنباط الأحكام الشرعية. وقد صنفوه في مصاف الأنبياء والرسل الباطنية، ولذا، أورد الشيخ الكليني الحديث الأول في كتابه المبارك الكافي حول العقل ومكانته.

الثالث: الإسناد إلى النبي صلى الله عليه وآله:  ما يتفضل به كل واحد من الأئمة لم ينفصل عن رسول الله أبداً، بل هو نابع منه وعنه يصدر، وقد أشار إليه الإمام عليه السلام بقوله: "لو أننا حدثنا برأينا، ضللنا كما ضل مَنْ قبلنا. ولكن، حدثنا ببيّنة من ربنا بيّنها لنبيّه فبيّنها لنا"(14). هذا كله مضافاً إلى إصلاح كل ما أفسده الأمويون، سواء على المستوى السياسي أو الأخلاقي أو الاجتماعي أو الاقتصاديز ولنتبرك ونختم بنماذج من مواقفهم في شتى الميادين، فقد روى الإمام الصادق عليه السلام عن جده رسول الله: العبادة سبعون جزءاً، أفضلها طلب الحلال(15). وكذلك روى في الأخلاق والاجتماع عن جده: صنفان من أمتي، إذا صلحا صلحت أمتي: الفقهاء والأمراء(16). وروي عنه بالسياسة قوله: إن الإمامة لا تصلح إلا لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن المحارم، وحلم يملك به غضبه وحسن الخلافة على من ولي حتى يكون له كالوالد الرحيم(17).

 


(1) علل الشرائع، الصدوق، ص234.
(2) الوافي بالوفيات، ج4، ص 103.
(3) نقلاً عن تاريخ ابن عساكر 51/41.
(4) غاية الاختصار: 64.
(5) إثبات الهداة: ج5، ص 176.
(6) تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر، ج68، ص175.
(7) البداية والنهاية، ج9، ص 165؟
(8) مروج الذهب، ج3، ص76.
(9) الكافي، ج1، ص399.
(10) سير أعلام النبلاء، ج4، ص401.
(11) إعلام الورى، ص 294
(12) الأصول الأصيلة (الفيض القاشاني)، ص55.
(13) إعلام الورى، ص 270.
(14) الجامع للشرايع، يحيى بن سعيد الحلبي، ص8.
(15) بصائر الدرجات، محمد بن الحسن الصفار، ص319.
(16) الخصال، ص 26.
(17) الخصال، ص 161.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع