مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

مناجاة الذاكرين(4): بِكَ هَامَتِ الْقُلُوبُ الْوَالِهَةُ


آية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي (حفظه الله)


ورد في "مناجاة الذاكرين" للإمام السجّاد عليه السلام: "إلَهِي بِكَ هَامَتِ الْقُلُوبُ الْوَالِهَةُ، وَعَلَى مَعْرِفَتِكَ جُمِعَتِ الْعُقُولُ الْمُتَبَايِنَةُ، فَلَا تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ إلَّا بِذِكْرَاكَ، وَلَا تَسْكُنُ النُّفُوسُ إلَّا عِنْدَ رُؤْيَاكَ، أنْتَ الْمُسَبَّحُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَالْمَعْبُودُ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَالْمَوْجُودُ فِي كُلِّ أوَانٍ، وَالْمَدْعُوُّ بِكُلِّ لِسَانٍ، وَالْمُعَظَّمُ فِي كُلِّ جَنَانٍ".

* مراتب المحبّة
إنّ قلب الإنسان وروحه هما مركز العواطف والأحاسيس، ومن جملة هذه الأحاسيس المحبّة، وعادةً يميل الإنسان ويتعلّق بما يتلاءم مع طبعه. ثم إنّ لهذه المحبّة سلسلة مراتب طوليّة، وفي أعلى مراتب المحبّة "الوله" و"الهيام".

الوله: هو الحيرة من شدّة المحبّة.

والهيام: مرتبة يكون فيها الشخص في حالة جنون وحيرة من شدّة العشق والمحبّة، حيث يتّجه بشكل كامل نحو المعشوق، فينسى كلّ وجوده. وقد كان إبراهيمعليه السلام المظهر التام لعشق الله. وأمّا المرتبة الأدنى من ذلك، فهي التي تتعلّق بالدعاء لله والأئمّة الأطهار عليهم السلام، مثلاً: هناك مَن يعشق الإمام الحسين عليه السلام إلى مستوى يكون جاهزاً لتقديم كلّ وجوده.

والجملة الأولى من هذا المقطع "إلَهِي بِكَ هَامَتِ الْقُلُوبُ الْوَالِهَةُ" تبيّن أوجّ عواطف الإنسان فيما له علاقة بمحبّة الله تعالى. وتشير الجملة الثانية "وَعَلَى مَعْرِفَتِكَ جُمِعَتِ الْعُقُولُ الْمُتَبَايِنَةُ" إلى نصيب كلّ العقول من معرفة الله، وقد خلق الله العقول بحيث تتمكّن من معرفته. ولذلك، فكلّ عقل يمتلك في الحدّ الأدنى، أدنى مراتب معرفة الله.

لذا، نلاحظ وجود مفهومين مختلفين الأول: يتعلّق ببعض الألفاظ أمثال "الهيام" و"الوله"، ذات العلاقة بالعواطف والأحاسيس.

الثاني: يشتمل على ألفاظ أخرى أمثال "النفس"، "القلب" و"العقل" التي تحكي عن هويّة الإنسان وحقيقته، وتشكّل مصدر العواطف والإدراكات والأحاسيس، ومصدر معرفة الله تعالى.

بالتالي نبحث عن هذه المفاهيم ودلالاتها.

* حقيقة الإنسان هويّة ثابتة
تشكّل النفس والروح حقيقة الإنسان وهويّته، وهي حقيقة ثابتة تبقى على الرغم ممّا يحصل في البدن من تغييرات وتحوّلات. هذه هي الحقيقة التي نشير إليها بعبارة "أنا"، وأمّا البدن فهو أداتها. ونحن ندرك النفس والروح الموجودة عندنا، حتّى لو لم نلتفت إلى البدن وأعضائه.

إذاً، البدن وأعضاؤه لا تشكّل هويّة الإنسان وحقيقته. وعلى هذا الأساس، عندما نتحدّث عن ذواتنا وعن الـ"أنا" فلا نشير إلى أبداننا؛ لأنّ البدن دائماً في حالة تغيُّر وتبدّل، وأنّ ما يشكّل هويّة ذواتنا، باقٍ لا يطرأ عليه أيّ تغيير أو تبديل. بالتالي، إنّ حقيقتنا هي النفس والروح، وهما مصدر الشعور والمعرفة ومصدر أحاسيسنا وإدراكاتنا، بينما البدن وعناصر وجودنا الماديّ فاقدة للشعور والأحاسيس والإدراكات، بل هي مجرّد أدوات في خدمة أرواحنا وأنفسنا، لنتمكّن بواسطتها من إعمال إراداتنا وقراراتنا.

* حقيقة النفس والروح
إذاً، الذي نشير إليه بلفظ "أنا" ليس البدن، بل النفس والروح اللتان تشكّلان هوية الإنسان، والبدن ما هو إلّا أداة لذلك. عندما نقول: أنا أقرّر، أنا أفكّر، أنا أحبّ، أنا أغضب، أنا أخاف، فالأنا هنا هي أرواحنا التي ننسب إليها تلك الأفعال والصفات كافّة. وقد استخدم القرآن الكريم عبارة "النفس" وكذلك "الروح" إلى جانب "القلب" و"العقل" وأشباه ذلك. وقد درس أرباب اللغة والتفسير حالات استخدام كل واحدة منها وخصائصها.

والواضح أنّ المقصود من النفس في هذا البحث، وفي مناجاة الإمام السجّاد عليه السلام هو ماهيّتها الفلسفية؛ أي ذات الإنسان وهويّته ومنبع إدراكاته وأحاسيسه، وليس بمعنى بعض المصطلحات أمثال: النفس الأمّارة والنفس المطمئنة، ذوات المعنى الأخلاقيّ والتي تطرح في أبحاث الأخلاق لتبيّن الخصائص الأخلاقية للنفس والروح.

* "القلب" المقصود في المناجاة
كذلك لا يقصد من القلب العضو الصنوبريّ الموجود داخل القفص الصدريّ، بل القلب في البحث القرآنيّ والحديثيّ وفي العرف العامّ، هو حيثيّة من النفس والروح، ينسب إليه بعض الميول أمثال: المحبّة، الميل والإرادة، التنفّر، العداوة وسائر الأحاسيس.

وقد ورد استخدام آخر في اللغة العربية وفي القرآن الكريم لهذه الحيثيّة من النفس أيضاً، عبر التعبير بـ"الفؤاد". وبناءً على اشتراك كلمتي "القلب والفؤاد" في التعبير عن معنى حيثيّة الإحساس والعواطف في النفس، فقد تحدّثت الآيات الشريفة عن أمّ موسى عليه السلام عندما أمرها الله أن تلقيه في اليمّ، لينجو من الأعداء، ووعدها بأنّه سيعود إليها وسيكون من الأنبياء، ووصفتها بعد ذلك بـ: ﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (القصص: 10).

بعبارة أخرى، القلب هو نفس الإنسان؛ من حيث إنّ له إدراكات وأحاسيس وعواطف.

* الإدراك في "العقل" و"القلب"
تستخدم عبارة "العقل" باعتبارها الجهة المدركة في النفس، فتنسب إدراكات النفس إلى العقل الذي هو شأنٌ من النفس. ونسب القرآن الكريم التعقّل والإدراك إلى القلب أيضاً، مثال ذلك: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا (الحج: 46). وتجدر دراسة ما إذا كان العقل والقلب من جملة قوى النفس أو أنّهما من شؤونها. فالمشهور بين الحكماء أنّ العقل ليس قوّة خاصّة، بل العقل هو محلّ النفس، كما لا يمكن اعتبار القلب قوة خاصّة؛ وذلك لأنّه ينسب إليه أعمال متنوعة تتفاوت من حيث طبيعتها، فبعضها انفعال وبعضها الآخر فعل. وقد نسب القرآن الكريم الانتخاب والاختيار إلى القلب: ﴿لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ (البقرة: 225)؛ أي اختارت وفعلت.
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع