مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

أحبُّ عباد الله(2): من تغلّب على نفسـه

آية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي

ينبغي للإنسان العاقل أن يضبط ميوله ويضع حداً لرغبات نفسه حتى لو استوجب ذلك أن يقسو عليها ليصل إلى هدفه المنشود في طي مسيرة الكمال.

لا شك أن العوامل الداخلية والخارجية تبعث على الإكثار من الميول والرغبات السيئة لتثني الإنسان عن طيّ ذلك المسير ممّا يصعّب، بالتالي، عمليّة المواجهة، ولذا عبّر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن النّفس بقوله: "أعدى عدوّك نفسُكَ التي بين جنبيك"1.
ويحدثنا الله تبارك وتعالى عن مدى تأثير النفس الأمارة في التحريض على الشهوات وتزيين الدنيا بقوله عزّ من قائل: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (آل عمران: 14). وهنا يطرح السؤال التالي: لماذا أوجد الله تعالى فينا أرضيّة الانحراف والتغافل؟ ولماذا أودع الله فينا ميول الشرّ ورغبات الباطل؟ والجواب هو أن إرادة الله ومشيئته اقتضت إبداع خلقٍ مخيّر، يتمتّع بالعقل والقدرة على اختيار ما يريد، ثم هداه السّبيل وخيّره بين النّجدين (طريق الخير وطريق الشرّ).

* قيمة الإنسان في اختياره
لقد أراد الله تعالى خَلقاً يجاهد نفسه ويطوي المسافات في عبوديّته له جلّ وعلا فيصل إلى الكمال وتصبح ملائكة السماء في خدمته، وفي النهاية يصبح لائقاً لينال مقام خلافة الله عزّ وجلّ.
إن الله خلق ملائكة لا يمكن إحصاؤهم. وكانت مهمة أولئك الملائكة عبادة الله فقط. ولم يكن يوجد أي نقص في عبوديتهم ليقال إنه خلق الإنسان ليجبر ذلك النقص. وقد جاء في رواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وصف الملائكة: "ما في السماوات قائم لا يقعد أبداً أو راكع لا يسجد أو ساجد لا يرفع رأسه" 2.
فالحكمة إذاً، خَلْقُ إنسان يختار بنفسه طريق الحق ويسلك بنفسه نهج الاستقامة فيصل إلى ربّه بعد أن يتغلّب على الشيطان وغرائز النّفس الأمّارة. وعليه فإنّ وعي وكمال الإنسان يكمن في وجود هذين العاملين، يأخذ أحدُهما الإنسانَ باتجاه الحق تعالى والآخر يجرّه نحو الشيطان اللعين. وحينما يبتعد الإنسان عن طريق الشهوات ويختار طريق الله ونهج العبودية لله، فإنّه لا بدّ سيصل إلى أعلى مراتب الكمال.
إنّ عظمة الإنسان تكمن في أنّه جُعل مخيراً ولو لم يكن أمام الإنسان خيارات سوى طريق واحد هو طريق الحق (أي أنّ عوامل الشهوة غير موجودة فيه) إذاً، لفقد هذا الإنسان قيمته وعظمته.

* عوامل محفّزة للكمال الإنساني
سبق أن قلنا إن الله تعالى أودع فينا ميولاً وغرائز إن لم تُضبط فإنها تُسقط في الخطيئة، وجعل في مقابلها عوامل ودوافع تسمو بالإنسان نحو الكمال والسعادة. وهذه العوامل أكثر وأقوى من تلك التي تسوق نحو الذنوب.
ومن ضمن تلك العوامل المساعدة، الملائكة الذين يحملون عرش الله عزّ وجلّ وهم لا ينقطعون عن تسبيحه والاستغفار للذين آمنوا. قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (غافر: 7).
وأيضاً من جملة تلك العوامل التي تحفز الإنسان على طلب الكمال، الأجر والثواب المضاعف الذي أعدَّه الله عزّ وجلّ لمن عمل خيراً ﴿مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ(الأنعام: 160).

* أنتم الفقراء إلى الله
اتضح فيما سبق أن المراد من النفس التي ورد ذكرها في أول خطبة أمير المؤمنين عليه السلام ما هو إلا الميول والرغبات، وأن الوصول إلى الكمال الإنساني لا يتم إلا بعد مجاهدة النفس... ولكن هل باستطاعة الإنسان مجاهدة نفسه مستقلاً، أي بالاتكال على قواه الذاتية فقط؟ والجواب حتماً كلّا.
فإنّ السرّ في عدم استقلالية الإنسان بمحاربة ميوله الفاسدة وقوى الشر يكمن في أنّه لا يملك من نفسه لنفسه شيئاً، لا يملك لها نفعاً ولا ضراً، وكلّ ما لدى الإنسان هو من عند الله تعالى، وبالتالي فمن غير الممكن له أن يتغلّب على نفسه إلّا من خلال التوجّه إلى هذه الحقيقة وطلب الاستعانة بالله تعالى. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (فاطر: 15).

* الفناء في الله
والإنسان لا يملك لنفسه شيئاً. وإنّ كماله وغناه يتحقق عندما يعترف بهذه الحقيقة ويقرُّ بفقره وحاجته إلى الله، وهو ما يعبر عنه العرفاء بـ"الفناء في الله". وفي الواقع إنّ الوصول إلى تلك المراحل العالية لهذا المقام صعب جداً.
ولكن علينا أن نجتهد لتحصيل أول مرتبة من هذا المقام وهي الاعتراف بعجزنا وفقرنا.
فتكرار قراءة سورة الحمد بما فيها ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ يخلق فينا اعتقاداً وتصديقاً بعجزنا وفقرنا، ويدفعنا إلى طلب العون والمدد من الله وحده، والاعتقاد بأن لا شيء يتحقق إلا بمشيئة الله تعالى.

* كل شيء بإذنه
كثيرةٌ هي الآيات الكريمة والروايات الشريفة التي وردت لتنبّه الإنسان إلى هذه الحقيقة. فلا يمكن لشيءٍ من الأمور المعنوية والمادية أن يتحقق إلا بإذن الله. وقد ورد في بعض الآيات ما يدل على أن الموت أيضاً ليس باختيار الإنسان، وإذا لم يرد الله ولم يشأ له أن يموت فلا يموت، كقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً (آل عمران: 145). وفيما يرتبط بالأمور المعنوية كذلك، صرّح بعض الآيات بأنه لا يمكن للإنسان أن يؤمن إلا بإذن الله تعالى، وهكذا نصل إلى حقيقة واحدة مفادها: أن الله تعالى هو مدبّر الكون وكل شيء تابع لإرادته ومشيئته، ونحن في مجال بناء الذات وميدان جهاد النفس علينا أن نتّكل على الله وحده، وأن لا نطلب الاستعانة إلا منه وحده، وأن نعي جيداً حالة فقرنا وحاجتنا إلى الله تعالى.
وأيضاً فإنّ استحقاق التوفيق الإلهي متوقف على حسن الاستفادة من النعم الإلهية وبالخصوص النعم المعنوية، وبالتالي إيجاد أجواء مناسبة لتلقّي تلك الفيوضات الإلهية.


1  الوافي، الفيض الكاشاني، ج12، ص216.
2  بحار الأنوار، المجلسي، ج12، ص200.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع