الشيخ محمد يزبك
لعب الإعلام على مرّ التاريخ أدواراً مختلفة. سلباً وإيجاباً؛ فقد كان الوسيلة لإيصال صوت الحق عبر الرسل والأنبياء العظام عليه السلام الذين دعوا إلى الخالق جلّ وعلا حيث دفعوا الكثير وهم يتحمّلون مهمّة الإعلان والإعلام بالنسبة لدعوتهم، فيما كانت الدعوة المضادة من قبل قوى الكفر والطاغوت والإعلام الذي يحمل النفاق والكذب وتشويه الحقائق تبعاً للشيطان لضال والمضل. ولكن تلك التأثيرات كانت على قدر الساحة التي كان يصلها ذلك الإعلام، لأن وسائله كانت بسيطة ومحدودة الانتشار.
وتطور الإعلام وأخذت أبعاده بالاتساع مع تطور أساليبه حتى بلغ ذروته في عصرنا الحاضر ودخل كل زاوية من زوايا البيت، فلم تمنعه بحار ومحيطات ولا جبال وأودية ولا صحار وقارات بل أصبح الغرب أدنى إلى الشرق والشرق أدنى إلى الغرب بالنسبة لكل منهما، ووسائل الاتصال غدت سريعة جداً وسهلة التناول. وأقمار صناعية وغيرها من وسائل مرئية ومسموعة ومكتوبة، حيث بإمكان الإنسان أن يجلس في بيته ويتابع العالم صورة فصورة، ويطلع على الخصائص ويدخل المكتبات والأماكن المحظورة، فلا عين الرقيب ولا قدراته قادرة على المنع بعدما تحول العالم اليوم. كما قالوا ـ إلى قرية صغيرة، وبذلك أضحى الأعلام أمضى سلاح يستخدم في عصرنا ـ يقرب البعيد ويبعد القريب ويغيّر الحقائق. وأمام هذه المعطيات، تحول الإنسان من إنسان مفكر ومتأمل ومبدع، إلى إنسان متلق بعدما أصبح كل شيء يصله جاهزاً، إذ ثمّة من يفكر عنه ويخطط له ويوجه الأمور بالاتجاه الذي يريده ويديره مالك لعبة الأعلام والمتحكم بها.
الأعلام من أهم الوسائل التي اعتمدها المستكبر المتسلط للهيمنة على العالم. وفي بنود (بروتوكولات، "حكماء" صهيون) بأن الخطة هي السيطرة على الأعلام بعد السيطرة على المال، وهذا كفيل بالسيطرة على العالم ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، وما طرح "العولمة" اليوم إلاّ لسيطرة الأقوى الذي يتحكم بمصير الآخرين، يصنع الحياة والعيش والتربية في المجال الاقتصادي والسياسي بدل الحوار والاشتراك في صياغة الحياة والمجتمع. فإنسان هذه القرية المعلّبة بالعولمة أصبح مملوكاً ومصادراً إعلامياً غارقاً في الشكل الخالي من أي مضمون خاص، بل الشكل أصبح هو المضمون بالنسبة للإنسان الذي تقوم حياته على الاستهلاك المحض وعلى اللذة والمتع الحسية حيث لا مضمون يغذي الحضارة ويقوم على القيم. وهذا بخلاف الصيغة العالمية وانفتاح الإنسان على أخيه، والحضارات بعضها على بعض، فإنها لغة التعارف القائم على الحوار واحترام الأفكار والطروحات. فالتعارف يكون بتبادل الآراء والخبرات من خلال الحوار والاتصال، بخلاف العولمة القائمة على السيطرة والأعلام الإعلاني الذي لا مكان فيه للحوار، بل هو قائم على الإصغاء والتلقي حيث لا شخصية ولا وجود خارج دائرته وحيث يتم تعليب الإنسان كباقي السلع ودمغه بالماركة المسجلة للنظام القيمي للعالم الجديد المشوّه.
وقد اعتبر الإمام الخميني قدس سره أن مجتمعاتنا قد تغرّبت ثقافياً واستوحت بذلك فطرة ثانية تتناقض مع فطرتها الأولى، حيث قال قدس سره: (إن علنا أن نتحمل المشاق والصعوبات لسنوات طويلة من أجل أن نتحول عن فطرتنا الثانية ونجد أنفسنا ونقف على أقدامنا، ومن أجل أن نستقل ولا نحتاج بعد ذلك إلى الشرق والغرب، ويلزمنا أن نبدأ من الأطفال ويكون هدفنا هو تحويل الإنسان المتغرّب إلى إنسان مسلم. إذا ما استطعنا أن ننجز هذه المسؤولية فلتطمئنوا أنه ليس بإمكان أي واحد أو أية قدرة أن تضرّ بنا، إذا ما نحن صرنا مستقلين من ناحية فكرية فكيف بإمكانهم أن يضرّوا بنا؟ (آيين إنقلاب إسلامي ص323).
والمصيبة العظمى هي عندما لا يرى الشخص أثراً لوجوده إلا بالتبعية للآخرين والاعتماد عليهم، والناتج عن الإعلام الموجّه وثقافة التشكيك بالذات والانتماء وسلب كل مواقع القوة والتحصين من بين يدي هذا الإنسان حتى لا يشعر إلاّ بالتبعية العمياء وبالتقلد دون تأمل، فلو أن المطر نزل في عاصمة من تلك العواصم لحمل مظلته في بلده وإن لم يوجد مطر في بلاده بعدما أضحى حاله كالشرط المنبه لذلك الحيوان الذي اعتاد أن يأتيه الطعام مع كل قرقعة بجرس فيسيل لعابه، ولكنه بعد فترة أصبح لعابه يسيل مع القرقعة ومن دون أن يكون طعام. والإمام الخميني قدس سره قال عن هذه الحالة السيئة التي وصلت إليها مجتمعاتنا: (وهذا الإحساس المفتعل بالخواء والتخلف العقلي أدى إلى أن لا نعتمد في أيّ أمر من الأمور على فكرنا وأن نقلّد الشرق والغرب تقليداً أعمى. بل إن الكتّاب والخطباء المهزومين أمام الشرق والغرب راحوا يسخرون ويستهزؤون بما عندنا من ثقافة وآداب وصناعة وابتكار ـ إن وجد عندنا ـ وبذلك استأصلوا أصالة فكرنا وقدرتنا ودفعونا ويدفعوننا إلى اليأس، وروّجوا بالفعل والقول والقلم والعادات والتقاليد الأجنبية على إبتذالها وفضاحتها وقدموها إلى الشعوب بالمدح والثناء (نص الوصية السياسية الإلهية للإمام الخميني قدس سره). (ص28).
وفي كلام آخر يحدّد الإمام المرض بضرس قاطع حيث يقول قدس سره: (وتعلمون أن العالم اليوم يدور حول محور الأعلام. ومن المؤسف أن من يُسمّون بالكتّاب المثقفين الذين تتجه ميولهم إلى أحد القطبين بدل أن يفكروا في استقلال وحرية بلدهم وشعبهم، لا تسمح لهم الروح الاستعلائية والانتهازية والاحتكارية لأن يفكروا لحظة وأن يأخذوا بنظر الاعتبار مصالح بلدهم وشعبهم) (نفس المصدر ص39). ويقول الإمام قدس سره: (إحدى مشاكلنا الكبرى في عهد الطاغوت أنّ قطاعاً من الناس صيّره في خدمته وخدمة الأجانب، واختار مجموعة منتخبة من هؤلاء الناس لإدارة المطبوعات وللدعاية ضد الإسلام والوطن ولكن بلباس ووجه إسلاميين ووطنيين. وأنا لا أعرف أن الصدمات التي تلقاها الوطن والإسلام من المطبوعات في عهد الطاغوت هي أعظم أم الصدمات الأخرى التي تلقيناها من بقية مؤسساته الطاغوتية؟ (آيين انقلاب إسلامي ص237).
وحديثنا عن بعض وسائل الأعلام وهو "التلفزيون" الذي قد يساهم في إفساد شبابنا كما قد يساهم في تنوير مجتمعنا وإيصال الحقيقة كسائر الوسائل الأخرى من مطبوعات و"راديو" و"سينما" ومسرح وغيرها، يدفعنا للاستماع إلى القول التالي للإمام قدس سره: (إن الراديو والتلفزيون الأشد فساداً قد جر شبابنا إلى مستوى من الفساد والانحطاط ليس من المعلوم أن مراكز الفساد والدعارة قد حققته).
ولا شك أن وسائل الإعلام ومن جملتها "التلفزيون" تساهم في تطوير المجتمع عندما تكون برامجها خاضعة لرقابة خبراء اجتماعيين ومثقفين يتوخون التعليم والتربية وإظهار كل ما لدى الآخرين من خير نافع يجعل العالم ينفتح على بعضه. والفقهاء تعرّضوا لهذه المسألة في بداية اختراع وصنع "الراديو والتلفزيون"، وبحثوها في باب "ما يجوز التكسب به"، وإن هذه المسألة هل هي من مصاديق ما كانت منفعة الحرام فيه أكبر أنه مما يترتب عليه الضرر الواجب عقلاً وشرعاً تجبه. وهل أن ذلك من مصاديق "شراء لهو الحديث" . وهل أنه من مصاديق "قول الزور" المنهي . وأيضاً هل هذا من الموارد التي شملتها رواية تحف العقول المنسوبة إلى الإمام الوارد فيها: (إنما حرّم اللَّه تعالى عليه السلام الصناعة التي يجيء منها الفساد المحض).
وقال الفقهاء إن هذه الوسائل (الراديو والتلفزيون) من الاختراعات المهمة والصناعات المتطورة التي يمكن الاستفادة منها، ولهذا قالوا بجواز إيقاع مبادلة واستخدام ـ بما يفيد وينفع ـ ما يجوز الاستماع والنظر إليه، وقد احتاطوا بالاشتراط على المشتري بعدم الاستعمال فيما لا يجوز.
وقد تساءل البعض عن الغاية من وضع القيود أمام هذا التطور العلمي، ولكن مبررات الفقهاء هو تحصين المجتمع وإيجاد المناعة تجاه الثقافة التي تضر بالأمة وكيانها ووجودها ومستقبلها وفكرها وعقيدتها. والفقهاء لم يستخدموا لغة المنع، وإنما استخدموا لغة المناعة، وبأدنى تأمل يكتشف الباحث البعد ما بين اللغتين.
واليوم أمام الواقع الذي نواجه فيه مفردة من مفردات وسائل الإعلام وهي "التلفزيون"، نحن بحاجة ماسة إلى تحصين مجتمعاتنا بثقافة الممانعة، وإلا فإن الخطر قادم وسوف لا يبقي ولا يذر، دون أن نُغفل أن "التلفزيون" فرض نفسه كضرورة من ضروريات الحياة التي يُنظر إلى الإنسان بدونها وكأنه يعيش في مجتمعاتنا التخلف والعصر الحجري. ولكن استخدام هذه الضرورة في كثير من الحالات خرج ن حدوده المعقولة لجهة تجريد الإنسان من خلقه وقيمه وثقافته وجعله كالريشة في مهب رياح ماسك اللعبة حيث الخواء المطلق، ممّا أثّر على أجيالنا تأثيراً لا يمكن إنكاره. ومن هنا نرى ضرورة العمل على إيجاد برامج بديلة تغذّي الروح وتركز العقيدة وتحيي الفكر بثقافة الأصالة والذات بعيداً عن التبعية والقوقعة، وبالثقافة المستقاة من ينابيعها الفطرية والجبلّية التي جُبل عليها الإنسان ليكون إنساناً كامل الإنسانية، وبثقافة المقاومة التي هي شريان الحياة والنَفَس المتجدد والمتأله في سماء الفضيلة والحرية والاستقلال وفهم دور الإنسان في حياته.
نحن بحاجة إلى وقف من الجميع في مواجهة الأعلام الذي يستخدم لإفساد مجتمعاتنا، وأن نتوجه إلى وسائله ونحمّلها المسؤولية عن اختيار ما هو الصالح والأصلح لبناء مجتمع ووطن وأمة من خلال بناء الإنسان ومخاطبة فكره ووعيه ووجدانه، بدلاً من أن تكون مجالساً للهو تقتل أوقات الإنسان وتشبع غرائزه بعيداً عن كل القيم مشدوداً إلى مشاهد لا يحصد منها إلاّ الخسارة والندم... نحن بحاجة إلى الصوت الإعلامي الموجه والمنطلق من الأسس السليمة، وإلى رقابة صارمة على البرامج ليتم تحصين مجتمعنا، مع السعي لإيجاد مناعة في هذا المجتمع، وهذا يتطلب المزيد من الجهود وأن يبذل العاملون وسعهم في هذا السبيل. هذا هو الدور الذي نراه للإعلام المرئي ولكل وسيلة إعلامية، وخارج هذا الإطار لا يوجد إلاّ الضرر الواجب دفعه.