تحقيق: زينب صالح خشاب
تحية إلى الشهداء والمجاهدين في ذكرى الانتصار الإلهي
على العدوان الإسرائيلي في حــــرب 33 يوماً، مـــــــــن 12 تمــوز إلــــــــى 14
آب،عــــــام 2006 م.
على امتداد مساحات الانتصار في أحراج تموز وآب، روى الأرض
من الرجال شهداء، رسموا خارطة وطنٍ جديد، غيّر معادلة الشرق الأوسط عام 2006م.
* شهداء الوعد الصادق
هم شهداء الوعد الصادق، الذين بدأت تغيّر الشمس صورهم المعلّقة على الطرقات، راسمةً
خربشات اثني عشر عاماً بأيّامها ولياليها وساعاتها ودقائقها.
خربشاتٌ يخالها الرائي غطّت بغبارها مساحات الغياب فوق تفاصيل ذلك الأب أو الأخ أو
الابن أو الزوج، بيدَ أنّ للبيوت أسراراً لا تعرفها خبايا الزمن، لسان حالها يقول:
"لم يغب الحبيب..".
اثنا عشر عاماً على حرب ضارية لم تُبقِ ولم تَذر، قضت على الحجر وغيّرت ملامح القرى
والمناطق بأسرها. حربٌ ضارية لن ينساها من عاشها أو سمع بها، ولن ينساها التراب ولا
الأثير، إذْ كانت الأعنف منذ سنين.. هي الحرب التي خرجنا منها منتصرين رغم كلّ
الأسى والدمار والدماء والمجازر.. وسرُّ انتصارنا شهداء ثبتوا عقائدهم في الأرض،
فنبتت كروم العزّ والكرامة.
* ما زالوا هنا...
في بيوت أولئك الشهداء لم يمرّ الزمن. بالأمس كان الحبيب هنا، واليوم قد غاب. مَن
قال إنّ الأيام أنسَتْ صوره ووقع أقدامه وصوت همساته وضحكاته ومناجاته؟ من قال إنّ
مكانه قد حلّ فيه غيره، أو إنّ صورته صارت مجرّد ذكرى؟ فهو ما زال هنا، هنا كان
يجلس، وهناك كان ينام، وهكذا كان يتكلم وبهذا كان يوصي. ما الذي تغيّر إذاً يا
عوائل الشهداء؟ ما الذي تبدّل بعد اثني عشر عاماً عجافاً من صورة نبض الفؤاد؟ هنا
يأتي الجواب من أمّة مدرستها عاشوراء: لقد كبر أبناء الشهداء، وصاروا كما أراد
الآباء... مجاهدين في دروب الحياة.. مجاهدين على الجبهات.. وشهداء.
وماذا عن "قاسم" تموز؟ ذلك الشاب الذي تزوّج حورية من الجنان، كيف حُفظت وصاياه؟
هنا يأتي الجواب: "دمه أنتج أجيالاً، جميعها شهداء". وماذا عن "علي الأكبر"، الشاب
المتمثّل في جميع شبّان تموز؟ هل كبر أبناؤه؟ وماذا يعرفون عنه؟ هنا يأتي الجواب: "كبرتُ،
لأصبح مثل أبي..".
* اختارهم الله بعناية
في بيوت الشهداء، كانت لنا جولةٌ، حيث التمسنا بركة أطيافهم التي ما برحت المكان،
لنأخذ منها صوراً، مجرد صور، تمثّل جميع عوائل الشهداء... ومن هذه العوائل، اخترنا
شهداء أربعة: الشهيد وجيه طحيني، والشهيد محمد علي شرارة، والشهيد هلال علوية،
والشهيد محمد كمال سرور.
"يختار الله شهداءه بعناية كاملة، وجميعهم متشابهون في الصفات والأخلاق، حتى إنّه
يُخيّل إليك أنّ كلمة شهيد مكتوبة على جبينه"، عبارة يتّفق عليها كلّ مَن يعرف
الشهداء.. جميع الشهداء، حتى تظن أنهم يتكلّمون عن إنسان واحد، محبوب، محمود الصفات،
خدوم، بارّ بوالديه وبزوجته وأولاده، حتى تعود لتتأمل المميزات التي يتمتّع بها كل
شهيد على حدة، وتعرف كم هم مميّزون حقّاً.
ولأنّ الشهيد عادة ما يتمتّع بهذه الصفات، يصبح موضع محبّة الأهل والجيران، فيصبح "كل
العالم" بالنسبة إلى زوجته وأمّه وأسرته.
* كان كلّ حياتي
"الشهيد وجيه طحيني كان يمثّل لي جميع الكون. يحتل المرتبة الأولى في قلبي. وبعده
يأتي الأهل والأولاد وبقيّة الأحبّة"، تقول زوجة الشهيد وجيه طحيني. تشاطرها الرأي
زوجة الشهيد هلال علوية، التي كان الشهيد لها خير معين وسند في كل صعوبات الحياة،
وبفقده "فقدتُ كل شيء..".
أمّا أم الشهيد محمّد علي شرارة فلها شأن آخر، إذ تشرح: "على الرغم من وجود إخوته
الثلاثة حولي، إلّا أنّه كان الأقرب إلى قلبي. كان كلّ حياتي، لا يأكل لقمة من دوني،
وأنا كذلك.. كان نديم أوقاتي، نتحدّث، نتسامر، جمعتنا علاقة غير عادية منذ ولادته،
فكان يمثّل لي كلّ الوجود".
* "اللهمّ تقبّل قرباننا"
إذاً، كيف صارت حال هذه العائلات عندما أذّنت الشهادة بالرحيل؟
تقول والدة الشهيد محمد علي شرارة: "همس قائلٌ في أذني، أنْ وقعت الواقعة ورحل ولدي..
هنا توقّع الناس أنْ أقع مغشيّاً عليّ.. وأن أموت من وقع الخبر، لكنّي رفعتُ يديّ
إلى السماء قائلةً: "اللهمّ تقبّل قرباننا". لا أدري كيف فعلتُ هذا، لكنّي على يقين
من أن السيدة الزهراء عليها السلام كانت بجانبي، وهي مَن صبّرتني..". أمّا زوجة
الشهيد علوية فتقول: "إنها اللحظة التي تصل فيها إلى ذروة الحاجة إلى الله،
والانقطاع إليه والرغبة عن الناس.. فإلى من تلجأ ما دام الحبيب الأحبّ إليك قد رحل؟
مَن بقي لك في الوجود غير ربّك؟ ومَن مِن الناس سيتحمّل معك الهموم التي تنوء
بحملها الجبال؟".
أمّا زوجة الشهيد وجيه، فتقول: "لا يصبّرك أحد.. إنْ كان العزيز الأعزّ قد رحل، فمن
يأتي لك بالعزاء؟ في تلك الأيام شعرت أنّي وحدي.. لم يبقَ لي سوى الله.. الله فقط..
أيّام قليلة وتعرّفت على مؤسسة الشهيد، فشعرتُ بأنّ ثمّة من سيشاطرني بعض
المسؤوليّات والهموم في حياتي الجديدة".
* ماذا تحقّق من وصاياهم؟
وبعد اثني عشر عاماً.. كيف وأين أصبحت وصايا الشهداء؟ لقد ركّز جميع الشهداء في
وصاياهم على حفظ الأثر، ذاك الذي لا يُحفظ إلّا بالتربية الصالحة للبشر، فأين أصبح
أيتام الشهداء من وصايا آبائهم؟
"كان الشهيد وجيه روح البيت ومحرّكه وقائد دفّته. يهتمّ بأدق التفاصيل، يذهب إلى
مدارس الأولاد، يلبّي حاجاتهم، يقف عند شؤونهم.. يلعب معهم، يعلّمهم، يُرشدهم، فكان
الصديق والأخ والمعين والمثل الأعلى لهم. وجاءت الحرب، فأخذته بغتة منّا جميعاً..
هكذا وجدتُ أنّي وحدي مع خمسة أبناء، صغيرهم لم يبلغ الخامسة، وكبيرهم في السابعة
عشر من العمر.. كيف أتصرّف؟ من سيهتمّ بهم؟ وقد أوصى الشهيد أنْ يُكملوا علمهم،
وشدّد على ذلك. تخيّل أن يطلب الشهيد في آخر لحظات حياته، من محبّيه أن يحافظوا على
خط ولاية الفقيه، وخط المقاومة، وطلب العلم، ثم لا يفعل أبناؤه ذلك؟ لقد أوصى وهو
ينزف أنْ يكمل أولاده تعليمهم.. أن يصبح ابنه "نجيب" طبيباً؛ لأنّه متفوّق، فتخيّل
ألّا يتحقّق ما طلب.. لقد كانت مسؤوليةً جسيمة، أعانني الله عليها، ومؤسسة الشهيد،
فضلاً عن الشهيد نفسه الذي كان قد زرع ثمار تربيته الصالحة في نفوس أولاده، فصاروا
كما أراد. نجيب وهادي أصبحا طبيبين، وحسين في مجال الهندسة، فيما علي الصغير يكمل
تحصيله العلمي، ومحمد يعمل كما أراد والده. وفي المجتمع يسعون إلى المحافظة على
سمعة والدهم، بكلّ ما أوتوا من عزم، كي يليق بهم حمل اسم: الشهيد وجيه طحيني"، تقول
زوجة الشهيد طحيني.
* الشهيد بركة الحياة بأسرها
تتشارك زوجة الشهيد علوية مع زوجة الشهيد طحيني "في صعوبة الحفاظ على وصايا الشهداء.
فليس من السهل أبداً أن تربّي أيتام شهيد، فقدوا فجأة والدهم الحنون العطوف الذي
كان كلّ شيء بالنسبة إليهم. تعرّضنا لصعوبات كثيرة، لكنّ الشهيد كان معنا. كان وما
يزال بركة البيت والدار والحياة بأسرها، إذ تُحلّ جميع العُقد والمصاعب عبر ألطاف
إلهيّة لا نفقهُ سرّها.. لم يكن من السهل إقناع أحد أولادي بالحفاظ على طلب العلم
إلى جانب خطّ المقاومة، وبفضل الله هم الآن يكملون تحصيلهم العلميّ في الجامعات دون
أن يكونوا بعيدين عن خطّ والدهم الشهيد".
*كتاب المراقبات والشهيد علوية
كتاب "المراقبات" كان نديم الشهيد هلال علوية وصديقه أينما حلّ، سكنته أمنية أن
يلخّصه بطريقة تُسهّل الاطلاع عليه وقراءته فيستفيد الجميع من بركات محتواه. رحّبت
زوجته "أمّ محمّد" بالفكرة، وبدآ العمل الذي استغرق منهما سنوات، و"هلال" يشرف على
وضع العناوين ويقترح أشكال الخطوط وحجم الصفحات وغيرها من الأفكار التي تعكس عمق
ثقافته وخبرته التربوية الثقافية.
بعد نصر تمّوز، كان الحاج هلال مفقود الأثر (قبل العثور على جثمانة بفترة طويلة).
تخبرنا زوجته أنّ همّها كان في تلك الفترة أن تُكمل العمل في الكتاب؛ كي تحقّق
أمنيته، فنُشر ملخّص (المراقبات) عام 2007م، وفي مقدمته "إليكم يا بناة مجدنا
الوضّاء، ولا سيّما أنتم يا من لم يحوكم قبر ولا لفَّ جسدَكم كفن، ولم تحملكم أكف"...
هكذا حمل الإهداء اسمه بين السطور..
* مداد دمائه شهداء
ومن منزل الشهيد محمد علي شرارة، ذلك الشاب الذي لم يتزوج ويُنجب أولاداً، كي يكتب
وصيّته، يأتي السؤال: كيف حُفظت آثار هؤلاء الشهداء؟ فيأتي الجواب: "عاش مع الشهيد
محمد علي الشهيدان السعيدان مهدي وعلي ياغي، فكانوا جميعاً روحاً واحدة وقلباً
واحداً، وبعروج محمّد علي إلى الجنان، التحق مهدي بخطّ المقاومة، وكذلك فعل أخوه
علي، تأسّياً بصديقهما ونديمهما الشهيد، "فكان مهدي وعلي أنيسَيْ وحبيبَي قلبي..
يهتمان بي كأنّي أمّهما، حتى ناداهما محمد علي واحداً تلو الآخر.. مهدي وعلي ياغي
هما امتداد لدم محمد علي، كما كلّ شهداء العقيلة عليها السلام الذين هم امتداد لمن
قبلهم من الشهداء. جميع الشهداء أحياء يرزقون، يروننا ويسمعون حديثنا، ويدفعوننا
للشعور بوجودهم في مواضع وأوقات عديدة، ولا يغيبون عن أدقّ تفاصيلنا، والأهمّ أنّهم
مطمئنّون من أنّنا نسير على نهجهم في حفظ وصاياهم". تختم والدة الشهيد شرارة.
*"علي" الذي لم يرَ والده
"علي محمد سرور" عمره بعمر نصر تمّوز 12 عاماً. هو نموذج عن أطفال لم يروا آباءهم
إلّا في الصور. "كان ابن شهرين في نصر تموز، حيث فقد أباه، فصار في عمر الأشهر "يناغي"
أباه في الصورة، وفي عمر العامين يسألني: لماذا لا يتصل بنا بابا هاتفيّاً؟ أريد أن
أسمع صوته"، تقول أمّ علي زوجة الشهيد سرور. وتضيف: "لقد أوصاني محمد في وصيّته
المكتوبة بولدنا الوحيد علي، أن أربّيه تربية حسنة حتّى يكون خلوقاً، متعلّماً،
مجاهداً، يقاطعها "علي" قائلاً: "وشهيداً مثل أبي".
ماذا يعرف "عليّ" عن أبيه؟ يفكّر بحرارة ويجيب: "تقول أمّي إنّ أبي كان حسن السمعة
والأخلاق، قائداً شهماً في الكشّافة، يهتمّ بالجميع ويسعى إلى تنمية مواهب الأطفال
والناشئة. وأنا فخور به، وأحبّه كثيراً وسأكون مثله".
تقول الوالدة، إنّ تربية ولد لا يعرف أباه مهمة صعبة للغاية، كيف تقنعه أن أباه لن
يأتي، لن يكلّمه؟ "لكنّ المعين على هذا الامتحان بعد الله كان الشهيد نفسه، الذي
نشعر به وبوجوده معنا، وأنّه يرعانا ويزورنا دوماً، ونحن سنظل على طريقه. هناك
بركات لكونه ارتقى شهيداً، أهمّها أنّني أراقب حرص ابنه على أن يعرفه، أن يكون مثله،
في صلاته، صدقه، حبّ الآخرين له. نعم، لم يرحل الشهيد حتى ترك لابنه ذخراً كبيراً
من القيم والمميزات، وشهادته زرعت حباً وحرصاً وشوقاً في ابنه. أنا مطمئنة على ابني
عليّ".
(*) "تُعنى جمعية مؤسسة الشهيد بتقديم الرعاية الشاملة لأسر شهداء المقاومة، في الجوانب الثقافية والتعليمية والسكنيّة والاجتماعية، سعياً لبناء أسرة مؤمنة مستقرة، كما تعنى بتقديم الرعاية المادية والصحية لأهالي الشهداء، بما يكفل حفظ مكانة ومعنويات عوائل الشهداء، وترفد المجتمع بالطاقات والكفاءات المميزة من أبناء الشهداء".