آية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي (حفظه الله)
هذا المقال هو تتمّة لشرح "مناجاة الذاكرين" للإمام
السجّاد عليه السلام حيث قال: "وَأسْتَغْفِرُكَ مِنْ كُلِّ لَذَّةٍ بِغَيْرِ
ذِكْرِكَ، وَمِنْ كُلِّ رَاحَةٍ بِغَيْرِ أُنْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ سُرُورٍ بِغَيْرِ
قُرْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ شُغُلٍ بِغَيْرِ طَاعَتِكَ". أمّا محور الحديث فهو حول
حقيقة اللذّة، فيما نستكمل، في العدد القادم، الحديث عن احتياجات الإنسان.
* حالات أولياء الله
ممّا لا شكّ فيه أنّ الإنسان، وباعتبار قواه المتنوّعة، يمتلك لذّات مختلفة، حيث
تظهر هذه اللذائذ طوال حياته، ومع تقدّمه في العمر. وقد تكون اللذائذ ماديّة وقد
تكون معنويّة. تظهر اللذائذ من خلال تعلّق وارتباط الإنسان بها. إنّ أولياء الله
الذين تخلّصت أرواحهم من التعلّق بالأمور الماديّة يصلون إلى مرحلة تجعلهم يبحثون
عن لذّة ذكر الله فقط، بل ويعتبرون كل لذّة أخرى نوعاً من الخسران الذي يجب
الاستغفار منه. لذلك فهم لا يلتذّون سوى بذكر الله تعالى.
إنّ الالتفات إلى حالات أولياء الله واهتمامهم وما يطلبون من الله تعالى، يؤدّي إلى
ظهور دافع في الإنسان يحرّكه نحو الطلب من الله تعالى وجود هذه الحالات فيه. وما
نطلبه من الله في أدعيتنا ندرك قيمته، وأمّا إذا كنا غير مدركين لقيمة ما نطلب فلا
نسعى للحصول عليه. لكن عندما نلتفت إلى أدعية أولياء الله وعندما نتعرّف إلى الأمور
التي كانوا يطلبونها، عند ذلك نسعى لتكون تلك الأمور محور أدعيتنا. ومن جملة الأمور
التي كان يطلبها أولياء الله ما جاء في كلام الإمام السجّاد عليه السلام في "مناجاة
الذاكرين": "وَأسْتَغْفِرُكَ مِنْ كُلِّ لَذَّةٍ بِغَيْرِ ذِكْرِكَ، وَمِنْ
كُلِّ رَاحَةٍ بِغَيْرِ أُنْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ سُرُورٍ بِغَيْرِ قُرْبِكَ، وَمِنْ
كُلِّ شُغُلٍ بِغَيْرِ طَاعَتِكَ".
* حقيقة اللذّة
في بداية هذا المقطع يستغفر الإمام من كلّ لذّة غير إلهيّة ومن كلّ لذّة تحصل من
غير ذكر الله، ويطلب العفو من الله تعالى.
قيل في تعريف اللذّة إنّها عبارة عن: إدراك كلّ أمر ملائم للطبع، وفي المقابل
فالألم عبارة عن: إدراك كلّ ما هو مخالف للطبع.
وتوضيح ذلك أنّ للإنسان قوى ولكلّ واحدة من القوى احتياجات، وعندما تتهيّأ تلك
الاحتياجات تحصل للإنسان حالة داخليّة خاصّة يقال لها اللذّة. إنّ هذه الحالة هي
الإدراك الحاصل للشيء الذي يميل نحوه. فاللذّة الداخلية هي عامل حركة الإنسان
للحصول على احتياجاته الماديّة والمعنويّة وعلى كمالاته، وهي الدافع نحو النشاط
والعمل في الحياة. من ناحية أخرى هي نتيجة وثمرة ذلك؛ لأنّ الدافع هو العلّة
الغائيّة للسلوك، وهذه عبارة عن النتيجة والثمرة التي تترتّب على السلوك. من جهة
أخرى، يمكن اعتبار اللذّة كمالاً نسبيّاً للموجودات صاحبة الشعور؛ لأنّها صفة
وجوديّة يمتلك البشر استعداد وجودها(1).
* العبادة لذّة الملائكة
يُستفاد من ظاهر الآيات والروايات أنّ الملائكة يلتذّون بما يتناسب مع وجودهم، حيث
إنّهم يلتذّون بعبادة الله تعالى؛ أي أنّ الله تعالى قد خلقهم بحيث يكونون مشغولين
بالعبادة دائماً فيلتذّون بذلك. يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "وإنّ
للّه ملائكةً رُكّعاً إلى يوم القيامة وإنّ للّه ملائكةً سُجّداً إلى يوم القيامة"(2).
ويقول الله تعالى:
﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ
لَا يَفْتُرُونَ﴾ (الأنبياء: 20).
وللحيوانات لذَّات شبيهة بلذَّات الإنسان. من هنا، فالحيوانات تعتريها حالات شبيهة
بحالات الإنسان عندما تتحقّق احتياجاتها الطبيعيّة. من جهة أخرى، عندما يقوم
الإنسان بإلحاق الأذى بالحيوان يصدر عنه أصوات وردّات فعل تدلّ على إحساسه بالألم.
* الحكمة من وجود اللذّة
إذا سأل سائل: لماذا جعل الله اللذّة للموجود المُدْرك؟
ممّا لا شكّ فيه أنّ الملذّات التي تعود للموجودات صاحبة الإدراك والشعور، ليست دون
علّة وحكمة. من جملة هذه الحكم أنّ الموجودات الحيّة وصاحبة الإدراك والشعور تحتاج
من أجل بقائها إلى موادَّ تجتذبها، وأمّا إذا لم تشعر باللذّة بعد جذب تلك الموادّ
وتأمين الاحتياجات، فإنّها تفقد الدافع نحو تهيئتها، وبالتالي لا يمكن أن ترتفع
حاجتها. مثال ذلك: إذا لم يشعر الحيوان الجائع بالجوع والحاجة ولم يلتذّ بتناول
الطعام، فهو لا يأكل وبالتالي لا ترتفع حاجته. وإذا لم نشعر نحن بالجوع، ولم نرفع
النقص الحاصل عندنا، وإذا لم نلتذّ بتناول الطعام، فإنّنا لا نتحرّك نحو تأمين
الطعام وتناوله. فلو لم تكن اللذّات الحيوانيّة موجودة، لاختلّت حياة الإنسان
ولتوقّف عن النشاط؛ لأنّ أغلب نشاطات الإنسان تحصل من أجل لذّة البطن وكافّة
الملذّات الحيوانيّة. إذاً، توجب الحكمة الإلهيّة ذات العلاقة بالموجود، صاحب
الاحتياجات والنواقص التي يجب أن يتحرّك لرفعها، أن يشعر ذاك الموجود بالنقص والألم
من ذاك النقص، وأن يشعر باللذّة عندما يتمكّن من تأمين ذاك النقص وتلك الحاجة.
* الحاجة والتدرّج في الطلب
ممّا لا شكّ فيه أنّ الملذّات متنوّعة بحسب قوى الإنسان المتعدّدة، ولكلّ واحدة من
القوى والإدراكات ملذّات خاصة بما يتناسب معها. وبما أنّ القوى الإدراكيّة تحصل عند
الإنسان بالتدريج فمن الممكن أن تصل قوّة ما عند شخص إلى فعليتها ولا تصل عند آخر
لذلك، فاللذائذ يتمّ إدراكها بالتدريج مع وصول استعدادات الإنسان إلى فعلياتها(3).
أ- لذّة رضاعة الحليب
إنّ جولة سريعة على لذائذ الإنسان طوال حياته تخلص بنا إلى أنّ اللذّة الأولى للطفل
والتي تظهر مع ولادته، هي لذّة رضاعة الحليب؛ لأنّ الحاجة إلى الطعام من أوائل
الاحتياجات الضروريّة له. لذلك يلتذّ الطفل بتناول الطعام ورفع الجوع.
ب- لذّة اللّعب
وتشير الدراسات في مجال علم نفس الطفل إلى أنّه يلتذّ عندما يكون في حضن الأم ويشعر
بحنانها. وعندما يكبر الطفل شيئاً فشيئاً ويتعلّق بالألعاب، فإنّه يلتذّ باللعب
بها، وتصبح هذه اللذّة مضاعفة بحيث يجعله اللعب ناسياً جوعه. تبيّن الدراسات أنّ
دليل هذه التغيّرات هو أن النموّ الفكريّ والذهنيّ للطفل يحصل عن طريق اللعب، فإذا
لم يلعب الطفل لا ينمو ذهنه بالشكل الكافي. إذاً، وهب الله تعالى الحاجة إلى اللعب
عند الطفل من أجل نموّه الفكريّ والذهنيّ، لذلك نراه يلتذّ عند وجوده مع رفاقه.
وفي النتيجة، عندما ينمو عقل وفهم الطفل بالتدريج، يلتفت إلى عاداته القبيحة فيخجل
من الإتيان بها، وعندما يشاهد الآخرين يستهزئون به، يحصل نوع من التعارض والتناقض
في داخله ممّا يدفعه إلى ترك العادات القبيحة.
ج- لذّة الشعور باستقلاله
ينمو الطفل شيئاً فشيئاً ويكبر، فتظهر عنده احتياجات جديدة يلتذّ بتأمينها. من جملة
هذه الاحتياجات الشعورُ بالاستقلال، فيصبح الطفل غير راضٍ عن أن يقوم الشخص بوضع
الطعام في فمه، بل يحاول أن يقوم بذلك بنفسه ودون مساعدة الآخرين. في هذه الحالة
نجد الطفل يلتذّ بكونه قادراً على الإمساك بالملعقة ووضع الطعام في فمه.
من جملة الاحتياجات الأخرى التي تظهر عند الطفل في مرحلة الطفولة، الحاجة إلى
التشجيع. يعمل الطفل من أجل تأمين هذه الحاجة من خلال القيام بأعمال قد تكون في بعض
الأحيان غير معقولة، وذلك لأجل جلب انتباه الآخرين ليقوموا بتشجيعه. (للحديث
تتمّة).
1- نحو صناعة الذات، محمد تقي مصباح اليزيديّ، ص83 - 84.
2- بحار الأنوار، المجلسي، ج59، ص174.
3- نحو صناعة الذات، (م.س)، ص86.