السيد بلال وهبي
لا نجانب الحق إذا ما قلنا إن الاستشارة وإسداء المشورة لطالبها من أقدم ما عرفه الإنسان في تاريخه الطويل. فما من امرئ وقف موقف الحيرة، أمام قرار يريد أن يقرّره، أو خيارات يريد أن يختار واحداً منها إلا وتراه يلتجئ وبشكل تلقائي إلى من يملك رأياً أو تجربة. يستوي في هذا كل بني الإنسان كبيرهم وصغيرهم، عالمهم وجاهلهم. وقد امتدت مساحة الاستشارة والمشورة لتطال كل شيء يعني الإنسان، بدءاً بأموره الشخصية ووصولاً إلى الأمور التي تعنى بإدارة المجتمعات والشعوب والدول.
* الاستشارة في الإسلام
أولت الشريعة الإسلامية الغرّاء اهتماماً بالغاً بالشورى، وتضافرت الآيات والنصوص للدلالة على أهميتها، وحضت المسلمين على التشاور فيما بينهم فيما يتصل بشؤونهم المختلفة، بل اعتبرت الشريعة الغرّاء الشورى من خصائص الجماعة المؤمنة، وصفة إيجابية تتصف بها إلى جنب الصفات الأخرى التي تميّز الجماعة المؤمنة عن غيرها، ما يفضي إلى خيريتها وأفضليتها. قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ (الشورى: 38). فالجماعة التي يتشاور أفرادها فيما يهمُّهم لينتقوا أصوب الآراء، هي جماعة مرحومة مرعية برعاية ربانية، لأن الله تعالى ربما فتح على لسان أحد أفرادها حتى وإن كان ينظر إليه على أنه ليس على شيء، فعن الحسن بن جهم قال: "كنا عند أبي الحسن الرضا عليه السلام فذكر أباه عليه السلام يعني الإمام الكاظم عليه السلام فقال: كان عقله لا توازن به العقول، وربما شاور الأسود من سودانه، فقيل له: تُشاور مثل هذا ؟ فقال: إن الله تبارك وتعالى ربما فتح على لسانه" (1).
* دور الفرد في الجماعة
إن الفرد مهما علا شأنه في العلم والمعرفة يبقى محدوداً؛ لأن المعرفة والعلم يتطوران بسرعةٍ هائلة، وما يغيب عنه من الوقائع أكثر بكثيرٍ مما يعرفه، مما يضطره إلى سؤال أهل الرأي والعودة إلى أهل الخبرة في المجالات التي يملكون رأياً فيها وفي مجرياتها. والفرد أياً كان شأنه في المجتمع، فإنّ من أهمّ حاجاته ما يسمّى بتحقيق الذات. وتحقيق الذات هو أن يكون صاحب رأي، تعود إليه الجماعة وتستشيره وتقف على رأيه. وحين يتم للفرد هذا، تراه يذوب في الجماعة وينخرط فيها إلى الحد الأبعد، لتصبح أهدافها أهدافه وهمومها همومه. وإذا وصل الفرد إلى هذا المدى كان على استعداد لأن يعطي للجماعة ما تحتاجه في مسيرتها من تضحيات. وهذه إحدى بركات الاستشارة لأنها تحمّل المشير المسؤولية وتجعله منخرطاً فيما أبدى فيه الرأي.
* أهل البيت عليهم السلام والاستشارة
نجد في السيرة العملية لرسول الله صلى الله عليه وآله أنه كان يستشير أصحابه، وهو المعصوم المؤيّد من الله تبارك تعالى. لكنه كان يريد أن يدل الأمة على أهمية الاستشارة من خلال سيرته الشريفة، لأنه صلى الله عليه وآله إن كان مؤيداً من عند الله بالوحي والروح القدس فإن الأمة يؤيّدها الله باجتماع أفرادها على بعضهم وسؤال بعضهم بعضاً. قال ابن إسحاق: "إن الحباب بن المنذر بن الجموح قال عندما نزل رسول الله صلى الله عليه وآله منزلاً ببدر: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكم الله، ليس لنا أن نتقدّمه ولا نتأخّر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال الخباب: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء للقوم فننزله، ثم نغور ما وراءه من القلب، ثم نبني حوضاً فنملؤه ماءً، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: لقد أشرت بالرأي، فنهض رسول الله ومن معه من الناس، فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه" (2).
وهناك عشرات النماذج التي تقدمها السيرة النبوية الشريفة في هذا المجال. وفي سيرة الأئمة الأطهار عليهم السلام نجد عناية فائقة بالاستشارة. فمن خطبة لأمير المؤمنين علي عليه السلام خطبها لما استشار المهاجرين والأنصار في المسير إلى الشام حيث دعا إليه من كان معه فحمد الله وأثنى عليه وقال: "أما بعد، فإنكم ميامين الرأي... وقد أردنا المسير إلى عدونا وعدوكم، فأشيروا علينا برأيكم (3). وكان عليه السلام يحث أصحابه على إبداء آرائهم وبذل مشورتهم له فيقول: "فلا تكلِّموني بما تُكلَّمُ به الجبابرة، ولا تتحفظوا مني بما يُتحفظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنُّوا بي استثقالاً في حقٍ قيل لي، ولا التماس إعظام لنفسي، فإنه من استثقل الحق أن يقال له، أو العدل أن يعرض عليه، كان العمل بهما أثقل عليه، فلا تكفُّوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل، فإني لست فوق أن أخطئ، ولا آمن ذلك من فعلي، إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني" (4). وعن علي بن مهزيار قال: "كتب إليّ أبو جعفر (يعني الإمام الباقر عليه السلام) أن سَلْ فلاناً أن يشير عليَّ، ويتخير لنفسه، فهو أعلم بما يجوز في بلده، وكيف يعامل السلاطين، فإن المشورة مباركة، قال الله لنبيه في محكم كتابه:﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ﴾ (آل عمران: 159) فإن كان ما يقول مما يجوز كتبت أصوِّب رأيَه، وإن كان غير ذلك رجوت أن أضعه على الطريق الواضح إن شاء الله" (5).
* إلزامية الاستشارة لولي الأمر
الشورى كبقية الأحكام الربانية التكليفية تنقسم إلى الأقسام الخمسة المعروفة. فالاستشارة لولي الأمر واجبة، وهي الشورى في الشؤون العامة للمجتمع، وهي الشؤون السياسية والاقتصادية وقضايا الحرب والسلم وعقد التفاهمات والاتفاقيات الدولية والشؤون الإدارية وغير ذلك مما يتصل بحركة الأمة أيضاً. ويدل على ذلك قوله تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ (آل عمران: 159). ووجوب الشورى على ولي الأمر لا يعني أنها تكون ملزمة له، لأن الوجوب شيء والإلزام شيء آخر، فعلى ولي الأمر أن يستشير أهل الرأي والاختصاص ثم له أن يعزم على الأمر الذي يراه صواباً، وهذا ما دل عليه قوله تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ﴾. وفي نهج البلاغة ما يؤيد ذلك؛ فحينما اعترض ابن عباس على الإمام علي عليه السلام في معركة صفين، قال له الإمام عليه السلام: "يا ابن عباس، لك أن تشير عليّ وأرى، فإذا عصيتك فأطعني" (6).
* منهج حياة
إنّ التشاور منهج له علاقة بوحدة المجتمع، وتماسكه، وارتباطه بالقيادة، وليس مجرّد قضية أخلاقية لتطييب النفوس والخواطر، بل وجوبه بالنسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله مع العلم بعدم الحاجة إليه في التعرف إلى الحقائق الموضوعية يدلّنا على أنّ هذا الحكم هو لأجل هدفين، موضوعي وتربوي، هما: قوة علاقة المجتمع بالقيادة وتلاحمه معها، وتربيته على هذا النهج والأُسلوب وإعداده لتحمل المسؤولية على أساس هذا النهج. ويتضح ذلك بملاحظة صدر الآية الكريمة ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَـاوِرْهُمْ فِي الأَمْـرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾، حيث فرع العفو والاستغفار والاستشارة على قضية اجتماع الأُمّة والناس حول القيادة، وتعامل القيادة معها، فهذا النوع من التعامل يرتبط بشيء ضروري ولازم للقيادة والمجتمع. ومن الواضح أنّ هذا الشيء الأساس هو لحفظ وحدة المجتمع وتماسكه وارتباطه بالقيادة.
* أبعاد ومميزات
ويجدر بنا أنْ نشير إلى بعض الأبعاد السياسية، والمميزات الأساس في القرآن الكريم والسنّة الشريفة بالنسبة إلى المحتوى والمضمون في نظام الشورى. فالشورى تمثّل في نظر الإسلام أفضل ضمان لاستقرار الحكم وتوطيد دعائمه. ولا شك أنّ قضية الاستقرار في الحكم والقوة من أهم وأفضل العوامل التي تساعد على أداء الدور الحقيقي الذي يجب أن تقوم به الولاية والدولة، وهو خدمة الناس وتوفير أسباب الرفاه والتقدم والعزة والكرامة، والأرضية المناسبة للتكامل والارتقاء والتزكية والتعليم. وهذه القوة والدعم قد تنبع أوّلاً: من التوصل خلال التشاور إلى أفضل الأساليب في معالجة المشكلات التي يواجهها المجتمع، أو تطويره وتنميته ودفعه في طريق التكامل. وقد تنبع ثانياً: من المشاركة الحقيقية للأُمّة في بناء المجتمع وحماية الدولة والحكم، والدفاع عنه وتحملها للمسؤولية تجاهه. فقد ورد عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام فيما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وآله علياً عليه السلام قال: "...لا مظاهرة أوثق من المشاورة، ولا عقل كالتدبير" (7). كما أنّ الشورى تمثل في نظر الإسلام الحزم في اتخاذ القرارات وتنفيذها، حيث يشعر الإنسان من خلال المشورة بالاطمئنان والركون إلى الموقف بعد أن اتضحت لديه الصورة الكاملة عنه. عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام، عن أبيه محمد بن علي الباقر عليه السلام قال: "قيل يا رسول الله، ما الحزم؟ قال: مشاورة ذوي الرأي واتّباعهم" (8). والبعد الثالث الذي يمكن أنْ يعتبر من أهم مميزات الشورى وأوضحها خصوصاً في النظرية الإسلامية هو أن الشورى تعتبر أفضل الطرق لمعرفة الواقع على مستوى الأُمّة. عن أمير المؤمنين عليه السلام: "من استبد برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها" (9). وعنه عليه السلام: "الاستشارة عين الهداية" (10). والبعد الرابع للشورى هو دورها في توطيد العلاقة بين القيادة والأُمّة، الأمر الذي ينتهي بنا إلى وحدة القيادة والأُمّة. وهذا من أهم الأسباب والعوامل التي تجعل المجتمع قادراً على مواجهة مختلف المشاكل والصمود أمامها والنمو والتطور المستمر.
(1) وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 12، ص 45.
(2) السيرة النبوية، ابن هشام، ج 2، ص 452.
(3) نهج البلاغة، الشريف الرضي، ج 1، خطبة رقم 116، ص 230.
(4) م. ن، ج 2، خطبة رقم 206، ص 201.
(5) وسائل الشيعة، م. س، ج 12، ص 45.
(6) م. ن، ج 4، حكمة رقم 321، ص 76.
(7) المحاسن، البرقي، ج 1، ص 17.
(8) جامع أحاديث الشيعة، السيد البروجردي، ج 16، ص 79.
(9) نهج البلاغة، م.س، حكمة رقم 161، ج 4، ص 41.
(10) م. ن، حكمة رقم 211، ج 54، ص 48.