صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

مناجاة المريدين (10): وفي محبّـتك وَلَهي

آية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي (حفظه الله)


المقال الذي بين أيدينا يتابع، كما المقالات السابقة، شرح مناجاة المريدين للإمام السجاد عليه السلام، حيث يشير الإمام عليه السلام في هذا المقطع إلى مرتبة من المحبة التي هي أعلى مرتبة من العشق الملتهب "وفي محبّـتك ولهي، وإلى هواك صبابتي، ورضاك بغيتي، ورؤيتك حاجتي، وجوارك طلبتي..."(1). والسؤال الذي يمكن أن يطرح هنا هو: هل أن محبة الله أمر واجب، أم أنه أمر مستحب وفضيلة؟


*مراتب المحبّة
في الجواب يجب القول إن للمحبة مراتب: إحدى مراتب المحبة لازمة للإيمان بالله تعالى ومقدّمة للواجب، وأما كونها مطلوبة فلكونها ذات بُعد آلي. إنّ ذاك المقدار من المحبة لله الذي يدفع الشخص للقيام بالواجبات وترك المحرمات، هو مقدّمة للواجب ووجوبه عقليّ. فإذا ادّعى شخص الإيمان ولكنّه عصى أوامره تعالى وترك الواجبات فإيمانه كاذب.

كما إنّ لمحبة الله مراتبَ مستحبة، أما أعلى مراتبها فهي التي تدفع الإنسان لطلب كافة الكمالات من الله تعالى ويعتبر أن لا وجود لأيّ كمال مستقلّ وراء الكمالات الإلهيّة.
إنّ مفهوم المحبة هو المفهوم المحوريّ والأساسيّ في مناجاة المريدين، وقد طُرح بعناوين متعدّدة من أبرزها: "الحبّ"، "الودّ"، "الصبابة"، "المراد"، "الرغبة"، "الوصل"، "الشوق"، "الولَه"، "الهوى".
في اللغة العربية حوالي عشرين عبارة قد وضعت للمحبة، جاءت تسع منها في هذه المناجاة حيث تشكّل كلّ واحدة منها مرتبة من المحبة والتي هي مصطلح عام وجامع لتلك المراتب.

*مراتب محبة الله الواجبة
أ- المحبة اللازمة للإيمان بالله:
هناك العديد من العبارات التي تحكي عن المحبة والعشق في الآيات والروايات والأدعية والمناجاة الواردة عن عظماء الدين، لذلك يطرح السؤال التالي: هل محبّة الله أمر واجب يجب العمل لاكتسابه أم أنّه فضيلة وأمر مستحب؟

في الجواب يجب القول، إنّ لمحبة الله مراتب متعددة، وإنّ إحدى مراتب المحبة لازمة للإيمان؛ بمعنى أنه لا يمكن للشخص أن يؤمن بالله ولا يكون محبّاً له. مع العلم أنّ الإيمان على خلاف العلم، الذي قد يحصل من دون اختيار، فهو أمر اختياريّ بالكامل. ومن هنا، يكون الإيمان متعلقاً بأمر الله تعالى؛ يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالله وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا (النساء: 136).

يأمر الله تعالى في الآية الشريفة المؤمنين بالإيمان. ويتّضح من هذا الأمر الإلهي أنّ الإيمان أمر اختياري. المسألة الأخرى هي لماذا يأمر الله المؤمنين بالإيمان وهم قد آمنوا قبل ذلك؟
يقول المرحوم العلّامة الطباطبائي قدس سره في توضيح هذه المسألة: "... أمرَ المؤمنين بالإيمان ثانياً بقرينة التفصيل في متعلّق الإيمان الثاني، أعني قوله: "بالله ورسوله والكتاب" وإنّما هو أمر ببسط المؤمنين إجمال إيمانهم على تفاصيل هذه الحقائق، فإنّها معارف مرتبطة بعضها ببعض، مستلزمة بعضها لبعض.
فالإيمان بواحد من حقائق هذه المعارف لا يتمّ إلّا مع الإيمان بجميعها من غير استثناء، والردّ لبعضها مع الأخذ ببعض آخر كفر أو نفاق. ولذلك عقّب تعالى هذه الآية بالتعرض لحال المنافقين ووعيدهم بالعذاب الأليم.
وما ذكرناه من المعنى هو الذي يقضي به ظاهر الآية. وهو أوجه ممّا ذكره بعض المفسرين أن المراد بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا، يا أيها الذين آمَنوا في الظاهر بالإقرار بالله ورسوله، آمِنوا في الباطن ليوافق ظاهركم باطنكم"(2).

الإيمان بالله يعني الالتزام بالربوبيّة الإلهيّة. ومن لوازم قبول ربوبيّة الله، طاعته. إذاً، إنّ من يدّعي الإيمان ويعصي أوامر الله ويترك الواجبات ويرتكب المحرمات، فإيمانه كاذب. كما إنّ من لوازم الإيمان بالله، مرتبة من المحبّة. فمن البعيد أن يكون الشخص مطيعاً لله ويعتبره ولياً لنعمته ويعترف بحاجة ماسة إليه، ولا يكون محبّاً له.

ب- المحبة ملازمة للعمل بالتكاليف الإلهية:
المحبة الأخرى، لله تعالى، والتي هي واجبة بالوجوب العقليّ من باب كونها مقدّمة للواجب، هي المحبة التي توجب الإتيان بالواجبات وترك المحرمات. وأمّا مطلوبيتها فهي لكونها أداة ومقدّمة. وتوضيح ذلك، أنّ للإنسان احتياجات عديدة قد يتعارض بعضها مع بعض في مقام العمل، وأما ترجيح بعضها على الآخر فيتوقف على كون البعض منها أكثر أهميّة أو مطلوبيّة عند الشخص. وبناءً على التعارض في الاحتياجات يجري الحديث حول مسألة التكليف والاختيار.

وعلى هذا الأساس، إذا وقع التعارض بين الملذات الدنيويّة الآنيّة والملذّات الأخرويّة الأبديّة، ثمّ رجّح الإنسان ملذّات الدنيا وغلَبَت محبّةُ الدنيا محبّةَ الله والآخرة، عند ذلك يُحرم من لذّة الاستفادة من رحمة الله. ومن ثمّ، وعلى أثر أفضلية محبّة الدنيا ولذائذها على محبّة الله، يُحْرم من ثمرة محبّة الله القيّمة التي تحصل في إطار طاعة التعاليم الإلهية. مثال ذلك، أن يكون هناك طعامٌ مضرّ للمريض إلّا أنه يحبّه ويرغب في التلذّذ به مع العلم أنّ المريض يرغب في الحصول على الصحّة.

كذلك الأمر، فيما يتعلق بالأحكام الدينية، فإنّها قد تتعارض مع مختلف احتياجات الإنسان. من جملة النماذج التي تذكر، أن الصوم يؤدّي بالإنسان إلى الامتناع عن الأكل والشرب، وبعض الميول الأخرى، واختيار الإتيان بالواجبات الإلهية، وغضّ النظر عن الملذّات الأخرى التي تعارض أحكام الله تعالى؛ لأنّ الإنسان إذا لم يكن محباً لله والآخرة، أو إذا كانت محبته لله والآخرة أقلّ من الأمور الأخرى، فهو يرجح الملذّات الدنيوية على الأخروية.

الإتيان بالمعصية يعني أن يُحبّ الإنسان العاصي شيئاً أو شخصاً أكثر من محبّته لله، وإلّا لو كانت محبة الله غالبة عليه، لكان مطيعاً لأوامره. وطاعة الله تؤدّي إلى القرب منه. ولا يوجد مُحبّ لا يُطِب القرب من محبوبه. وتنشأ معصية الله من كون محبة الله ضعيفة. وعلى هذا الأساس، فذاك المقدار من محبّة الله الذي يدفع الإنسان نحو الإتيان بالواجبات وترك المحرّمات، واجب بالوجوب العقليّ من باب كونه مقدّمة للواجب. وقد جاء في هذا الشأن العديد من الآيات والروايات الشريفة. ومن جملة ذلك، ما أشار إليه الله تعالى حول العلاقة بين محبة المشركين للأشخاص والأشياء التي هي شريكة لله وبين الشرك والكفر: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لله وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لله جَمِيعًا وَأَنَّ الله شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ (البقرة: 165 - 166).

إذاً، من لوازم الإيمان بالله تعالى أن تكون محبّة المؤمن لله أكبر من محبّته للأمور الأخرى. يجب على المؤمن أن يبذُل جهده للحصول على هذا المقدار من المحبة الذي يدفعه نحو الإتيان بالواجبات وترك المحرّمات.

*آباؤكم وأبناؤكم أحبُّ إليكم
وجاء في آية أخرى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ وَالله لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (التوبة: 24).

تشير الآية الشريفة إلى أمور هي محلّ محبّة وعلاقة الإنسان حيث قد يرجّحها على محبّة الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم والجهاد في سبيله. الشخص الذي يجاهد في سبيل الله يجب عليه أن يترك محبة الأب والأم والولد والعمل. ويمكن ذلك إذا غلبت محبته لله وللجهاد في سبيله. ثمّ إنّ الله تعالى يهدد المسلمين في الآية الشريفة بأنّه إذا غلبت محبة هذه الأمور وأصبحت أقوى من محبة الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم والجهاد في سبيله، فالله لن يترك دينه وسيتحقّق أمره القائم على أساس الحاكميّة وانتصار دين الله وسيكون العقاب للّذين تخطّوا أوامر الله ورجّحوا محبّة غير الله على محبّته.

من جملة نماذج العقاب الإلهيّ، بحقّ هؤلاء، هو أنّه يضعهم في زمرة الفاسقين. لن يكتُب لهم التوفيق وعن تحقّق آمالهم، وبالتالي سيكونون في الدنيا من الخاسرين وفي الآخرين من المحرومين وسيبتلون بالعذاب الإلهيّ.


1- الصحيفة السجّادية، ص411.
2- الميزان، السيد محمد حسين الطباطبائي، ج5، ص111 - 112.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع