آية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي (حفظه الله)
على الرَغم من أهميّة ذكْر الله تعالى، يقول الإمام
السجّاد عليه السلام: "إلهي لولا الواجب من قَبول أمرك لنزّهتك من ذكري إيّاك".
والله تعالى يقول:
﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ (البقرة: 152)، ويقول أيضاً:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا
اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾ (الأحزاب: 41).
* لا تسأم من ذكْر الله
والله تعالى شجّعنا على ذكره، في كلّ حال، حتّى في الأحوال التي يخجل فيها الشخص من
أن يراه أحد. يقول الإمام الصادق عليه السلام: "... إنّ ذكر الله عزَّ وجلّ حسن على
كلّ حالٍ فلا تسأم من ذكر الله"(1).
وورد سؤال موسى عليه السلام لله: "إلهي إنّه يأتي عليّ مجالس أعزُّك وأُجلُّك أن
أذكُرك فيها"، وكان الجواب: "يا موسى إنّ ذكري حسن على كل حال"(2).
* نزّهتك من ذكري إيّاك!
بعد الالتفات إلى قيمة وأهميّة ذكر الله، وتأكيد الله تعالى عليه، وأنه أراد منّا
ذكره حتى في أسوأ الحالات، يُطرح السؤال الآتي: لماذا يقول الإمام السجّاد عليه
السلام "لولا الواجب من قبول أمرك لنزّهتك من ذكري إياك"؟ والجواب عن هذا
السؤال ذو شقّين:
الأول: ما أشير إليه وهو أنّ وجود الاستعداد عند البشر، وحتّى المعصومين،
محدود، وأنّ وجودهم هو النقص والفقر الذاتيّ. وبالتالي، فإنّ ما يقومون به وما
يتحدّثون به والمفاهيم التي يتصوّرونها، جميعها محدودة تتناسب مع استعدادهم
الوجوديّ المحدود. إذاً، الذي يتأتّى من استعدادنا الوجوديّ المحدود لا يمكن أن
يكون مناسباً للذات الإلهيّة اللامتناهية ولا يليق بها. حتّى إنّ ذكر الرسول صلى
الله عليه وآله وسلم والإمام المعصوم عليه السلام لا يليق بالمقام الإلهيّ. إنّ
أجسامنا محدودة، وكذلك أرواحنا ناقصة ومحدودة، أيضاً، على الرَغم من أنّها ألطف من
المادة باعتبار أنها لا تتمتّع بالكمالات، والمراتب الوجودية للأرواح الأخرى، وليس
لها إشراف على عوالم الغيب. إنّ هذا النقص والمحدوديّة التكوينيّة، لازمان
للمخلوقيّة، وبالتالي فإنّ ما يصدر عن الموجود المحدود لا يليق بالوجود اللامتناهي
والغنيّ بالذات. ولا يمكن الإشكال على هذا النقص والمحدودية، لأنهما لازمان لكلِّ
مخلوق.
* نقص التوجّه القلبيّ
الثاني: يرتبط بالنقص الاختياريّ، وعدم انتباهنا وعدم إدراكنا لما يليق بذكر
الله تعالى. قد نذكر الله دون أن نلتفت لما يجري على ألسنتنا ولا نهتم لمعاني ذلك.
وإذا كانت الوصيّة بتكرار ذكر "لا إله إلّا الله" مائة مرة على سبيل المثال للوصول
إلى الثواب، فإننا نعمد إلى هذا الذكر، لكنّه ليس سوى لقلقة لسان، لأنّ حالنا لا
يختلف عن تلفّظنا بالعبارات الأخرى. صحيح، أنّ هذا الذكر ذو قيمة، حتّى لو لم نلتفت
إلى معانيه، ويترتّب عليه الثواب، ويمكنه أن يدفعنا نحو التوجّه الحقيقيّ إلى الله
من أعماق قلوبنا، ومع ذلك، فإنّ هذا الذكر لا يصل إلى منزلة ذكر الله الحقيقيّ الذي
يجعل الشخص جليساً مع الله. إذاً، هذا النقص والإشكال يرتبط بذكرنا أيضاً؛ إذ إنّه
فاقد للروح والتوجّه القلبيّ.
* المفهوم والمعنى والمصداق
إذا قرّرنا أن يكون ذكرنا منطلقاً من التوجّه والروح، يجب علينا في أحسن الأحوال
الالتفات إلى معانيه وأن نهتمّ بمفهوم هذا الذكر عدا عن ألفاظه. مثال ذلك، عندما
نكرّر ذكر "يا غفّار"، فإننا نتصوّر في أذهاننا من يغفر ذنوب الإنسان. ممّا لا شكّ
فيه أن تصوّر مثل هذا المفهوم ليس هامّاً وليس بعيداً عن اللفظ الذي يجري على
ألسنتنا وهو مجرّد لقلقة لسان. إنّ هذا المفهوم هو في حدود الخيالات التي تَعبر
أذهاننا باستمرار أو في حدود المطالب العلميّة التي تخطر على أذهاننا. إذاً، عندما
يجري ذكر ما على ألسنتنا، يجب أن نلتفت إلى مفهومه ومعناه وأن نشير بواسطته إلى
المصداق. في هذه الحال نصل إلى توجّه قليل وضعيف إلى الله تعالى.
إذا قرّرنا ذكر الله حقيقة، يجب علينا عند ذكرنا له أن نلتفت إلى معناه، وأن
نلتفت إلى الذات الإلهيّة من صميم القلب.
في ذكر الله، قد تكون الألفاظ مجرّد لقلقة لسان. وتارة أخرى نتصوّر معنى ذكر الله
في أذهاننا؛ إلّا أنّ هذا المستوى من الذكر يختلف بشكل كبير عمّا هو أعلى من ذلك؛
أي أن يتوجّه قلب الإنسان إلى المصداق العينيّ والواقعيّ لتلك الألفاظ؛ أي الله
تعالى. هنا، يجب أن يتحقّق الذكر الحقيقيّ.
* هل اللّسان لائق بذكر الله؟
إذا لم يوفّقنا الله تعالى لنذكره بشكل حقيقيّ ولنجري ذكره على ألسنتنا، فهل ستكون
ألسنتنا وأذهاننا المزيّفة لائقةً بذكر الله والتوجّه إليه؟ تشير الآيات والروايات
إلى أنّ سلوكيات الإنسان كافّة، ومن جملتها المعاصي، تترك آثاراً وضعيّة وحقيقيّة
على وجود وروح الإنسان. مثال ذلك، يقول الله تعالى حول التجسّم العينيّ والأثر
الواقعيّ والملكوتيّ للغيبة:
﴿وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا
أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ
وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ﴾ (الحجرات: 12). تحدّثت الآية الشريفة عن الغيبة وأنّها
بمثابة أكل لحم الأخ. هذه هي الحقيقة، والأثر العينيّ والواقعيّ للغيبة، حيث تتّضح
في الآخرة للجميع. وإذا كانت هذه الحقيقة خفيّة عن أعين الأشخاص العاديين في
الدنيا، فإنّ أولياء الله يشاهدونها، حيث فتح الله تعالى أعينهم الباطنيّة.
مضافاً إلى الغيبة، فإنّ الكذب والشتم وكلّ معصية أخرى، تؤدّي إلى عفونة قلب ووجود
الإنسان. فالعاصي قد تلوّث قلبه ولسانه بأنواع الأوساخ التي لا تخفى عن أعين الذين
يشاهدون ملكوت الأعمال. فكيف يمكن لمثل هذا الشخص أن يذكر الله؟ وكيف يمكنه التوجّه
إلى الله؟
* أكبر نعمة
إذا أردنا توضيح المسألة يمكننا ذكر تشبيه قد يكون ناقصاً من بعض الجوانب. إذا
احتفظ شخص بصورة صديقه في إطار مكسور متّسخ، ألا يُعَدّ هذا العمل إهانة لصاحب
الصورة؟ يليق بالإنسان أن يحتفظ بصورة صديقه في إطار جميل ونظيف. الإنسان يضع الأمر
العزيز والمقدّس عنده في ظرف جميل ومناسب، لا بل يقوم بتعطيره برائحة زكيّة.
والآن، هل الألسنة الملوّثة بآلاف المعاصي تليق لذكر اسم الله النوراني والمعطّر؟
هل يجدر بنا ذكر الله على هذه الحال وأن نسيء الاستفادة من حلمه؟ وهل يجدر بالذهن
الملوّث أن يكون ظرفاً للتوجّه إلى الله تعالى؟ ألا يُعتبر إذنُ الله لنا بذكره،
ونحن على هذه الحال، أكبر نعمة ومنّة قد منحنا الله تعالى إيّاها؟
1- الكافي، الكليني، ج2، ص497.
2- (م.ن).