مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

مناسبة: الدور السياسي للإمام الباقر عليه السلام


الشيخ علي جابر


إن مساحة العمر الجهادي للإمام الباقر عليه السلام كانت غنية بالمواقف الحاسمة والأعمال التي أسست للسياسة المبدئية الناهضة لأهل البيت عليهم السلام بعد مصيبة كربلاء وفي مواجهة السلطة الجائرة سواء كانت أموية أم عباسية.

* الإمام في كربلاء:
عاش الإمام الباقر عليه السلام مع جده الإمام الحسين عليه السلام حوالي أربع سنوات، وقد جمع بين وعيه الخاص، الذي هو وعي الإمامة، لواقعة الطف وشهادة الآل والأصحاب، وبين الحضور المباشر في الواقعة، وهذا يعني أيضاً أنه قد واكب مراحل تسلط الأمويين السفيانيين ثم المروانيين بعد معاوية بن أبي سفيان على الأمة الإسلامية وشؤونها. لقد كان الإمام عليه السلام يدرك أن المواجهة طويلة وقلقة في مقابل السلطة الأموية ولتثبيت أقدام الولاية لأهل البيت عليهم السلام في الأمة، لأن الأمر لا يتعلق بسلطة بقدر ما يتعلق بنهج وأصالة في الهوية الدينية والمستقبل.

* بنو مروان بين البطش والخلاعة:
ولتوضيح صورة العصر الذي عاشه الإمام عليه السلام نشير إلى أن مدة إمامته المباركة دامت حوالى 18 سنة، عاصر خلالها خمسة من ملوك بني مروان الذين انتقلت إليهم السلطة بعد إنهيار البيت السفياني، وكلا البيتين من أمية، وهم على التوالي بايجاز:

1- الوليد بن عبد الملك بن مروان (ت 96ه) الذي عرف بالطغيان والاستبداد.
2- سليمان بن عبد الملك بن مروان (ت 99ه) الذي كان يرتع في الشهوات.
3- عمر بن عبد العزيز بن مروان (ت 101ه) الذي عرف بسياسته الزكية في قبال حماقات آبائه اتجاه أهل البيت عليهم السلام وعموم الأمة وحرمات الدين حتى اختلف في أمره المؤرخون بين قادح ومادح.
4- يزيد بن عبد الملك بن مروان (ت 105ه) وكان خليعاً ماجناً يهتك حرمات الدين.
5- هشام بن عبد الملك بن مروان (ت 124ه) وقد عرف بالظلم الشديد وكانت شهادة الإمام الباقر عليه السلام في عهده سنة 114ه.

* واقع الأمة:
تتألف الأمة بشكل أساسي من شريحتين هما: العلماء وعامة الناس، ونقصد بالعلماء كل من يدعي علماً ومعرفة يجعله متقدماً على غيره وفي مقام المسؤولية أكثر، وإذا كانت تلك حال الحكام فما هي حال هؤلاء؟ إن الوضع العام في الأمة لم يكن مريحاً على الإطلاق، فموجات الشك والحيرة كانت تأخذ الناس يمنة ويسرة وسياسة التجهيل المتعمدة التي اتبعتها السلطة الأموية أفقدت الكثيرين الاتزان. وقد اشتكى الإمام عليه السلام من حال الناس مع أهل البيت عليهم السلام. والناس تحتاج إلى إعداد وتربية طويلة الأمد لتنتقل إلى طور القدرة على النهوض وإزالة الجور والفساد وإقامة العدل. وأما العلماء فكثير منهم في خدمة السلطان ويرتزق من عطاياه ويشتهر بدعاياته ومناصبه أما المخلصون لدينهم الناطقون بالحق فكانوا فئة مضطهدة وملاحقة ومحاصرة يمنع السلطان الناس عنها خوفاً من أثرها.

* المواجهة الشاملة:
أمام هذا الواقع المرير لم يكن يجدي الجهد الذي يبذل في اتجاه واحد، أو فتح معركة هنا وأخرى هناك، بل وجد الإمام عليه السلام في حسابات الواقع والأهداف المأمولة أن المطلوب هو خوض مواجهة شاملة على الصعد السياسية والثقافية والاجتماعية والتربوية والروحية وغيرها... بل ولم يكن الإمام يستبعد المواجهة العسكرية والأمنية إذا توفرت شروطها المناسبة. وفي الوقت الذي كان يعمل فيه الإمام عليه السلام لاستدراج السلطة الأموية إلى مواقع صدام تفتضح فيها أمام المسلمين كانت عينه على شريحة سياسية نجح الأمويون في أكثر من مرة في استغلالها في مواجهة أهل البيت عليهم السلام هي الخوارج الذين كفروا الإمام علياً عليه السلام لقبوله بالتحكيم وقتله لهم في النهروان فكيف سيكون الموقف من ذريته تالياً؟ وذكر المؤرخون احتجاجاً للإمام الباقر عليه السلام على أحد زعماء الخوارج المعروفين وهو عبد اللَّه بن نافع الأزرق أثبت له فيه أن الإمام علي عليه السلام قتل الخوارج لا عن ظلم محتجاً بحديث الراية (يحب اللَّه ورسوله ويحبه اللَّه ورسوله) مع علمه تعالى بأنه يقتل الخوارج، فكيف يكون ظالماً لهم؟!

* دور الاعلام والدعاية:
وهناك حقيقة ثابتة في كل التجارب أن الناس تتأثر بقوة الدعاية والإعلام الموجه وهو ما كانت تسعى السلطة الأموية لاستغلاله تقوية لمواقعها وإضعافاً لخصومها، وكان الإمام عليه السلام يدرك ذلك أيضاً ويسعى لجعله قوة لمشروع النهوض المشروط بالوعي والإحساس بضرورة التغيير، ولم يغفل هذا العامل حتى لما بعد شهادته، فقد أوصى كما ينقل عنه ولده الإمام الصادق عليه السلام حيث قال: (قال لي أبي: يا جعفر أوقف لي من مالي كذا وكذا النوادب تندبني عشر سنين بمنى أيام منى) فروع الكافي باب كسب الفاتحة، ولهذا الأمر دلالاته الهامة لا يسع المجال لتوضيحها، لكنه في الحد الأدنى يعلن ظلامة له في عنق بني أمية يسمعها للمسلمين أيام الحج وفي المنزل الذي ينزل فيه كل الحجيج وهو وادي منى.

خوف الطاغوت:
ولم يكن مستهجناً للمتتبِّع أن يجد السلطة الأموية طائفة مذعورة أمام الحضور القوي للإمام الباقر عليه السلام وعلمه الغزير وحجته القاطعة وجرأته الموجعة وسعيه الدؤوب لاستنهاض المسلمين وتشجيعهم على الإصلاح ومواجهة الظلم والفساد. وأكثر ما أثار خوفهم حديث الإمام عليه السلام من انقطاع ملك بني أمية وزواله الحتمي والأكيد وانتشار ذلك بين الناس. ولذلك كان هناك سعي دائم من الإمام عليه السلام للاتصال بالناس، وخوف كبير لدى السلطة من ذلك ومحاولتها عزل الإمام عن الأمة حتى في حالات السفر والترحال. فحينما خرج من الشام عائداً إلى المدينة واجه الإمام عليه السلام حصاراً رسمياً بإعلان القطيعة معه من الناس.

* عجز السلطة:
إن كل بطش السلطان لم يكن ليخيف الإمام عليه السلام أو يثنيه عن المواجهة حتى لو كانت في عقر داره، لا لإظهار قوة الحق وشجاعة أهله فقط بل ليظن أيضاً عجز الباطل مهما كان قوياً أمام عيون الأمة، وقد استدعاه هشام بن عبد الملك إلى الشام وأوعز إلى من حوله أن يوبخوا الإمام بمجرد دخوله، ودخل الإمام غير عابئ بهم وسلم دون تخصيص وجلس بلا استئذان مما أغضب هشاماً فراح يوبخه وهو ساكت إلى أن انتهوا، فنهض قائماً وقال: (أيها الناس أين تذهبون وأين يراد بكم؟ بنا هدى اللَّه أولكم وبنا يختم آخركم، فإن يكن لكم ملك معجل فإن لنا ملكاً مؤجلاً، وليس بعد ملكنا ملك لأنا أهل العاقبة يقول اللَّه عزَّ وجلَّ (والعاقبة للمتقين)، فأمر هشام به إلى الحبس.

* الحكمة في المواجهة ومشروعية النهوض:
من الأخطاء الشائعة لدى بعض الكتّاب والمفكرين والمؤرخين أن الإمام الباقر عليه السلام رفض المواجهة خارج الإطار العلمي ولم يكن يرى مشروعية للخروج على السلطة، وكثيراً ما يتمسكون لنظرتهم بقضية نهضة زيد بن علي الشهيد وموقف الإمام الباقر عليه السلام منها. وبقطع النظر عن الرؤية المبدئية الشاملة لطبيعة المواجهة والدور الذي كان يضطلع به الإمام عليه السلام والذي لا يقبل مثل هذه النظرة، فإن كلمات ومواقف الإمام لا تدل على ذلك، وهؤلاء في الواقع خلطوا بين مشروعية الخروج على السلطان الجائر الذي هو أمر مسلم ومفروغ منه، وبين ما تقتضيه الحكمة من تأمين شروط النجاح والفوز والتي رآها زيد الشهيد متحققة بحسب الظاهر ولم تكن كذلك في الواقع الذي يحيط به علم الإمام عليه السلام، وكان من واجب الإمام أن ينبه إلى ذلك على قاعدة لزوم ترشيد الحركات الجهادية الناهضة في وجه الأمويين، وقد قال لأخيه زيد لما عزم على طلب البيعة لنفسه: (يا زيد! إن مثل القائم من أهل هذا البيت قبل قيام مهديهم مثل فرخ نهض من عشه من غير أن يستوي جناحاه فإذا فعل ذلك سقط فأخذه الصبيان يتلاعبون به، فاتقِ اللَّه في نفسك أن تكون المصلوب غداً بالكناسة وهو موضع في الكوفة ).

إن خوف الإمام عليه السلام عليه من مصير القتل لا يعني بالضرورة عدم مشروعية النهوض كما هو واضح، ولم يكن الإمام يقصد ذلك قطعاً لأن المشكلة لا يجوز أن تنعكس لتصبح في الثائر على الظلم بدل أن تكون في الظالم نفسه. وبذلك يتضح أن ظروف القيام ضد الحكم بالجائر ليست مهيئة، بل أكثر من ذلك سوف يكون مصير قائد الثورة القتل والصلب على كناسة الكوفة كما حصل للشهيد زيد بن علي عليه السلام.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع