الشيخ بلال حسين ناصر الدين
كان تبادل الآراء ونقدها فيما مضى، مقتصراً على فئة معيّنة من الناس، كلٌّ حسب علمه واختصاصه، فكان من ينتقد كتاباً أو رأياً، هم أولئك المتخصّصون بما يتضمّنه هذا الكتاب أو هذا الرأي، أكان مرتبطاً بالشأن الفكريّ أم الدينيّ أم السياسيّ أم الفنيّ أم غير ذلك. وكان النقد منحصراً في وسائل محدّدة، كأن يكون من خلال كتابٍ، أو ندوةٍ، أو مؤتمرٍ، أو برنامجٍ تلفزيونيّ هنا، أو مسرحيّة هناك.
إلا أنّ الحال اليوم قد تغيّر بشكل لافت، وذلك مع تنامي دائرة التواصل والاتّصال وتوسّعها عبر شبكات الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعيّ. ولم يعد إبداءُ الرأي ونقدُه منحصراً بتلك الوسائل المعدودة، بل صار متاحاً لعامّة الناس، المتخصّص منهم وغير المتخصّص، ما جعل النقد أوسع دائرة وأشمل، ليصبح من له باع ومن ليس له باع في ما ينقده، يبدي رأيه ولو كان باطلاً.
ولا بدّ إزاء ذلك من أن نبيّن أنّ للنقد آداباً يجب أن يتنبّه لها المرء ويتقيّد بها في تعامله مع الآخرين وآرائهم؛ كي لا يقع في مغبّة الإفساد بدل الإصلاح، أو في مغبّة الفضيحة بدل النصيحة.
إنّ النقد في الأصل أمرٌ ممدوح وله إيجابيّات جمّة، وهو ما إذا كان نقداً بنّاءً، أي مقوِّماً للخطأ ومبيِّناً للباطل من الرأي. ويبقى النقدُ بنّاءً شريطة أن لا يختلّ أحد شروطه وأركانه، وأول شروطه أن يكون عن علم ومعرفة، فلا ينتقد المرءُ ما لا علم له فيه، قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ (الإسراء: 36)، وكذلك أن يكون بدافع النصيحة التي أمر بها الإسلام، والتي عدّها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أعظم منزلة للإنسان، حيث قال: "إنّ أعظم الناس منزلةً عند الله يوم القيامة، أمشاهم في أرضه بالنصيحة لخلقه"(1). والنصيحة هنا تعني الحبّ والحرص على الآخر، لا بدافع فضيحته، كما يظهر من أولئك الذين إذا ما رأوا رأياً مخالفاً لأهوائهم، يبادرون إلى النقد بشكلٍ غير سويّ، وبدل أن يوجّهوا سهام نقدهم إلى الرأي نفسه، فإنّهم يوجّهونه إلى صاحب الرأي بشخصه، وكأنّ ثمّة ثأراً بينهم وبينه ويودّون الاقتصاص منه! وربّما يصل الحال بهم إلى التعرّض لعِرضه وهتكه وإهانته وتوجيههم ألفاظ فحش وبذاءة بحقّه. هذا في الواقع من أقبح ما نشهده عند بعض روّاد مواقع التواصل الاجتماعيّ، ممّن لا يراعون حرمةً لدين ولا كرامةً لإنسان! وكلّ ذلك تحت عنوان النقد كما يدّعون، وهو أبعد ما يكون عن النقد أو حقّ التعبير عن الرأي.
وثمّة نوعٌ من النقد الذي درج، أشبه ما يكون بالثرثرة، في أمور لا حاجة إلى نقدها والتدخّل فيها من الأساس. وقد روي أنّ الإمام عليّاً عليه السلام مرّ برجل يتكلّم بفضول الكلام، فقال له عليه السلام: "إنّك تُملي على حافظيك كتاباً إلى ربّك، فتكلّم بما يعنيك ودع ما لا يعنيك"(2). فلا ينبغي للمرء أن ينتقد كلّ ما يراه أو يسمعه، سوى ما كان في السكوت عنه خطر على دين الناس أو على أمنهم أو فكرهم، وإلّا فالأمور البسيطة غير الضروريّة لا ينبغي أن تكون مورد انتقاد دائم. وأن ينتقد أحدهم رأياً، يعني أن يتقيّد بآداب النقد، من علمٍ ومعرفةٍ وحسنِ أدبٍ وأخلاقٍ وحدودٍ شرعيّة، وأن لا ينساق مع ما أصبح دارجاً من تهتّك واستهتار بكلّ هذه الضوابط والمبادئ؛ لكي لا يتحوّل نقدنا إلى فضيحة فحسب.
(1) الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 208.
(2) الشيخ الصدوق، الأمالي، ص 85.