آية الله مظاهري
كان الحديث الماضي عن الجهاد بصورة عامة والأجر المترتب عليه وعرفنا أن النصوص القرآنية والأحاديث الشريفة تطلق وصف المجاهد على الذي يُرابط في جبهة الصراع مع الباطل سواءً استشهد أم لا، وعلى كل حال فإن للمجاهد أجراً عظيماً وجزاءً حسناً عند الله تعالى.
وبالطبع لا يوجد ثوابٌ وأجرٌ أعظم من أجر الجهاد في سبيل الله تعالى إلا أجر مجاهدة النفس، وهو أيضاً أحدُ مصاديق الجهاد بالمعنى الأعم.
وللجهاد والمجاهد شروط يتوقّف على تحقّقها تحقق المصداق الواقعي لهذين المفهومين أي بتحقق تلك الشروط يصبح الصراع مع الأعداء جهاداً حقيقياً ويصبح العامل مجاهداً بحق... ويعتبر من يُقتلُ في ميدان المعركة شهيداً.
* شروط الجهاد والمجاهد
الشرط الأول: هو أن يرتكز الجهاد وعمل المجاهد على أساس ديني... وأن تُعتبر الجبهة والجهاد مدرسة لبناء الذات... بحيث يعود المجاهد منها وقد تغيّر فعلاً وأصبح من الربانيين ومن الجديرين بأن يصبح مربياً ومعلماً للآخرين... وإذا لم يكن الحال هكذا فلن يحصد المجاهدون يوم القيامة سوى الحسرة والندم... لأن نسائم الرحمة الإلهية مرت عليهم في الدنيا ولم يستفيدوا منها.
في حين أن المسلم الذي يخوض في المعركة جهادين عنيفين (جهاد العدو الخارجي وجهاد النفس)، يتضاعف أجرُهُ وثوابه، بل وأكثر من ذلك... هكذا شخص إذ قُتل فله أجر الشهيد وإن يقتل فله أجر وثواب المجاهد في سبيل الله أي أنه يحظى برحمة ومغفرة الحق تعالى، وأعظمُ أجر المجاهد وثوابه يأتي من مجاهدة النفس وتنقيتها من الصفات المذمومة... والمجاهد بهذا النوع من الجهاد (جهاد النفس) يشق طريقه إلى جنّات عدن ويصل إلى رضوان الله وجواره ويكون مصداقاً لقوله تعالى: ﴿يا أيتها النفس المطمئنة، ارجعي إلى ربّك راضيةً مرضية، فادخلي في عبادي، وادخلي جنتي﴾.
* الصبر
علماءُ الأخلاق يجمعون على اعتبار صفة الصبر كأساس لبناء جميع الفضائل في الإنسان، فإذا فقد الصبر عجز عن اكتساب أيّ من الفضائل والصفات الحسنة الأخرى، وهي الصفةُ الحميدةُ الضرورية للجميع خصوصاً للإخوة الأعزاء المرابطين على الجبهات. اجتيازُ اللحظات الحرجة والمصيرية في ميادين المعركة لا يمكن أن يتحقق ما لم يكن المجاهد صابراً بكل ما للصبر من معنى.
في الجبهة والحرب هناك الانتصار والهزيمة، الجوع والعطش، البرد والحرّ، الدفاع والهجوم، التراجع والتقدم وغيرها... والمجاهدون حقاً هم الذين يستعينون بالصبر في هذه المواقف الحرجة. وعليهم أن يدعوا الآخرين لهذا العمل المقدس.
إن المعارك التي يفرضها على الإسلام أولئك الجناة والمعتدون وقوى الكفر... تعتبر بناءةً ومفيدة جداً بالنسبة لنا على الرغم من أنها حملت ولا زالت تحمل معها خسائر جسيمة غير قابلة للتعويض... وبسببها يواجه أعزّتنا في ساحة المواجهة العديد من المشاكل الصعبة من الحر اللاذع والبرد القارص... إن أي حرب ورغم مشاكلها وخسائرها الجمّة فإنها بناءةٌ ومفيدة لنا.
إذا تأملنا قليلاً وقارّنا بين وضع مجاهدينا حالياً في المواجهات ووضع جند الإسلام خلال الصدر الأول للإسلام... نستنتج بوضوح أن وضع مجاهدينا حالياً يعتبر أفضل ولله الحمد من ناحية أمور الرفاهية وذلك بفضل التضحيات العظيمة لأمتنا فمسلمو صدر الإسلام كانوا يذهبون إلى القتال حفاةً وتتعرّض أرجلهم العادية للكثير من الجروح والأذى بسبب ذلك، وكانت مؤونتهم في بعض المعارك لا تتعدى التمرة الواحدة.
نعم في عصر الإسلام الأول، عانى جندُ الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم الكثير من المصاعب والمشاكل والجوع والعطش والأذى.
وهنا ينبغي توجيه الشكر لامتنا التي تحركنا لتدبير الجبهة وجبر نقائصها. ولكن يبقى الحال هو أن الحرب تحمل معها عادةً المتاعب والمصاعب وتحدث فيها بعض النقائص... والذي يسدّ كل نقصٍ ويتغلب على كل المصاعب والمتاعب هو صبر وإيمان المجاهدين والمقاتلين، فالصبر والإيمان والرضا بقضاء الله تعالى هو الذي يبعث فيهم القدرة على المقاومة والصمود.
إن الصبر والصمود تجاه الظروف الصعبة هو الذي يدحر في الواقع شياطين الإنس والجن... وهو الذي يوصل المجاهد إلى مقام القرب واللقاء بالمحبوب.
وما أسرع ما تضلُ الشياطين الإنسان وتدفعه إلى أسفل سافلين إذا لم يكن يتحلّى بالصبر.
ولهذا السبب بالذات أولى القرآن الكريم الصبر أهميةً كبيرةً وأشار إليه وإلى متعلقاته في أكثر من مئة مورد.
حديث بسيط في غير موقعه عن المواجهة، التململ وإضعاف معنويات الآخرين... سوءُ الظن وعدم الصبر تجاه بعض الصعوبات المؤقتة... هذه الأمور تسلب الإرادة من الإنسان وتبعث فيه اليأس وتؤدي به إلى سوء العاقبة في حين أن استمرار النشاط والحيوية والتضحية وحفظ الإيمان والعقيدة مرهون بصبر جند الإسلام المجاهدين وبصبر الشعب المسلم.
والصبر تجاه المصاعب والمشاكل في الجبهة هو الذي يربّي الإنسان أما المشاكل والمصاعب والنقائص التي تبدو في الظاهر بلاءً فهي في الحقيقة نعمة الله بالنسبة للرجل الرباني الذي يستعين بها لأجل بناء ذاته ﴿فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربُّهُ فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن، وأمّا إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن، كلاّ...﴾. والقرآن الكريم يرفض كلا الموقفين ويحدّد أن كلا الأمرين "سواءً إعطاء النعم أو إنزال المصائب" هما من أجل اختبار الإنسان وابتلائه لأن الإنسانية قد خرجت إلى حيز الوجودية لأجل العبودية.
إذن فالله تعالى يقول إننا نمتحنكم بالحرب والمصاعب والجوع والحاجة لتمحيص إيمانكم ونختبركم بأخذ الأرجل والأيدي وغير ذلك... لذلك فلا يظن الذين فقدوا أرجلهم أو أيديهم وغيرها في الحرب أنهم لم يحصلوا على شيء ولم يصلوا إلى هدفهم. كلا فهم أعلى مرتبة من الشهداء... المعاق من الحرب له أجرٌ وثواب على كل لحظة تمرّ من عمره شريطة أن لا ينفذ صبره بل يستعين بالصبر ويواصل حياته بمعنويةٍ عالية ويواصل جهاده بحسب قدرته شاكراً الله تعالى على كل حال وأي فضلٍ أعلى من هذا.
للمجاهد الذي يصبر على المشاكل والصعاب في الجهاد ميزتان هما: أن صبرَهُ هذا هو في الحقيقة عبادة يستحق عليها الأجر. وثانياً أن الله تعالى يبشره بأنه من زمرة ﴿أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون﴾... فالمجاهد الصابر فضلاً عن شموله برحمة الله تعالى وصلواته عليه يدخل في زمرة المهتدين، وهذا هو الأمر الأهم،... إذ أن الهداية على ثلاثة أقسام وهي:
1- الهداية التكوينية: وتشمل كل الوجود. فعندما قال فرعون لموسى: ﴿فمن ربكما يا موسى﴾... أجابه موسى عليه السلام: ﴿ربُّنا الذي أعطى كل شيءٍ خلقَهُ ثم هدى﴾... فالله تعالى هو الذي يخلق الخلق وهو الذي يعلمه طريقة الحياة فمثلاً هو الذي يهدي النحل إلى طريقة صنع خلاياه وكيفية امتصاص رحيق الأزهار ووضع العسل... والله سبحانه هو الذي يعلّم الطفل ويهديه إلى كيفية رضاعة حليب أمه... هذه نماذج للهداية التكوينية.
2- الهداية التشريعية: وتعني هداية البشر إلى منهج تنظيم حياتهم ويقوم بمهمة هذا التبيين الأنبياء والقرآن والأئمة والعلماء.
﴿شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس﴾.
﴿إنّا هديناهُ السبيلَ إمّا شاكراً وإمّا كفوراً﴾.
3- هداية الإيصال للغاية: وقد ورد ذكرها أيضاً في القرآن الكريم، وفيها يأخذ الحق تعالى بيد العبد ويُوصله إلى هدفه إذ يشمل الله تعالى عبده المتقي برعاية خاصة ومستمرة، والهداية المذكورة في قوله تعالى: ﴿هدى للمتقين﴾ هي من هذا النوع.
* أداء التكليف الشرعي أهم من الانتصار
أيها المجاهدون... اصبروا في مواطن الجهاد وتواصوا بالصبر... وادعوا الآخرين إلى التمسك بالصبر والاستعانة به... لا تتزلزلوا ولا تهنوا تجاه الهزائم الظاهرية فقد قال إمامنا العظيم: "نحن لم نقم من أجل أن ننتصر أو نهزم... بل أن علينا تكليفاً ويجب أن نؤديه. ولهذا نهض إمام الأمة لوحده... وما كانت انتفاضته من أجل الانتصار أساساً... بل من أجل أداء الواجب الإلهي... وكلما كان البعض ينصحونه كما يدّعون بترك الثورة كان يرفض ما يقولون ويردّ بأن "لدي تكليفٌ شرعيٌ عليّ أن أؤديه، فإذا تمكنتُ من الوصول إلى ثمرته فقد حصل المطلوب... وإذا لم أصل ولم أحقق شيئاً فقد عملت بواجبي الشرعي على كل حال".
في الحرب أيضاً كذلك، فالمهم فيها أداء الواجب الشرعي الإلهي... وحسنٌ جداً إذا فتحتم البلاد، أما إذا حققتم فتحاً كبيراً ولكن لم يكن هذا الفتح بنية أداء التكليف الشرعي، فاعلموا أن هذا الإنجاز ليست له أية قيمة عند الله، بل على العكس أن جزاءه هو النار والعذاب.
وإذا كان الرأي الشخصي لأحد المجاهدين يتعارض مع أوامر القيادة فعليه أن يضحي بالتنازل عن رأيه وقناعته حرصاً على مصلحة الإسلام، قتلُ العدو ليس مسألة مهمة جداً، العمل الصعب والمهم هو تحمل الرأي المخالف للقناعة الشخصية والتنازل عن الرأي الشخصي حرصاً على مصلحة الإسلام.
اصبروا وصابروا وليكن لديكم صدرٌ واسعٌ بحيث تلتزمون الهدوء وتعملون لله سبحانه وتعالى... وتصبرون حتى لو أساء البعض ممن تحت إمرتكم القول فإن السكوت هنا لرضا الله.
عندما يقع في أيديكم أسيرٌ من قوات العدو... عليكم أن تطعموه وإذا طلب السجائر منكم أعطوه وإذا كان ظمآناً أرووا ظمأه حتى لو كان قبل لحظات يطلق نيرانه عليكم ويقتل بعضاً منكم... يجب أن تشملوه بعطفكم ورعايتكم فهذا هو منطق الإسلام ونهج تعامله.
ففي أثناء فاجعة كربلاء كان مروان بن الحكم والياً على المدينة وقد شنّ آنذاك حملة شرسة على محبي أهل البيت عليهم السلام وأساء إليهم كثيراً وهدم دور بني هاشم وحوّل بعض ضياع الإمام السجاد عليه السلام إلى خرابات،. وبعد أن انتهت واقعة الطف وعاد الإمام زين العابدين عليه السلام إلى المدينة... وامتداداً لثورة الطف انتفض أهل المدينة ضد الأمويين.. وهاجم أهل المدينة مقر حاكم المدينة ومنازل الأمويين وأرادوا هدم منزل مروان واعتقاله... وهنا فكّر مروان إلى أين يلجأ وعند من يضمن حسن التعامل... وتوصل إلى أن لا ملجأ له غير الإمام السجاد، ورغم كل جرائمه بحق أهل البيت والإمام السجاد توجه ليلاً إلى منزل الإمام، فكان ما توقع؛ إذ أحسن الإمام عليه السلام استقباله وأدخله داره وواساه وشمله بعطفه وحسن رعايته وأخذه في الليلة التالية وبمعية عائلته- عائلة مروان- إلى بستان له عليه السلام وهيأ لهم كل ما يحتاجون وكان عليه السلام يجلب الغذاء لهم يومياً بنفسه.
أيها المجاهدون الأعزاء في ساحات المواجهة... اصبروا تجاه المصاعب والمحن كي تستقبلكم الملائكة بالسلام والصلوات عليكم وكي تصلوا إلى الدرجة التي يأتيكم معها الخطاب الإلهي: ﴿يا أيتها النفس المطمئنة، ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي﴾.