سماحة السيد حسن نصر الله (حفظه الله)
إنَّ الانتباه للآخرة، ولأحداث يوم القيامة، وما أعدّه الله تعالى لعباده، أو ما توعّد به، يعطي للإنسان طاقة هائلة، في هذه الدنيا، على تحمّل مشقّات الحياة ومصاعبها، بل يُعطي طاقة هائلة على التحمّل والصبر إنْ على أداء التكليف وفعل الطاعة أو تجنّب المعصية.
*هذا الاعتقاد يعين على الصبر
فالإنسان الذي يقرأ في القرآن الكريم ويعتقد، أولاً، بما أعدّ الله تعالى للصابرين، من الأجر العظيم، في تلك الدار، في جنانه، ومن النِّعَم والرزق، ومن الكرامة، فهذا الاعتقاد يعينه على الصّبر، كأن يقال لأحدهم، مثلاً: إنّك ذاهب إلى معركة طويلة، سيسقط فيها شهداء وجرحى ولكنّك في النهاية ستنتصر، فهل تتحمّل وتصبر أم لا؟ هذا الاعتقاد وهذا اليقين يعينه على الصبر، حتماً، وعلى تحمّل المصائب.
ثانياً، هذه الدنيا التي نعيش فيها، وهذه المصائب التي تواجهنا فيها كم تستمر؟ إذا سألنا إنساناً عمره مثلاً خمسون سنة: كم عشت في هذه الدنيا؟ سيقول: عشت يوماً أو بعض يوم. أكثر من ذلك... لو عاش إنسانٌ ما، ألف سنة وسألته السؤال نفسه سيجيب الجواب نفسه "يوماً أو بعض يوم". والمصائب مهما طالت فإنّها مع العمر تنتهي. لذلك، مَن يعتبر أنّ هذه الدنيا محدودة، من ناحية الزمن، زائفة، وفانية، وزائلة حينئذٍ يصبر. أمير المؤمنين عليه السلام يقول: "والسالم منكِ (من الدنيا) لا يبالي إن ضاق به مناخه" لماذا؟ "لأن الدنيا عنده كيوم حان انسلاخه"(1) أي أنّ اليوم وبما فيه سينتهي. هذا يهوّن المصيبة ويعطي صبراً وطاقة على التحمّل.
*يوم تتحقق العدالة
ثالثاً، الاعتقاد بالقيامة وبأهداف القيامة يساعد على الصبر؛ لأن في يوم القيامة تتحقّق العدالة الحقيقيّة، التي ينتظرها المظلومون والمستضعفون، بل البشرية كلها تتطلّع إلى اليوم الذي تقام فيه دولة العدل الإلهي في هذه الأرض وعلى يدي بقيّة الله. ولكن العدالة التي ستُقام هي للأجيال المعاصرة لتلك الدولة، الدولة العادلة. أما ملايين ومليارات الناس منذ خلق آدم وإلى قيام تلك الدولة فلم يروا العدالة إلّا قليلاً. في يوم القيامة، ليس هناك شيء اسمه الإفلات من العقاب، مَن ظَلم سوف يُحاسَب، وهذا يشكّل سكينة وطمأنينة وتهدئة لخواطر كل المظلومين والمعذّبين من بني البشر طوال التاريخ.
*سيجمع الله بينك وبينهم فتحاجّ وتخاصم
وكشاهد على كلامنا، نتذكّر أيام عاشوراء عندما دخلت السبايا على عبيد الله بن زياد وهو يشمت بالإمام زين العابدين عليه السلام ويشمت بالسيدة زينب عليها السلام إذ قال لها اللعين: "أرأيت ما صنع الله بأخيك؟ أجابته: ما رأيت إلّا جميلاً. أولئك قومٌ كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم يوم القيامة فتُحاجّ وتخاصم"(2).
إذاً، مما أعان السيدة زينب عليها السلام على المصاب، وما ساعدها على الصبر، وعلى السكينة هو اعتقادها الجازم بأنّ الله سبحانه وتعالى سوف يجمع بين عبيد الله بن زياد، ويزيد بن معاوية، وعمر بن سعد، وبين الحسين والشهداء وأن الله سيحاسبهم وستقوم عليه الحجّة. إذاً الأنس الحقيقي أن العدالة ستتحقق يوم القيامة.
*كالقابض على الجمر
نعم، إن اعتقادنا بيوم القيامة يعطينا قوة التحمّل وقوة الصبر. وهو ما نحتاجه جميعاً في هذا الزمن وأكثر من أي وقت مضى، لأننا في زمنٍ القابضُ فيه على دينه كالقابض على الجمر.
صحيح، أن فرص الطاعة أكبر من أي زمن مضى، فكمْ من الناس يحجّ ويعتمر أكثر من مرّة، ووسائل النقل ميسّرة والتسهيلات...، ولكن أيضاً وساوس الشيطان والمفاسد، والتفنّن في فعل الحرام تجعل المحافظ على دينه كمن في يده جمر يقبض عليه، وهذا يحتاج طاقة عالية من الصبر والتحمّل.
إنّ أهم طريق اليوم لتزكية أنفسنا ولتربيتها الارتداع عن المعصية وفعل الطاعة والعمل الصالح، وكذلك الاستفادة من العمر المتاح، لأن هذا العمل سيزول وأمامنا حياة أبديّة.
*"عبادَ الله.. اعتبروا"
أختم بنصّ لأمير المؤمنين عليه السلام يؤكّد هذه المعاني: "عباد الله، الله الله في أعزّ الأنفس عليكم وأحبّها إليكم" أي أنفسكم "فإنَّ الله قد أوضح لكم سبيل الحق وأنار طرقه فشِقوةٌ لازمةٌ أو سعادةٌ دائمة، فتزوّدوا في أيام الفناء لأيام البقاء قد دُللتم على الزاد وأُمرتم بالظعن" أي الرحيل والاستعداد للرحيل "وحُثثتم على المسير فإنما أنتم كركبٍ وقوفٍ لا يدرون متى يُؤمرون بالسير... ألا فما يصنع بالدنيا من خُلق للآخرة وما يصنع بالمال من عمَّا قليلٍ يُسلبه وتبقى عليه تبعته وحسابه... اعلموا عباد الله أنَّ عليكم رصداً من أنفسكم، وعيوناً من جوارحكم وحفّاظ صدقٍ [يعني الملائكة] يحفظون أعمالكم وعدد أنفاسكم... وإنَّ غداً من اليوم قريب... فكأنَّ كلّ امرئٍ منكم قد بلغ من الأرض منزل وحدته".
"فاتعظوا بالعِبر واعتبروا بالغِيَر" أحداث الدهر "وانتفعوا بالنُذر"(3) الأنبياء والأوصياء وكُتُب الله سبحانه وتعالى.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفّقنا لأن نكون من الذاكرين، من المعتقدين بيوم القيامة وباليوم الآخر ونستفيد من عمرنا، ومن نِعم الله سبحانه وتعالى علينا أقصى الاستفادة، نتزوّد بها بفعل التقوى لآخرتنا.
(*) من خطاب لسماحة السيد حسن نصر الله (حفظه الله) 31/7/2013.
1- نهج البلاغة، الكتاب 45.
2- مثير الأحزان، ابن نما الحلّي، ص71.
3- نهج البلاغة، الخطبة (157).