مقابلة مع سماحة الشيخ كاظم ياسين
حوار: الشيخ موسى منصور
من المعرفة الواجبة التي ينبغي التشرّف بها، معرفة إمامنا الباقر عليه السلام الذي أسّس المداميك العلميّة لمدرسة آل محمّد عليهم السلام، ولُقّب لذلك بـ"باقر العلوم". وقد قصدنا سماحة الشيخ كاظم ياسين للتعرّف على السيرة العلميّة للإمام عليه السلام، ودوره التأسيسيّ، وآثاره التي انعكست على الأمّة الإسلاميّة والدين الحنيف خلال مسيرته المباركة.
باقر علوم الأوّلين، لقبٌ اشتُهر به الإمام الخامس عليه السلام عن لسان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، لماذا لُقّب بذلك، على الرغم من أنّ جميع الأئمّة عليهم السلام معادن العلم؟
الإمام الباقر عليه السلام جاء بعد محنة خطيرة ألمّت بالإسلام، وهي محنة كربلاء، هذه المحنة -إن صحّ التعبير- كادت أن تستأصل كلّ الإسلام من جذوره، وأن تبيد الكتلة الشيعيّة، وقد قال الإمام زين العابدين عليه السلام: "ما بمكّة والمدينة عشرون رجلاً يحبّنا"(1). وكان البناء المحمّديّ الأصيل أو خطّ التشيّع لأهل البيت عليهم السلام يحتاج إلى إعادة تأسيس محفوفة بالخطر، فقام الأئمّة؛ زين العابدين والباقر والصادق عليهم السلام بثلاثيّة التأسيس، حيث قاموا باستدراك الخطّة الأصليّة التي كان سيقوم بها الإمام عليّ بن أبي طالب والإمامان الحسن والحسين عليهم السلام، لكنّ إقصاء الأئمّة عن أدوارهم، أدّى إلى تعثّر الخطّة الأصليّة.
كان قوام الخطّة الأصليّة، عندما عيّن الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نبيّاً وإماماً، ثمّ عيّن عليّاً عليه السلام إماماً؛ أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سوف ينجز عمليّة تنزيل القرآن، ويُخرج الناس من ظلمات الوثنيّة إلى نور التوحيد. وبعد أن يقضي على الشرك في الجزيرة العربيّة، يقوم أمير المؤمنين عليه السلام بتسلم البناء الأوليّ للأمّة؛ ليؤسّس الأمّة القرآنيّة القويّة الواعية للقرآن والسنّة. وقد تعثّر بناء الأمّة، فانقلب الموضوع إلى خطّة طوارئ؛ وهي بناء الكتلة الشيعيّة رغم التحوّل العامّ الذي كان لغير مصلحة الإسلام. وهذه الخطّة حُوربت بضراوة من قِبَل الذين حكموا، حتّى أنّ أمير المؤمنين عليه السلام حكم خمس سنوات تحت ضغط الفرقة والشقاق، كما اضطرّ الإمام الحسن عليه السلام إلى الصلح حتّى يحافظ على بقاء أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم، ثمّ بذل الإمام الحسين عليه السلام روحه شهيداً حتّى يحافظ على ما يمثّله أهل البيت عليهم السلام. فجاءت كربلاء كنقطة فصل بين مرحلة أليمة هي مرحلة عليّ والحسن والحسين عليهم السلام، وبين مرحلة جديدة، على أهل البيت عليهم السلام أن يبدؤوا فيها من الصفر، وليس في الأمر مبالغة. والذي قام به الإمام الباقر عليه السلام هو جزء من ثلاثة أجزاء قام بها الأئمّة الثلاثة عليهم السلام بعد كربلاء؛ الإمام زين العابدين عليه السلام، وهو جزء العاطفة والحبّ والمودّة، والإمام الباقر عليه السلام، وهو جزء العلم، والإمام الصادق عليه السلام، وهو الجزء الذي عمل على تمييز الكتلة الشيعيّة عن غيرها. وكان دور الإمام زين العابدين عليه السلام تكريس الحبّ لله ولرسوله ولأهل البيت عليهم السلام. وبناءً على الحبّ، قام الإمام الباقر عليه السلام بتأسيس مداميك العلم. والعلم حينما يؤسَّس على الحبّ يُرسَّخ، لأنّه عاطفة قلبيّة، والقلب يثبّت المبادئ العقليّة، لأنّه يرسخها بالحنان والدمعة.
اسم الإمام الباقر عليه السلام يترافق مع الكثير من العلوم: علوم الفقه، والشريعة، والاستنباط، والقواعد الفقهيّة، ولهذا، فإنّ لقب "باقر علوم الأوّلين" يُعبّر عنه. وأراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول إنّ الإمام الباقر عليه السلام هو الذي فجّر علوم آل محمّد عليهم السلام. وفي اللغة، "البَقْر" هو ما يقوم به الجزّار عندما يشقّ بطن البقرة ويُخرج ما في جوفها، والإمام الباقر عليه السلام أخرج كنوز أهل البيت عليهم السلام العلميّة، ولهذا عُدّ الركن الأوّل في مرحلة إعادة البناء العلميّ.
ما سرّ تخصيص الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إرسال سلامه إليه عبر جابر الأنصاريّ؟ وما هي دلالات ذلك؟
هذه القصّة وردت في كثير من الأخبار، ويبدو أنّها صحيحة لتعدّد مصادر نقلها، وقد نقلها جابر مباشرةً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. القصّة تقول إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاطب جابر بن عبد الله الأنصاريّ أنّه سوف يعمر ويدرك ولده محمّد الباقر عليه السلام؛ وطلب منه أن يبلغه السلام، وفعلاً، التقى جابر بالإمام عليه السلام وهو طفل، وكان عمره أربع أو خمس سنوات، وقال له: "إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرئك السلام"، فقال الإمام الباقر عليه السلام: "وعلى رسول الله السلام". وربّما يُقال إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أراد برسالته أن يُعزّز الدور العلميّ للإمام الباقر عليه السلام، ويخفّف من وطأة ما جرى على أهل البيت عليهم السلام بعد كربلاء، فكانت رسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبر جابر كدعم نبويّ لما سوف يقوم به الإمام الباقر عليه السلام.
ظهر في عصره عليه السلام مجموعة كبيرة من الفِرَق والطوائف المنحرفة: الغلاة، المفوّضة، المجبّرة، الحشويّة... كيف واجه الإمام عليه السلام هذا الفكر المنحرف؟
حاور الإمام عليه السلام الزنادقة والخوارج وناقشهم، وحاور أرباب القياس كأبي حنيفة، ولعن المرجئة. والمرجئة مثلاً هم الذين نشأوا في العالم الإسلاميّ لتبرير فعلة من ظلم واستولى على الدولة والسلطة. من آرائهم أنّ الصحابة كلّهم عدول، وما فعلوه ببعضهم بعضاً هذا شأنهم ونحن لا علاقة لنا بهم، فأرجأوهم إلى الله. فهذا الأمر يُخرج الإنسان المسلم من معركة معرفة الحقيقة، ويوهمه أنّ المرجئ مؤمن بالله والحساب، وأنّه مُخلِص للإسلام، ولكنّه في الحقيقة يريد حماية ملوك بني أُميّة وبني العبّاس وسلاطينهم وكلّ من استولى على الدولة بغير وجه حقّ. وعندما يأتي الدور للشيعة، يُتّهمون بأنّهم روافض ومجرمون وكفّار. المرجئة لا يقولون: أرجئوا الشيعة إلى الله، بل كانوا يفتون بقتلهم!
وقد ركّز الإمام الباقر عليه السلام في مئات الأخبار على مسألة القياس، وأنّه باطل وفيه ضرر وينتج عنه فتوى خاطئة، بالمقابل بيَّن خطر ما ينتج عن الإرجاء وأنّه قناعٌ لحماية الظالمين والسلطان، وتكريسٌ لدولة الظالمين. لقد ناقش عليه السلام الزنادقة والخوارج؛ لأنّهم ليسوا في خدمة الظالمين، ولم يلعنهم؛ لأنّهم قد يثوبون إلى الحقّ وربّما يصبحون من أعداء الظالمين، ولهذا فتح حواراً معهم ومع من يفسّر القرآن بالرأي، مثل عبد الله بن عطاء.
روي عن الإمام الباقر عليه السلام: "نحن ولاة أمر الله"، ما هو دور الإمام في ترسيخ قضيّة الإمامة؟
الولاية والإمامة هما ذلك الدور الذي يأتي بعد الدور النبويّ. وعبر العصور، مرّت رسالات الأنبياء عليهم السلام بمرحلتين: المرحلة الأولى هي التي بطش فيها الفراعنة والطواغيت بالأنبياء عليهم السلام، فأنزل الله العذاب وسحق الطواغيت وأبادهم. والمرحلة الثانية تلبّس فيها الفراعنة والطواغيت بالدين؛ أي لبسوا لباس الدين. وحتّى لا تنشأ الطاغوتيّة في حضن دين محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، أسّس الله مؤسّسة معقّدة، هي مؤسّسة الأئمّة عليهم السلام. كما أنّ الطاغوتيّة كانت معقّدة؛ لأنّ طواغيت المسلمين يصلّون ويقرؤون القرآن ويقودون الجهاد ضدّ الكفّار، فيزيدون القضيّة ضرراً وتعقيداً وضلالاً، ويغشّون المسلمين بصلاتهم وصومهم، ويقودونهم إلى الهاوية.
لاحظنا أنّ الطاغوتيّة الإسلاميّة كانت أشدّ وأقسى في الاستيلاء على دولة الإسلام وتجييرها لمصالحها، وقد أنتجت أسوأ الممالك والإمبراطوريّات الفاسدة في تاريخ الإنسانيّة، فاقتضى الأمر منظومةً من أئمّة بمستوى تعقيد المهمّة، وقد كان الإمام الباقر عليه السلام أحد الأئمّة الثلاثة عليهم السلام الذين أعادوا بناء أمّة الاسلام من الصفر بعد كربلاء، وكان له دور في ترسيخ قواعد الإمامة وخصائصها وماهيّتها. ومن أدواره: الحديث عن حقوق الإمام عليه السلام ووظائفه، وأدب العلاقة معه، والتأسيس للأمّة المميّزة التي تمثّل الإسلام المحمّديّ الأصيل. هذا هو دور الإمام الباقر عليه السلام، وهو دورٌ صعبٌ جدّاً.
لقد ترك الإمام الباقر عليه السلام تراثاً هائلاً متنوّعاً، بين التفسير والفقه وجذور الأصول العلميّة. ما هي ملامح هذه المدرسة؟
الإمام الباقر عليه السلام في الحقيقة علم محض يظهر في كتب الإماميّة التي تزخر بعبارة: "حدّثنا أبو جعفر"، وهذا دليل على ما يزخر به الإمام الباقر عليه السلام من علوم الفقه والقواعد والأصول. معظم تراثنا نُقل عن الإمام الباقر عليه السلام، بينما قلّ ما نُقل عن الإمام زين العابدين عليه السلام في الفقه، وهذا يؤكّد نظريّتنا كيف أنّ المهام الكبرى توزّعت بين أئمّة أهل البيت عليهم السلام. والإمام الباقر عليه السلام تحدّث في كثير من الموضوعات: أسس قواعد الاستنباط، وأسس قواعد الأصول العمليّة، وأسس القواعد الفقهيّة، وتحدّث بالدقّة عن كيفيّة الوضوء ونواقضه، وأجزاء الغسل، وتفاصيل كثيرة من العبادات. وقد تحدّث في كلّ موارد العبادات والمعاملات، لدرجة أنّ 45% من وسائل الشيعة عن الإمام الباقر عليه السلام، و45% عن الإمام الصادق عليه السلام، و10% عن بقيّة الأئمّة عليهم السلام، وهذا يكشف عن عظيم دوره العلميّ.
ما هو الأثر الخاصّ الذي تركه الإمام الباقر عليه السلام على الأمّة رغم ظروف عصره والتحدّيات؟
لقد أسّس الإمام الباقر عليه السلام دين الله. يقول بعض المؤرّخين إنّ بقاء الإمام زين العابدين عليه السلام بعد كربلاء يشبه نزول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غار حراء، بمعنى أنّه كان وحيداً. ولكن بعد ثلاثين سنة، كان لديه قاعدة من مئة وسبعين عالِماً يسمعون حديثه. وهذه القاعدة التحقت بالإمام الباقر عليه السلام، الذي كشف كلّ تفاصيل دين الإسلام على مستوى العقيدة والفروع والأصول والقواعد، وعُدّ أنّه شمس علوم آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم بعد محنة الطفّ، وخصوصاً أنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام حوصروا من قِبَل بني أُميّة. ولولا الأئمّة الثلاثة عليهم السلام بعد كربلاء، لكان انقضى القرن الأوّل على أئمّة أهل البيت عليهم السلام الأوائل من دون أن يُذكر لهم شيء. لهذا، يُعدّ بزوع نجم الإمام الباقر عليه السلام هو بزوغ نجم الإسلام الذي أرادوا قتله بقتل أئمّة أهل البيت عليهم السلام.
1- بحار الأنوار، المجلسيّ، ج 34، ص 297.