اخرج إلى الضوء | عندما يكون القائد والداً للمجاهدين مهارات | المساندة النفـسيّة في الأزمات والحروب الملف | كيف نواجه إشاعات الحرب؟ الملف | بصبركنّ... ننتصر الملف | دعاء أهل الثغور: مدد المجاهدين الملف | الشهداء المستبشرون معالم المجتمع الصالح في نهج البلاغة الملف | قيم المقاومة آخر الكلام | تحت الركام.. الافتتاحية | الصبر حليف النصر

سير في وصية الإمام لابنه السيد أحمد: مانع الوصول إلى الكمال

أخلاق: وصايا الإمام إلى السالكين
السيد عباس نور الدين


"بني.. إنّ ما هو مذموم، وأساس ومنشأ جميع ألوان الشقاء والعذاب والمهالك، ورأس جميع الخطايا والذنوب إنّما هو حبّ الدنيا الناشئ من حبّ النفس..".
ذكرنا فيما سبق أنّ عشق الكمال المطلق أمر فطري جُبل عليه كلّ البشر. وقد فهمنا من خلال الفطرة أنّ الوصول إليه هو غاية الغايات. ولا يوجد أيّ هدف حقيقية وراء هذا الهدف. وإنّ هذا العشق هو المسؤول عن جميع التحركات والمساعي التي يقوم بها كلّ إنسان.


فلا ينطق بحرف أو يحرّك ساكناً أو يتمنّى أمنية إلاّ ويكون الهدف منها تحصيل الكمال. إلاّ أنّ معظم الناس يخطئون – بسبب أهوائهم واتباع شهواتهم – في تشخيص الكمال المطلق، ويظنون أنّ جمع الكمالات المحدودة يوصلهم إلى ما تصبو إليه نفوسهم. وبعبارة أخرى مشكلة هؤلاء الضالين أنّهم رأوا الدنيا المحدودة غايتهم واحتجّوا عن الحقيقة المطلقة.

إنّ تعلّق القلب بهذه الدنيا يكون سبباً لشقاء الإنسان وعذابه الأبدي. لأنّ من تعلّق قلبه بالمحدود، فقد تعلّق بالزائل الفاني. ويوم القيامة تنكشف له الحقيقة فيرى كلّ ما جمعه سراباً ووهماً: (لمن الملك اليوم لله الواحد القهّار).
على أنّ لهذا التعلّق منشأ هو حب النفس. وفي الأصل لا معنى لحبّ الدنيا بمعزل عن حبّ النفس. وكما يقول الإمام، فإنّ المذموم هو الأنانية وحبّ النفس، وهو يظهر بصورة حب الدنيا.
إنّ المعنى الدقيق للدنيا هو ذلك التعلّق الذي ينشأ بين الإنسان ومشتهياته. أمّا الأرض بما عليها من جبال وأنها وكائنات فهي ساحة كمال الإنسان ومظهر عظمة الرحمان.
وإذا أدرك الإنسان هذه النقطة بشكل دقيق فقد وصل في العلم إلى عمقه. وهذه موهبة إلهية: يختص برحمته من يشاء.

يقول الإمام قدس سره:
"إنّ عالم الملك ليس مذموماً في حدّ ذاته، فهو مظهر الحق ومقام ربوبيته تعالى، ومهبط ملائكته ومسجد ومحل تربية الأنبياء والأولياء (عليهم السلام) ومعبد تجلّي الحق على قلوب عشاق المحبوب الحقيقي".
ويمكن عدّ هذا الأصل – حب النفس منشأ جميع الأمراض والمشاكل العلامة الفارقة في المدرسة السلوكية العرفانية. وهي التي تميزها عن جميع المدارسة الأخلاقية العملية. وليس صحيحاً أنّ يقال أنّ علم الأخلاق مقدمة لعلم السير والسلوك. لأنّ علم الأخلاق. إن صحّ نعته بالعلم – يختلف من الناحية المنهجية عن علم السير والسلوك، وذلك في تحديد أصل المشكلة وجوهر الحل.
وبما أنّ هذه الأوراق لا تتسع للخوض في هذا البحث المهم، فإنّنا نوكل القارئ إلى مجال آخر. وإنّما استفدنا من هذه المناسبة الإشارة إلى هذه المسألة الجوهرية.

ثمّ يقول الإمام  قدس سره:
"فإذا كان حبّ "عالم الملك" ناشئاً من حبّ الله – باعتباره مظهراً له جلّ وعلا – فهو أمر مطلوب ويستوجب الكمال".
إنّ الوصول إلى الكمال المطلق يستلزم بادئ الأمر انبعاث حبّ الكمال المطلق في النفس، وسريان هذا العشق من الفطرة الكامنة واللاشعور إلى الشعور والأحاسيس والقلب المحرّك للإنسان. وبعيد جداً أن يحصل هذا الحبّ دفعة واحدة من دون أن يحبّ الإنسان مظاهره التي هي الكمالات المحدودة. وذلك بأن يحبّ كلّ مخلوق بما هو مظهر له جلّ وعلا، ومن خلال التدرّج في مراتب إدراك الكمال وحبّه يصبح القلب مستعداً لنيل مقام حبّ الكمال المطلق. لهذا قال الإمام أنّ حبّ عالم الملك يكون مطلوباً بذلك الشرط.
وإذا أردنا تحرّي المزيد من الدقّة نقول أنّ الواصلين ينقسمون إلى فئتني. فئة أدركت أول ما أدركت الكمال المطلق وهي المسماة بفئة المجذوبين السالكين الذين جذبوا بالجذبة الإطلاقية وسلكوا تعبيراً عن هذه الجذبة (وهم الأنبياء والأئمة عليهم السلام)، وفئة أخرى يسلك أصحابها ويعبرون مراتب الكمال للوصول في النهاية إلى الكمال المطلق.

وحديثنا يدور حول الفئة الثانية التي يحتاج أهلها إلى التدرّج والعبور من المحدود إلى المطلق. وهنا إذا لم يكن السالك قادراً على إدراك الكمال المحدود وحبّه في كونه مظهراً وآية تدلّ على المحبوب الأوحد، فإنّه لن يقدر على الوصول إلى ذلك المقام النهائي. وقد ذكر لنا أستاذنا يوماً أنّ سالكاً قال لأستاذه: لقد عشقت الله. فبادره الأستاذ سائلاً: لا. قال الأستاذ: إذاً لم تعشق اله. ويمكن فهم المقصود من هذا الكلام على ضوء ما تقدّم. فإن عشق النساء كمظهر لله تعالى من أصعب المراتب وأعلى الخصال. ولا يصل إليه إلاّ ذو حظّ عظيم. لأنّ المرأة تمثل من جانب آخر أكبر مظهر للدنيا المذمومة. ويندر أن يتعلّق قلب الرجل بامرأة في المظهر الآخر لها. ولعلّ هذا الأمر أشير إليه في حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "أعطينا أهل البيت سبعاً لم يعطهن أحد كان قبلنا ولا يعطاهن أحد بعدنا: الصباحة والفصاحة والسماحة والشجاعة والعلم والمحبّة في النساء" (البحار/ج69).
والكمال الأرضي في غاية التنوّع والتكثر، يظهر في أطواء السماء وآفاق الأرض وأعماق البحار، وفي الكائنات والعلاقات. والإنسان المحجوب عن رؤية هذا الكمال والجمال لن يقدر على المسير نحو الكمال اللامحدود.

وفي المقابل نجد البشر يعبثون كلّ يوم في هذا النظام البديع ويتلفون أشكال الجمال الطبيعي والبشري: (ظهر الفساد في البرّ والبحر بما كسبت أيدي الناس). ونجد أنفسنا وقد اعتدنا على هذه الفوضى وهذا العبث الذي يطال كلّ شيء، ويطال فطرتنا الصافية فيلوثها ويطفئ نورهان حتّى نصل إلى درجة نجد معها كلّ هذا الحديث غريباً أو خيالياً. لقد توعد إبليس لعنه الله وخطّط للقضاء على الفطرة التي تمثّل طريق ووسيلة الاتصال بعالم الغيب، وقد نجح مع أكثر الناس، يقول الله سبحانه وتعالى حاكياً عن إبليس اللعين:  ﴿وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا﴾.

ثمّ يقول الإمام  قدس سره:
"أما إذا كان منشأ حبّ "عالم الملك" حبّ النفس فهو رأس الخطايا جميعاً، فالدنيا المذمومة في داخلك أنت، والتعلّق بغير صاحب القلب هو الموجب للسقوط..".

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع