الشيخ تامر محمد حمزة
ما نذكره هنا من نماذج من التراث العلمي للإمام الباقر عليه السلام هو أقل من نقطة
ماء التقطها طائر بمنقاره من بحور علمه ومعارفه. ولقبه بالباقر يعبِّر عن تلك
الحقيقة وعمَّا انطوى عليه من مكنون علم. وقد أخبر بذلك جدّه محمد صلى الله عليه
وآله حيث قال لجابر بن عبد الله الأنصاري: "يا جابر يوشك أن تبقى حتَّى تلقى ولداً
لي من الحسين عليه السلام يقال له محمّد يبقر علم النبيين بقراً، فإذا لقيته فأقرأه
مني السلام" (1). وهو نفسه يدرك هذه الحقيقة وقد كشف عنها عقيب ما أبلغه جابر سلام
جده خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله فقال له الباقر عليه السلام: "أثبت وصيتك
فإنَّك راحل إلى ربِّك, فبكى جابر وقال له: يا سيدي وما علمك بذلك؟ فهذا عهد عهده
إليّ رسول الله صلى الله عليه وآله فقال له: والله يا جابر لقد أعطاني الله علم ما
كان وما هو كائن إلى يوم القيامة" (2).
ولذا فإنَّ العلماء كانوا يطأطئون رؤوسهم على عتبة علومه ويجلسون على مائدته
لينالوا شيئاً من فتات معارفه. وقد روى في ذلك الشيخ المفيد قدس سره بسنده إلى عبد
الله بن عطاء المكي قال: ما رأيت العلماء عند أحد قط أصغر منهم عند أبي جعفر محمد
بن علي بن الحسين "عليهم السلام ". ولقد رأيت الحكم بن عتيبة مع جلالته في القوم
بين يديه كأنه صبي بين يدي معلمه. وكان جابر بن يزيد الجعفي إذا روى عن محمد بن علي
عليه السلام شيئاً قال: حدَّثني وصي الأوصياء ووارث علم الأنبياء محمد بن علي بن
الحسين عليه السلام (3). وقد أورد في البحار أنَّ الذين رووا عنه معالم الدين بقايا
الصحابة ووجوه التابعين ورؤساء فقهاء المسلمين فيقولون: قال محمّد بن علي عليه
السلام, وربما قالوا محمّد الباقر عليه السلام, ولذلك لقبه رسول الله صلى الله عليه
وآله بباقر العلم.
عن سعيد بن المسيب وسليمان الأعمش وأبان بن تغلب ومحمَّد
بن مسلم وزرارة بن أعين وأبي خالد الكابلي أنَّ جابر بن عبد الله الأنصاري كان يقعد
في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله ينادي يا باقر يا باقر العلم, فكان أهل
المدينة يقولون: جابر يهجر. وكان يقول: والله ما أهجر ولكنني سمعت رسول الله صلى
الله عليه وآله يقول: إنَّك ستدرك رجلاً من أهل بيتي اسمه اسمي وشمائله شمائلي ,
يبقر العلم بقراً , فذاك الذي دعاني إلى ما أقول(4). وسأشير إلى مجموعة
عناوين مع ذكر شاهد أو أكثر لكل عنوان بحيث تشكل لنا جزءاً من التراث العلمي للإمام
أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي عليه السلام والملقب بالباقر عليه السلام.
* الأوّل: علم الكلام
بما أنَّ عصر الإمام الباقر عليه السلام كان الزمن الذي تُمَّ فيه التقاء الحضارات
أدّى ذلك إلى طرح الكثير من المسائل الكلامية المعقَّدة والتي عجز الجميع عن
الإجابة عنها فلم يبق إلا الإمام الباقر عليه السلام في الميدان للتصدِّي لتلك
الأفكار والإجابة عنها بالحجة الراسخة والبرهان القطعي وتزييفها وإسقاطها من
الأذهان. سأله رجل فقال له: أخبرني عن ربِّك متى كان؟ فأجابه الإمام الباقر
عليه السلام: ويلك إنَّما يقال لشيء لم يكن: متى كان؟ إنَّ ربي تبارك وتعالى كان
ولم يزل حياً بلا كيف, ولم يكن له كان, ولا كان لكونه كون! كيف ولا كان له أين، ولا
كان في شيء ولا كان على شيء ولا ابتدع لمكانه مكاناً... بل حي يعرف وملك لم يزل له
القدرة والملك... كان أولاً بلا كيف ويكون آخراً بلا أين, وكل شيء هالك إلا وجهه له
الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين (5).
* الثاني:علم التفسير
يُعتبر القرآن المصدر الأوَّل للتشريع. وبما أنّه المعجزة الخالدة وخاتم الكتب
السماوية فهو يحتاج إلى المزيد من العناية والحفظ حتّى على مستوى التفسير لكيلا
تؤوّل آياته بطريقة استغلالية من قبل الطواغيت أو بيانه بأسلوب يخدم أصحاب الأهواء
والترف الفكري, ولذا اعتصم الإمام محمد الباقر عليه السلام كبقيَّة آبائه وأبنائه
البررة بالقرآن الكريم حفظاً وتفسيراً وتعليماً وتلاوة لتحقيق أمرين أساسَيْن,
أوّلاً، بيان مضمون القرآن والإشارة إلى بعض حقائقه بهدف إيصال الكنوز المعرفيَّة
والحكمية والأحكام الواقعية الى الناس إذ هو أحد أفراد الراسخين في العلم وثانياً،
لصيانة الكتاب العزيز من أيدي العابثين وإبطال زيف أفكارهم ولبيان أنَّ دين الله لا
يصاب بالعقول، هذا بالإضافة إلى أنَّه يريد الإرشاد إلى أهل الذكر فهم أدرى بما في
القرآن. ويدل على ما ذكرناه من الأمرين قول الإمام الباقر عليه السلام عن القرآن
حيث قال وليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن, الآية يكون أولها في شيء
وآخرها في شيء وهو كلام متَّصل متصرف على وجوه (6).
وعن الثاني: ما قاله
لقتادة معترضاً عليه بقوله عليه السلام:"بلغني أنَّك تفسِّر القرآن" فقال له: نعم.
فأنكر عليه الإمام عليه السلام قائلاً: "يا قتادة إن كنت فسرت القرآن من تلقاء نفسك
فقد هلكت وأهلكت , وإن كنت فسَّرته من الرجال فقد هلكت وأهلكت يا قتادة: ويحك إنما
يعرف القرآن من خوطب به" (7). ومن يتأمَّل في أغلب تفاسير الآيات الشريفة يجد
أن الإمام الباقر عليه السلام يبين المعنى الحقيقي الباطني للآية وأن محورها الأساس
هو الولاية. ونذكر نموذجا واحداً في تفسير قوله تعالى
﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ
وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى﴾
(سورة طه: 82) فقال: ثمّ اهتدى إلى ولايتنا فوالله لو أنَّ رجلاً عبد الله
عمره ما بين الركن والمقام ولم يجئ بولايتنا إلا أكبَّه الله في النار على وجهه(8).
* الثالث: علم الحديث
فالسنّة الشريفة هي المصدر الثاني للتشريع الإسلاميِّ الحنيف. وبما أنَّنا نعتقد أنَّ
قول الإمام وفعله وتقريره من السّنة أيضاً فهذا يعني أنَّ السير عليها توصل صاحبها
إلى معرفة الحكم الواقعي. ويُعتبر الإمام الباقرعليه السلام مع ولده الصادق
الرائدين الأساسَين للسّنة لكثرة ما صدر عنهم من أحاديث ولكثرة تلاميذهما الذين
تحملوا عنهما الروايات ونشروها حتَّى بلغت الخافقين وبحسب المتتبِّع فالذي يبدو أنَّ
المرويّ عن الإمام الباقر عليه السلام يقارب سبعين ألف حديث. وقد وضع عليه السلام
ميزاناً لمعرفة منزلة الشيعي بقدر روايته ومعرفته فقد روي عنه عليه السلام "إعرف
منازل الشيعة على قدر رواياتهم ومعرفتهم, فإن المعرفة هي الدراية للرواية وبالدراية
للرواية يعلو المؤمن إلى أقصى درجات الإيمان" (9). أقول وبما أنَّ الأحكام الشرعية
المنقولة إلينا هي عين الأخبار المروية فلا داعي لذكر علم مستقل تحت عنوان علم
الفقه. والمعروف أنَّ علماءنا أعلى الله مقامهم وإلى فترة طويلة يفتون الناس بتقديم
الرواية نفسها واستمر هذا إلى زمان شيخ الطائفة.
* الرابع: علم التاريخ
من جملة اهتمامات الإمام الباقر عليه السلام ما يتعلَّق بحكم الأنبياء السابقين
عليهم السلام وسننهم. وقد نقل عنه الشيء الكثير من ذلك, فقد عرض عليه السلام
لأصحابه ما أوحى الله به لآدم من الحكم (10) ونقل لهم دعاء نوح عليه السلام على
قومه وحكى لهم حكمة سليمان عليه السلام (11) وما تتضمنَّه التوراة. وقد صرَّح
لأصحابه أنَّ النبي إسماعيل عليه السلام هو أوّل من تكلّم بالعربية حيث قال "أوّل
من فتق لسانه بالعربية المبينة إسماعيل وهو ابن عشر سنين". (12) ولم يقتصر عليه
السلام في علم التاريخ على علم الأنبياء السابقين بل نقل الكثير من تاريخ جديه خاتم
الأنبياء صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام.
* وصاياه عليه السلام
تعتبر وصايا الإمام محمد بن علي الباقر عليه السلام من جملة الكنوز العلميَّة التي
تغذِّي الروح وتنمي العقل وتصحِّح السلوك لما تختزن من قِيَم كريمة ومثل عليا تسمو
بالإنسان إلى خالقه وبارئه. ومن غرر ما أوصى به ما وصلنا من طريق تلميذه جابر بن
يزيد الجعفي: "إعلم بأنَّك لا تكون لنا ولياً حتَّى لو اجتمع عليك أهل مصرك وقالوا:
إنك رجل سوء لم يحزنك ذلك، ولو قالوا: إنك رجل صالح لم يسرك ذلك ولكن أعرض نفسك على
كتاب الله، فإن كنت سالكاً سبيله، زاهداً في تزهيده، راغباً في ترغيبه، خائفاً من
تخويفه فاثبت وأبشر، فإنّه لا يضرك ما قيل فيك وإن كنت مبائناً للقرآن فماذا الذي
يغرّك من نفسك"(13).
(1)
بحار الأنوار، ج 46/ ص 296.
(2) المصدر السابق، ج46/ ص 296.
(3) الإرشاد المفيد، ص 280/ والبحار ج 26/ص 286.
(4) بحار الأنوار، ج 46/ ص 295.
(5) أصول الكافي، ج 1/ ص 88.
(6) وسائل الشيعة، الحر العاملي: ج 27، ص 192
(7) الكافي، الشيخ الكليني، ج 8، ص 312.
(8) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 24، ص 149.
(9) المصدر السابق، العلامة المجلسي، ج 1، ص 106.
(10) المصدر السابق، ج 11، ص 290.
(11) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 3، ص 159.
(12) بحار الأنوار، ج 35، ص 141.
(13) المصدر السابق، العلامة المجلسي، ج 75، ص 163.