حسين منصور
عيناتا أنشودة العين التي أيقظت كلَّ العيون... بين أقحوان وياسمين وزنبق... زيد ومروان وموسى(*)... وحنين أضرحة لعبير العنفوان المسافر... كي يبعث الدفء في الأرض والأفئدة... والتاريخ... لتسيل دموع المطر... وتمنح هذا التراب فرحه وأنسه بعد أن نبتت في ساحتها زهرة الانتصار....
* الجبل المخلص والشريف
لقد كتبت عيناتا بنفسها صفحات في كتاب نكبة فلسطين، ومن قبل أيام العثمانيين والفرنسيّين، فكانت ملجأ المضطهدين والمظلومين ممّا رسّخ القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية فيها، وصارت هذه كلّها ثقافة الناس في عيناتا... واعتبرت أن الحرب الأخيرة هي بداية تحرير القدس واسترجاع فلسطين وهزيمة أمريكا... وصار جبل عامل النقيّ والمخلص والشريف، يحمل رؤية واضحة من هذه "الحاضرة". ولذا، هو يعيش اليوم هذا العزّ... أكثر من عيش مرارة الأسى على مشهد الدمار وحرمان الدولة وإهمالها. إن عيناتا تعيش بعزٍّ أكبر من هذا بكثير وقد حمله إليها شهداؤها وأبناؤها الصامدون... هكذا يراها رئيس بلديتها الحاج عباس خنافر، ويعتبر أن الثقة بقيادة المقاومة وسيدها صارت مزروعة في الأرض والبشر، وأنها ستبقى بخدمة شعبنا وتحافظ على قوتنا ومقاومتنا، والدفاع عن أرضنا مهما غلت التضحيات.
* جميلة وستبقى جميلة وعزيزة...
اليوم عيناتا تلملم جراح الحرب وآثارها، وتستأنف حياتها كما ترى بشكل طبيعي. وقد تجاوزت المرحلة الصعبة على صعيد الترميم وإعادة البناء... عيناتا كانت جميلة وستبقى جميلة وعزيزة ومنيعة بعين الله... لأنّ كلَّ حيّ وشارع قدّم شهيداً أو جريحاً أو بيتاً مدمّراً. لكن، حافظت عيناتا على كرامتها وشرفها ومقاومتها، وصانتها بالغالي والنفيس، يضيف مختار عيناتا محمد سعيد نصر اللَّه، فلينظر كلُّ أهلنا في كافة البلدان من حولنا، ماذا فعلت قوة الإيمان والصبر والإخلاص؟. لقد استطاعت أن تهزم أقوى جيش في العالم اليوم، وتغلّبت عليه بفضل اللَّه ورعايته. ولأننا تعوّدنا صدق الأمين العام السيد حسن أطال اللَّه في عمره أيقنَّا من كلمته التي وجهها للمجاهدين بحتمية النصر، وأنّ كلّ أيامنا ستتكلّل بالانتصارات إن شاء اللَّه، وأننا سنبقى أعزاءً وأحراراً في أرضنا، وسنبقى أوفياء لشهدائنا ومقاومتنا...
* تحت أهداب الزيتون:
تتذكر والدة الشهيد زيد حيدر كيف كان يعود مع الفجر بحالة يرثى لها من التعب. كان يأخذ سيارة أبيه طيلة الليل، ويحتاط بالصمت. كان يقوم بعمله في الخفاء، تقول: إنني أحسّ عند كل فجر أن صوته يأتي من الخارج وكأنه قادم كعادته، وأحار بين أن أبقى في مكاني أم أخرج لاستقباله. وكم كنت أراه وهو يحمل القرآن وكتاب الدعاء وينزل إلى جانب البيت تحت أهداب الزيتون، لا يخشى أفاعي البراري. يأنس بصلاته هناك مع الأرض والتراب. يمضي الساعات رافعاً يديه نحو السماء دون حائل بينهما وكانت تستمع إليه... فيتمنى الشهادة، والحمد لله كان اللَّه راضياً عنه واستجاب له... هذا البيت ككل بيوت عيناتا، بيت مقاوم، والمعنويات من حديد لا تلين، وشهداؤنا يعرفون أننا لا نخضع، ولا نستسلم، ونحن على دراية بالتضحيات ونعرف قيمتها وأهميتها، وكيف أثمرت التحرير في العام 2000م، وبعده هذا النصر المبين... ولقد أعزَّنا الله أحسن إعزاز بهذه الباقة من شهدائنا الشباب، ومنحنا أعظم الكرامات التي ترجى في الدنيا والآخرة...
يضيف والد الشهيد زيد حيدر: إنّ كل ذلك المشهد القاسي الذي مررنا به، يجعلنا لا نبالي، لوجود سماحة السيد حسن... رمز الأمة العربية والإسلامية. هو المجاهد الأوّل فينا، والمضحي الأوّل لأجلنا، والصابر الأوّل معنا، هذا الرمز الذي يحمل همومنا وآمالنا في قلبه ووجدانه. ونحن عندما نجد بيننا قائداً يعيش من أجل عزّتنا وكرامتنا وحريتنا فإننا لا نبالي... لا نبالي... لا نبالي، بكل التضحيات... ولو أنّ هؤلاء الذين يسمونهم والعياذ بالله شركاءنا في الوطن... لو لم يتآمروا لتضييع هذا النصر... ولم يفلحوا... ولن يفلحوا، لكانت عظمة هذا النصر قد ظهرت في جميع مدن العالم، وهزّت كراسي الطواغيت والأزلام والأنصاب، والمتسلطين على رقاب شعوبهم...
* لا تحرمني منها
وفي جانب آخر من عيناتا، يروي الأخ يوسف موسى وهبي ما حدث بينه وبين والده، يقول: سألته: ما رأيك يا والدي لو نغادر ونخرج من عيناثا تجنباً للمخاطر الكثيرة، وهرباً من القصف الذي لا يرحم ولا يميّز، ونحن على كل حال لن نقدّم أو نؤخر؟ فأجابني والدي قائلاً: يا بني، لا تحرمني من شيء كنت أتمناه طيلة حياتي، لا تحرمني... لأنها اقتربت... أشعر أنّ الشهادة اقتربت، فلا تحرمني منها. هذا الوالد العظيم منحني شيئاً يتمناه كل إنسان على وجه الأرض... صرت أنا ابن الشهيد... فكيف أكافئه؟ والله، ما عدت قادراً على أن استوعب عندما يقولون لي: أنت ابن فلان... ابن الشهيد... وهكذا بعد أن توقف القتال وعدنا إلى عيناتا، ورفعنا أنقاض البيت وأسقفه برافعة ثقيلة، عثرنا على جثة والدي تحت الأنقاض... كانت سليمة وكأنه استشهد منذ لحظات... وأعتبر أنّ هذه كرامة من اللَّه تعالى، وكانت إلى جانبه أشلاء الحاج حسين سمحات... الذي دفعته حميته وشهامته إلى أن يترك ابنته وأولادها، ويندفع صوب منزلنا ليتفقد والدي بعد أن أصيب المنزل بالقصف، فكان نصيبه قذيفة غادرة مزّقت جسده... لكنها لم تمنعه من أن يكون وفيّاً وصاحب نخوة لا يعرف طعمها هؤلاء الأنذال... فقضى شهيداً أيضاً. والعجيب أن صهري إبراهيم النمر، والذي كان مع والدي، أصيب بأكثر من خمسين شظية في أنحاء مختلفة من جسمه وظلّ حيّاً، وراح يزحف بين الأنقاض وهو يسمع أنين والدي، وتمكن من الخروج من المنزل، ثم استطاع أن يقود السيارة ويصل إلى مستشفى الشهيد صلاح غندور وبالتالي أن ينجو من همجية العدو الإسرائيلي بحول الله وقوته...
* بوابة المربع... مربع الأحرار
يضيف يوسف وهبي: لولا استشهاد هؤلاء المقاومين وجهادهم وصمودنا، لما بقيت بقية من بقية الجهاد في الأرض... وسأقول لك بصراحة... كنت إنساناً علمانياً... وبعد كل ما رأيت... أصبحت بكلِّي لله، وبكلِّي لمن يتبع هذا الخط. فلولا هذا النهج، لما بقيت لنا بقية... فالله هو الذي نصرنا... هو الذي نصر المقاومين... وعيناتا الحاضرة دائماً في الأدب والشعر والعلم... كانت حاضرة أيضاً في الجهاد والمقاومة. وأنا أعتقد أن إسرائيل باتت تكره الزيتون، لأجل كرْم الزيتون، وسيُحرِّمون أكله على أولادهم، وكما يُقال: إن الزيتون مُرٌّ... وهذا الكرم جعل حياتهم مُرَّة إلى أبد الآبدين... هذا المربع أعطى للأمة العزَّة والكرامة... ولأجل بطولات شهداء هذا المربع... أتمنى أن نسمّيه: معبر الأحرار لإرادة الزمن الحرِّ المنتصر... رجائي أن يسمعني سماحة الأمين العام المفدّى... صاحب هذا النصر... وأن يسعى لجعل منطقة المربع مزاراً للتاريخ ولكل الشرفاء والأحرار في هذا العالم... وعلى كل من يمر من هناك... أن يأخذ قبضة تراب منه ويحفظها... لأنها صلة الوصل بين الأرض والسماء...
* الجنسية الأمريكية والقذيفة الذكية
كان محمد عقيل حمودة، قد عاد من أمريكا منذ سنتين بعد أن مكث فيها حوالي ثمانية وعشرين سنة أمضاها دارساً ثم قاضياً يدافع عن قضايا المظلومين هناك... ولم ينم خارج عيناتا طيلة هاتين السنتين، وازداد تعلّقه بهذه الأرض، رغم الغياب الطويل عنها... وبدت كأنها عروسه، فهو لم يتزوج. وخلال الحرب، لم يلبِّ نداءات السفارة الأمريكية المتكررة ليخرج من عيناتا، ولم يأبه لتهديداتها بسحب الجنسية منه، وإنما رفض الاستجابة وقال: هذه الأرض التي عدت إليها، لا يمكن أن أخرج منها أبداً إلى أن يمتزج دمي بترابها... وهكذا بقي صامداً حتى اليوم العاشر، حين لاحقته إحدى القذائف الأمريكية الذكية بينما كان يتوجه من تحت الزيتونة إلى داخل البيت، فأردته قتيلاً... كان يهم بإرسال رسالة على هاتفه النقّال... "من محمد عقيل حمودة إلى ابن أختي يوسف..." وتوقفت الرسالة عند هذا الحدّ، وانقطع الإرسال، وبقي الهاتف شاهداً على القتلة...
* بين الرافعة والراجمة... قاومت المرأة
إحدى نساء هذه القرية (ن.ع) علمتنا معنى العنفوان والتفاني... فقد تعطّلت إحدى راجمات الصواريخ... وكانت تحتاج إلى رافعة يدوية ليتمكن الإخوان من تحريكها وإخراجها من مكانها ليطلقوا صواريخهم، وكان القصف المدفعي عنيفاً كالمطر... حوالي خمس قذائف في الدقيقة الواحدة، والمسافة بينها وبين المجاهدين لا تتعدى الخمسين متراً... حملت الرافعة وانطلقت صوبهم، واستغرقت ساعتين لتجتاز هذه المسافة، لكنها وصلت بأمان، وأوصلت الرافعة التي يحتاجونها... إنك لتجد في هذا المشهد، المرأة التي تواجه الخطر، وتعرّض نفسها للقتل لأنّها أحسّت بالجمر يغلي في دمائها، واعتبرت أنها صارت جزءاً من هذه المقاومة، ولم تعد تجد فرقاً بين حياتها أو استشهادها كغيرها من المقاومين.
* الدعاء المستجاب
من جهة أخرى وفي إحدى الزوايا المعتمة والمظلمة لمنزل دمِّر، وعلق داخله سبعة عشر شخصاً... راحت إحدى النساء تدعو: يا ربِّ إذا أردتنا أن نموت، وأنت تعرف كرامتنا عندك فخذنا بلا عذاب... سمعتها ابنتها الصغيرة فقالت لها: ماما، لماذا تدعين، وكأننا سنموت؟!... ولماذا لا ندعو بدعاء الفرج، حتى يفرّج اللَّه عنَّا وينقذنا فلا يُميتنا؟!... ويستجيب الله لدعوة هذه الطفلة البريئة، فتسقط إحدى القذائف على جدار تلك الزاوية، فينشق ويدخل النور منه... فيسارعون إلى الحفر، وإزالة الركام، حتى تمكنوا من فتح الطريق لخروجهم من ذلك البيت المدمّر... هذه المشاهد التي حصلت، كيف لا تؤثر فيك، وأنت ترى المجاهد يقاوم، والرجل المسن يقاوم، والمرأة تقاوم والطفل الصغير يقاوم...!؟
* الرجل الذي صنع أسطورة
في زحمة البطولات التي حصلت في عيناتا... كان هناك رجل يحمل أول الحكمة: "اللَّه أكبر" وآخر الحكمة: "لا إله إلا الله"، ويناجي: "محمداً رسول اللَّه" ويبوح بسرِّ عليٍّ عليه السلام، وينشر في المكان الوصية: "حي على خير العمل"... حين كانت جولات المعارك عنيفة... والقصف على البلدة كالمطر... كان الحاج غانم خادم المسجد يأبى إلاّ أن يرفع الأذان... ولعلّ أذان عيناتا كان يصل إلى قرى الجوار... كان يرتفع ويصل إلى أسماع المجاهدين، فيلهبهم... ويجعل منهم حفاري قبور للإسرائيليين... الأذان في عيناتا كان يجاهد... وأحد الأشخاص من عيترون، قال للأستاذ أحمد سمحات: كنت أشعر بالسعادة والاطمئنان، عندما أسمع صوت الأذان يصل إلينا من عيناتا، فأقول: إن الأمور تجري على خير... ولم يتوقف الحاج غانم عن دوره في المعركة إلا في الأسبوع الأخير... بعد أن دمّر بيته... وأصيب المسجد... ولم يعد قادراً على البقاء...
هذه كانت عيناتا... كتاباً.. وزيتونة... ووردة... وقنديلاً من بيت عتيق... حين نام العالم على قتل الطفل الرضيع... ابن الشهيد أمير فضل اللَّه... حين أخذ العالم يعصر بيديه... زيداً ومروان وموسى... شاهدت الشباب... يحملون الصواريخ... ويطلقونها... رغم أنف عشرين طائرة استطلاع (M.K)... لم تكشفهم... وهم تحتها... أوليس في ذلك أمرٌ إلهيٌّ!... هذه عينة من عشرات ومئات العينات التي حصلت بوجه أولئك المستكبرين والمستهزئين بالنصر الإلهي... نعم حين رأت السماء ذلك كلّه... فتحت أبواب رحمتها وعنايتها، وأنزلت العقاب والهزيمة بأصحابها... وتركت لأيدينا لواء الانتصار...
(*) الشهداء: زيد حيدر، مروان سمحات، وموسى خنافر لا تزال جثامينهم في الأسر.
Aynatha
Mohamad Naji
2019-10-05 20:39:44
جثامين الشهداء الثلاثة اثلاثة استعيدت خلال عملية تبادل الأسرى بعد حرب تموز