"انسحبنا مسافة 4 كلم، كنّا موكباً من الحمّالات، حملنا عشرين مصاباً، وتسعة قتلى، قطعنا بهم المسافة ركضاً، كانت أطول عشرين دقيقة، وأصعب مسافة قطعناها ركضاً في حياتنا، خُيّل إلينا أنّها لن تنتهي، وبآخر رمق وصلنا خارج الحدود". هكذا يروي أحد جنود العدو الإسرائيليّ مواجهات "كراجات دبل"، التي وصفها إعلامهم باليوم الأصعب، فيما رآها المجاهدون مشهداً ميدانيّاً للآية الكريمة: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى﴾ (الأنفال: 17). قصةٌ يروي أحداثها أحد القادة الميدانيّين في عيتا الشعب(1).
- "كراجات دبل"، قصة الرمايات الإلهيّة. ما هي هذه المنطقة؟ وأين تقع؟
في عيتا الشعب، ثمّة منطقة خارجيّة تضم ثلاثة كراجات كبيرة خالية، لم نكن نعرف تقسيمها الداخليّ حينها، حتّى كشفت المواجهة أنّها مفتوحة من الداخل على بعضها بعضاً. حولها يوجد مرتفعات جبليّة وفوقها منازل نزح عنها أهلها خلال أيام العدوان. وقد سبق أن أكل العدو الإسرائيليّ "الضرب" أربع مرات في تلك المنطقة: أصبنا له عدداً من الجنود المشاة، ثم دبابتين، ثم جرّافة، وبحسب منطق العسكر بات العدو مكشوفاً في تلك المنطقة، ما يفرض عليه ألا يفكّر بالتسلّل عبرها؛ لذلك كنّا نتوقع أن يتسلّل من خلال مرتفعات عيتا، التي قد توصله إلى مناطق داخليّة في عيتا، ورصدنا تركيزاً له عليها، رغم ذلك بَقي إجراء الرصد الثابت لكلّ الاتجاهات. وقبل ساعة من مواجهة الكراجات كان أوّل الألطاف الإلهيّة؛ حيث رصدنا تحرّكاً للعدو في منطقة أعلى تلك الكراجات، وتمّ إبلاغنا بضرورة إطلاق النار عليها، فكان القرار إطلاق مضادّ للمدرّعات "سبيكود". تمّ تجهيز الصاروخ وتوجيهه بدقّة، وخرجت إلى حيث المنظار الكبير لأراقب سير الصاروخ، وعندما أطلقه الأخ المعنيّ، سار الصاروخ نحو الهدف لكنّه فجأةً صعد بشكل حاد تُجاه جبل القوزح العالي، وغاب عن أنظارنا، حتّى أنّنا لم نعلم إذا ما انفجر أم لا. أعدنا التدقيق بالاتجاه وكيفية الرماية، كانت العمليّة دقيقة جداً، لم يُسجل فيها أيّ خطأ، ولم نعلم لماذا سلك الصاروخ صعوداً هكذا! اقترح الإخوة إعادة الإطلاق، ولدقّة الأمر وحساسيته فقد استخرنا الله سبحانه على ذلك، وكانت النتيجة "النهي"، فقرّرنا أن نصبر ولو ساعة، وهنا تبلغنا بقصّة الكراجات.
- كيف اشتعل فتيل المواجهة في الكراجات؟
صعد أحد الإخوان إلى مرصد مرتفع؛ ليجري مسحاً عاديّاً للمنطقة، وكان في غير وقته، وهذا ثاني الألطاف، فقرّر إلقاء نظرة على الكراجات وما حولها عبر منظار صغير، فلمح حركةً خارج أحدها، دقّق النظر، فرأى شخصاً قد خرج، ولم يكن واضحاً إن كان مدنيّاً أم عسكريّاً، ثمّ تبعه شخص آخر، فقام الأخ مباشرة بإبلاغنا. تواصلت مع الرابط، وطلبت منه التوجه إلى المرصد الأساسي، وأن يوجّه المنظار من مرتفعات عيتا نحو كراجات دبل، فتبيّن له ظهور أربعة أشخاص، فذهبت إليه لمساندته بالرصد، حتى ظهر شخص خامس وسادس وسابع، ما جعلنا نوقن بأنّ عدداً كبيراً من قوّات العدو داخل الكراج.
- ما كان الخيار في مواجهة هذه المعطيات؟
كنا في تلك اللحظة نتوقّع تسلّلاً بريّاً من قوات العدو الصهيونيّ، فكنّا نترقب الدبابات والجرافات لقصفها؛ لمنع أي تقدّم لهم. ولقد كان لدينا في هذا الوقت عددٌ من المشاة، ولا نحتاج إلا إلى الإذن باستخدام الصواريخ. بعد اتصالات عدّة ومناقشة الاحتمالات لاتخاذ الخيار المناسب: هل ندّخر الذخيرة أو نستخدمها؟ جاء الإذن بالرمي؛ وذلك لأنّ تسلّل العدو من هناك كان خطراً على عيتا، وأثناء ذلك رصد الرابط 5 أشخاص إضافيين، فلم يعد ثمّة مجال للنقاش، والهدف "محرز"، طلبت من الأخ المعني تجهيز صاروخ، مع العلم أنّ مُسيّرة MK لم تفارق المكان، وكانت عملية نقل الصاروخ خطرة، وقد تكشف موقع الإطلاق الذي لم ينجح العدو في كشفه، فكنّا أمام مجازفة كبرى، لكنّها ضرورية. عدونا مسافة 2900 متر، ووجّهنا الصاروخ تُجاه الكراجات ليطلقه المساعد، وتواصلت مع المجاهد المعني بصاروخ سبيكود الأول؛ ليحوّل وجهته إلى الهدف الجديد في حال اضطررنا إلى ذلك، ثم توجهتُ إلى المرصد.
- ماذا كانت النتيجة؟ وهل ثمة لُطف ثالث؟
في ذلك الوقت لم نكن نعلم كيف كان تقسيم الكراجات من الداخل، فرمينا من الجهة التي رصدنا منها الحركة، بانتظار رمي الجهة الأخرى في حال تبيّن وجود عدد أكبر. دخل الصاروخ من الكراج الذي من جهة اليمين وولج إلى الكراج الثاني لينفجر داخل الكراجين المتلاصقين. في المنظار شاهدنا الكراجات تتهدّم، وأفراد القوّات المعادية يخرجون بهدوء غريب. تبيّن أنّهم فقدوا تركيزهم لوهلة نتيجة قوّة الانفجار، وبدأ اللهيب يتصاعد، وبدأت الإصابات تظهر، هذا يخرج ويرمي نفسه على الأرض ليطفئ النار المشتعلة فيه، وذاك يركض ويقع ثم يقوم ليقع ثانيةً، وثالثٌ يزحف أرضاً، ورابعٌ يحاول إخماد النار في قدميه ويصرخ، ثم بدأوا بخلع ثيابهم المحترقة. كان كلّ فرد منشغلاً بنفسه، خرجوا كالنحل بأعداد غفيرة، كان صراخ بعضهم يرعب بعضهم الآخر. تضاعفت ألسنة النار ورصدنا انفجارات متتاليّة، كان سببها أنّهم يحملون حقائب "ساك" تحتوي قنابل متفجرة، فزادت طينهم بلّة. وهنا تبيّن اللطف الثالث، أنّ المكان الذي أردنا رميه في بادئ الأمر، لم يكن فيه هذا العدد الكبير من قوات العدوّ. ولقد رصدنا على إثر هذه الضربة 120 شخصاً مصاباً، قيل في التقارير إنّ العدد الإجمالي يقارب الـ 300 عنصر، إضافة إلى الهدف الأول الذي لو أصبناه، لتنبّهت هذه الأعداد الكبيرة من قوّات العدو، ولاستطاعوا الفرار أو اتخاذ التدابير الوقائيّة، وأيضاً لاستطاعوا التسلّل إلى داخل عيتا في تلك الليلة، مع ما يحملون من عدّة وعتاد وذخائر.
- هل نجح أحدهم بالهروب؟
عندما أدركوا الأمر بدأوا بإخلاء الجرحى، وتجمّعوا في الكروم. أحصينا منهم عدداً كبيراً، وعلى إثر ذعرهم (بحسب ما قرأنا رواية أحد جنود العدو في الصحف) اعتقد ضابط أنّ الصاروخ قد أطلقته قوّاتهم الجويّة خطأً، فبدأ يصرخ على الجهاز: لماذا تطلقون النار علينا؟ هؤلاء نحن. وهنا جاء دور صاروخ "السبيكود" ليصيب من تبقى منهم. يقول الجندي: "الصاروخ الثاني قتل الضابط وكلّ من بقي معه في بقعته"، فأخذوا قراراً بالاختباء في المنازل المهجورة، التي تبعد نحو 100 متر، وأحصينا عددهم في كلّ منزل لإبلاغ القيادة والاستحصال على إذن بقصفهم. فجأةً خرجوا ركضاً مرعوبين، ينتقلون بسرعة مع القتلى والمصابين. وبحسب التقارير علمنا أنّ الضبّاط ذعروا فصاروا يقولون إنّهم مكشوفون، فأخذوا ينتقلون بكلّ ما معهم من مكان إلى آخر كالقطيع يلازمهم الذعر والخوف، حتى جاء الليل، فحضرت مروحيّة لسحب من تبقى منهم مع غطاء جويّ من القصف المكثّف، وهو ما أشار إلينا بإمكانيّة وجود إنزال، تصدى الإخوة لهم، ففشلوا في سحب قوّاتهم. يقول الجندي: "أخذت أنا وأحد الضبّاط نعطي إشارات عن وجودنا؛ ليأتينا الجواب: المنطقة غير آمنة لهبوط المروحيّة، عليكم بالانسحاب برّيّاً". يتابع الجندي: "كانت أطول مسافة قطعناها جرياً مع كل ما نحمل من قتلى ومصابين". أمّا نحن، فبقينا نسمع الصهاينة يتداولون على أجهزة اللاسلكي، لثلاثة أيام، أنباء ما يصلهم من أشلاء قتلى "مجزرة دبل".
(1) الشكر الجزيل للإخوة في الإعلام الحربيّ الذين زوّدوا المجلة بهذا اللقاء.